نقلاً عن صحيفة العرب
تعد التجربة القصصية والروائية للناقدة والروائية المصرية مي التلمساني من أبرز التجارب التي انطلقت في تسعينات القرن الماضي واستقبلت بحفاوة من الكتاب والنقاد، حيث حملت مجموعة من الرؤى والأفكار المتجاوزة للسائد، خاصة في ما يتصل بالكتابة النسوية، سواء على مستوى موضوعات قصصها ورواياتها أو على مستوى شخصياتها وأفكارها ولغتها وطرائق سردها. وفي ما يلي حوار مع الكاتبة حول أهم أعمالها.
رغم انشغالات الروائية والناقدة مي التلمساني الأكاديمية بين كندا ومصر، إلا أنها استطاعت أن تبقي شعلة الإبداع متوهجة قصة ورواية وحضورا داخل المشهد الإبداعي العربي.
تقول التلمساني إنها بدأت رحلة الكتابة الإبداعية في عام 1990، وتضيف “كنت أقيم في باريس، وكانت الكتابة آنذاك غريبة عن حياتي ولم يكن بوسعي أن أتخيل أنها ستشكل مسارا مهما في تاريخي الشخصي والمهني. كنت في باريس من أجل إعداد أبحاث لرسالة ماجستير عن مارسيل بروست، الكاتب الفرنسي الشهير وأحد آباء الرواية في القرن العشرين. ووجدت نفسي فجأة أكتب بمنطق التواصل مع اللغة العربية بصفة عامة، وكأنني أقاوم بشكل أو بآخر وجودي في المجتمع الفرنسي”.
وتتابع التلمساني “بمرور الوقت أصبحت الكتابة هي المساحة الوحيدة الممكنة للتعبير ولممارسة حريتي دون أن أكون مضطرة إلى التواصل مع الآخرين. التواصل يأتي فيما بعد عندما ينشر الكتاب ويصبح له قراء. لكن لحظة الكتابة في حد ذاتها لحظة حميمية؛ لحظة عزلة وانسحاب. وأعتقد أن من حق الإنسان في عالمنا المجنون أن ينسحب إلى غرفته ويترك لنفسه فرصة تأمل ما يحدث، فقد يتيح الخروج من أسر الواقع إلى رحابة الخيال أن نكتب أعمالا يختلط فيها الخاص بالعام سواء على المستوى المحلي أو على المستويين الإنساني والعالمي وتتجاوز بذلك إشكاليات اللحظة الراهنة ولهاث الجميع وراء الأخبار والمعلومات بلا تأمل وبلا مراجعة”.
روايات لا تكتمل
توضح التلمساني أنها كانت تقول في بداياتها وهي تضحك إن الكتابة “بديل عن الطبيب النفسي”. وتتابع بقولها “كانت هذه نكتة وما زلت أعدها كذلك، لكن الهاجس الذي يختفي وراء هذه النكتة هو فكرة التحرر، فقد آمنت وما زلت أؤمن بأن الكتابة هي فعل تحرر، وأعتقد أن هذه الفكرة لازمتني على مدار نحو ثلاثين عاما من الكتابة الروائية والقصصية والنشر والانخراط في قضايا الأدب والثقافة”.
وتتحدث التلمساني عن روايتها “دنيا زاد” (1997) كاشفة أنها “رواية سيرة ذاتية”، وتقول في ذلك “الحدث الرئيس فيها هو فقد الأم لطفلتها أثناء الولادة، وهو حدث واقعي وذاتي، لذلك أرى أن البنية الرئيسية لهذا العمل قائمة على السيرة الذاتية، مما جعلني أصنف نقديا ككاتبة من جيل التسعينات معنية بالكتابة الذاتية. لكني لست متفقة مع هذا الرأي. فعلى سبيل المثال بنية روايتي الثانية ‘هليوبوليس‘ تستدعي بعض عناصر السيرة الذاتية دون أن تكون بالكامل سيرتي الذاتية”.
وتؤكد التلمساني أنه ثمة اختلافات كثيرة بين الوقائع التي تشير إليها في النص وبين حياتها الخاصة وطفولتها، ويرتبط هذا بكون شخصية الراوية طفلة. مهما بلغت دقة التذكر، لا يمكن أن يكون هذا الماضي مثلا ماضي “أناها” ككاتبة. في المقابل كتبت “دنيا زاد” بعد ثلاثة أيام فقط من موت الطفلة، وجانب السيرة طاغ في هذه الرواية نظرا إلى طبيعة اللحظة التي كتبت فيها.
تقول الروائية المصرية “اختيار اسم ‘دنيا زاد’، على الرغم من علاقته الوطيدة بشخصية الأخت في ‘ألف ليلة وليلة’، هو اختيار ذاتي بحت، فقد كنت أنوي أن أسمي طفلتي ‘دنيا زاد’. وفيما بعد، عندما قررت نشر هذا النص الذي ظل في الأدراج لمدة عامين، اخترت هذا العنوان لطرافته ولأن الشخصية الرئيسية فيه هي شخصية الطفلة الحاضرة الغائبة التي نراها تموت منذ أول سطرين في النص، والتي تحيا رغم ذلك في ذهن الأم الراوية وفي قلبها على مدار النص بالكامل، ما جعلني أفكر في تفسير هذا الوجود باستدعاء صورة ‘دنيا زاد’ في ‘ألف ليلة وليلة’ التي ظلت مختبئة تحت الفراش تستمع إلى حكايات أختها كشخصية حاضرة غائبة في الوقت نفسه“.
وتقر التلمساني بأن معظم ما تكتبه ملتصق بشق من حياتها اليومية، ربما على غرار كتابات الروائية الفرنسية آني إرنو، لكن حجم الخيال فيه “أكبر من الواقع”؛ فالحدث الذاتي “يصبح هنا متكأ للتفكير في احتمالات تطوره”.
وتضيف “أسأل نفسي كثيرا: ماذا لو حدث هذا أو ذاك؟ على سبيل المثال في ‘دنيا زاد’ موت الجنين واقع ينفتح على سؤال: ماذا لو كان فقد الابنة مدخلا لمشاعر فقد أخرى، مثل فقدان البيت أو وفاة صديق، وكلاهما لم يحدث في سيرتي الذاتية؟ أما في رواية ‘هليوبوليس’ فأتخيل حياة فتاة تدعى ‘ميكي’، ولدت مثلي عام 1965 وعاشت طفولتها في حي مصر الجديدة مثلي، لكنها تنخرط في سياقات لا علاقة لها مطلقا بسيرتي الذاتية، وخاصة سياق العلاقة بنساء العائلة ومعظمه متخيل”.
وعن “هليوبوليس”، رواية المكان والأشياء، تقول الكاتبة “هذه الرواية أيضا يمكننا أن نعدها رواية سيرة ذاتية، وإن كان حجم التخييل فيها كبيرا ومتشابكا. تدور أحداثها في الفترة بين 1970، عام وفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر، و1981 العام الذي اغتيل فيه الرئيس أنور السادات. وتتطور أحداثها من خلال منظور طفلة تحيا في بيت الأسرة الكبيرة المكونة من أمها وعمتيها وجدتها”.
وتضيف أن “هليوبوليس” (سنة 2000) رواية مفتوحة بالنسبة إليها ولم تنته فعليا، موضحة “أعتقد أني أحاول العودة لكتابة هذا العالم، وسأستمر في المحاولة ربما لزمن طويل قادم. في قصص ‘استعادة هليوبوليس’، التي صدرت ضمن مجموعة ‘عين سحرية’ عام 2016، كانت المحاولة هي استعادة مشاهد لم أكتبها في الرواية واستعادة زمن هليوبوليس في السبعينات من القرن العشرين، وهو زمن الرواية الرئيسي، وأيضا إفساح مجال لشخصية الأب وهو تقريبا غائب عن الرواية”.
وتتابع التلمساني “الجديد في اعتقادي هنا مقارنة بالرواية هو التركيز على فكرة ‘تاريخ النظر’ التي أختتم بها المجموعة، وهي تحية أيضا لأبي بشكل غير مباشر. تاريخ النظر هو تاريخ غير مكتوب يتقاطع مع تاريخ السينما المصرية ومع تاريخي الشخصي، ومع الحاضر الذي يجبرنا على ‘النظر’ إلى الأشياء وإلى الآخرين نظرة مغايرة. النص الختامي للمجموعة يرصد وسائط النظر المختلفة في حياتنا اليومية آنذاك، من شراعة الباب للعين السحرية ومن الكاميرا لجهاز العرض، إلخ. ولا شك أننا لم نعد نمارس النظر إلى الأشياء بالطريقة المتمهلة المتأملة نفسها. اليوم ننظر إلى الأشياء وإلى الآخرين بقسوة وصلف وتحد، أحيانا بهدف المحاكمة والتقييم والإدانة أكثر من الرغبة في المعرفة والتأمل والتواصل“.
وعن رواية “أكابيللا” تقول الكاتبة “في عام 2010 نشرت هذه الرواية في 14 حلقة مسلسلة في مجلة ‘روز اليوسف’، ثم قامت ثورة يناير، وعدت لمراجعة النص وإعادة كتابته بروح أكثر مغامرة وربما أكثر تقشفا بعد الثورة، ونشرت الرواية عام 2012. وهي تتناول قصة صداقة بين الراوية وصديقتها الفنانة التشكيلية البوهيمية التي تموت في الأربعين في بداية الرواية، وتسعى الراوية لإعادة إنتاج حياتها من خلال فعل التذكر وأيضا استنادا إلى يوميات صديقتها”.
وتوضح التلمساني أن هذه الرواية لا تستسلم لغواية الدراما والتسلية والقضايا الكبرى، ولا يمكن أن نعدها من الروايات الأكثر مبيعا. وتضيف “أعتقد أن لكل كتابة قارئها المفترض. مساحة الثورة في الكتابة هي تلك المساحة التي يحتلها قارئ نهم لصوت الكاتب المميز لا لصوت مذيع برنامج ‘التوك شو’. الخيار الثوري في الكتابة هو خيار أقلية بالضرورة ولا يعنيه اهتمام أو موافقة أو دعم الأغلبية“.
الشخصيات والأمكنة
حول بناء شخصياتها السردية تقول التلمساني “أترك للشخصيات حرية التطور في اتجاهات مختلفة طوال فترة الكتابة، وأعدل كثيرا في ملامح الشخصيات النفسية ودوافعها، وأبدل نوع الشخصية أحيانا من ذكر إلى أنثى أو العكس، وتتكشف لي مناطق كانت خافية في البداية مع تطور التفكير والتأمل والقراءة. أما أكثر الشخصيات التي تعايشت معها حتى كدت ألمسها فهي شخصية ‘عايدة’ في رواية ‘أكابيللا’. شقتها مثلا رسمتها بالكامل من الخيال، والأحداث التي تدور في الشقة كلها متخيلة، لكني فوجئت بعد الانتهاء من الكتابة أني ما زلت أعيش في الشقة وأعرفها كأننا -أنا والبطلة- عشنا فيها معا، وأحيانا كنت أراها تتحرك في الشقة وكأنها شخصية حقيقية في فيلم سينمائي سبق لي أن شاهدته. ملامح عايدة البدنية أيضا محفورة في خيالي كأني كنت أعرفها وألتقي بها في زمن خارج الزمن”.
وعن روايتها “الكل يقول أحبك” (2021)، التي تطرح إشكالية الحب عن بعد في الزمن المعاصر، تقول إن فكرتها تقوم على لقاء عابر بين شخصيتين يبدو أن أحدهما قرين الآخر رغم فارق السن بينهما. ومن حوارهما معا تتطور الأحداث لنتعرف على شخصيات أخرى تدور في فلكهما. وتدور أحداث الرواية بين مدن كندية وأميركية، ومعظم شخصياتها من العرب الكنديين، مع إشارات إلى الأوطان الأم تستدعيها الذكريات والحيوات المتقاطعة لتلك الشخصيات.
تقر التلمساني بأن التقابل الذي تسعى إلى فهمه في الرواية هو التقابل بين مشاعر الحب عن بعد وتأثيرها على العلاقات الإنسانية، ومشاعر الحياة بعيدا عن الوطن الأم وأثرها على رؤية الشخصيات لموقعهم في الوطن البديل. وهو التقابل نفسه الذي يضع الشخصيات في مواجهة مع نفسها من خلال فعل التذكر وفي مواجهة مع الآخر (الحبيب أو الحبيبة) من خلال أفعال الحياة اليومية العادية، من الأحاديث العابرة إلى الوقوع في حب طرف ثالث خارج العلاقة الرئيسية.
وتلفت إلى أنه في نصها كل شيء يبدو معتادا ومكررا، لكنه في جوهره يتيح لها فرصة طرح الأسئلة الوجودية، عن موقعنا من العالم، وعن موقعنا من فكرة الحب في سياق العولمة وفي أماكن متفرقة من العالم.
وتختتم التلمساني حديثها بقولها “ما أردت إنجازه إلى اليوم لا يخرج عن عنصرين أعدهما العصب الرئيسي للكتابة الإبداعية: الفكرة ورسم الشخصيات. ثمة أفكار مكررة عبر تاريخ النوع الأدبي لا مجال لإنكارها أو إنكار تكرارها، مثل قضية الموت وعلاقة الإنسان بالمكان وقضية الصداقة أو الحب أو المنفى والهجرة الاختيارية. أحاول في تناولي لتلك القضايا والأفكار أن أطرح تصورا مغايرا في كل مرة لما هو متوقع أو سائد، يرتبط ذلك بفكرتي عن الحرية والتحرر عبر الكتابة”.