عادل زيادة
حدثتكم في المقال السابق عن قاعات حمَّام السوق الثلاثة: قاعة الاستقبال، والقاعة الدافئة، ثم أهم قاعات الحمَّام وهي القاعة الساخنة وما حولها من مقاصير ومغاطس المياه الساخنة. ويتبادر الآن إلى الأذهان سؤال بديهي هو: كيف كان يعمل الحمَّام؟ او ماهي طريقة تسخين الحمَّام؟ وعلى أي حالٍ سأحدثكم عن طريقة التسخين هذه في الحمَّامات الأثرية والتي تطورت عملية التسخين في معظمها حالياً إلى أساليب حديثة ترتب عليها إلغاء المستوقد القديم وما كان يقوم به من وظائف.
هناك وحدة معمارية ملحقة بمؤخر الحمام ملاصقة للقاعة الساخنة تعرف باسم “القِمِّيم” أو “المستوقد” وهو المكان المخصص لتزويد الحمَّام بالماء والهواء الساخن، يتم به تسخين الماء في قدور كبيرة، كما يستفاد من هذا المستوقد أيضاً في سحب الهواء الساخن وبقايا اللهب والدخان عن طريق أنابيب لتدفئة أرضيات الحمَّام. وقد إلتزم المعماريون بتخطيط معيَّن للقميم يتلاءم مع وظيفته.
ومن خلال زياراتي الميدانية ومشاهدتي على الطبيعة لحمَّامات الشام والقاهرة وغيرها من مدن العالم الإسلامي، بالإضافة إلى ما أوردته حجج الوقف الخاصة ببعض حمَّامات القاهرة، أمكن معرفة التخطيط المعماري والوظيفي للمستوقد بالحمَّامات.
قامت فكرة التخطيط المعماري للقميم على تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء هي: المستوقد(الفرن)، والخزانة، وسكن القميمي ، وتمثل هذه الأجزاء الثلاثة كتلة بنائية مستطيلة يزيد ارتفاعها على مستوى ارتفاع الحمَّام، وتنقسم من الداخل إلى ثلاث غرف صغيرة تعلو بعضها بعضاً، السفلية منها هي المستوقد ويُعرف أيضاً ببيت النار أو الأتون، بأرضيتــه جورة أو حفرة كبيرة كانت تُستغل لوضــع قدور الفول لتدميسه، وتشتمل الأرضية على فتحات صغيرة تسمح بسقوط الرماد، وأيضاً بغرض التهوية للمساعدة في اشتعال النار، هذا بالإضافة إلى فتحة متسعة تسمح بمرور بقايا النار والدخان من خلال ممرات خاصة ممتدة تحت أرضيات بيت الحرارة والقاعة الدافئة وكذلك بأسفل أرضيات المقاصير المتفرعة عنها، وتتجمع كل هذه البقايا في ممرات بيت النار تحت الأرضيات وتساعد بطبيعة الحال على تدفئة القاعتين ويذكرنا ذلك بأسلوب التدفئة الذي كان مستخدماً في الحمَّامات الرومانية. وينتهي ممر بيت النار إلى مدخنة الحمَّام التي ترتفع فوق جدار القاعة الوسطى (الدافئة) وتعلو فوق سطح الحمَّام بعدة أمتار.
ويغطي المستوقد أو بيت النار سقف على هيئة قبة ضحلة قليلة الارتفاع من الطوب الأحمر تتوسطها فتحة تُعرف “بالمرَّازة” يتصاعد منها اللهب للمستوى الثاني. ويمثل هذا السقف في الوقت ذاته أرضية المستوى الثاني الذي يعرف باسم “الدبكونية” أو “الخزانة” وهي غرفة التسخين، وهي حجرة مصمتة البناء ومغطاة في الوقت ذاته بقبة ضحلة، وجاء بناؤها بهذا الوضع لأسباب فنية دقيقة، إذ أن انخفاض ارتفاع القبة يمنع البخار المتصاعد من حلل الماء الساخن الموجودة بها من الانطلاق عمودياً، كما يمنع أيضاً تكثفه، وبذلك يمكن وصوله إلى القاعة الساخنة دون أن يضيع شيئ من كثافته، ويخرج هذا البخار من الحجرة من خلال فتحة مستطيلة إلى القاعة الساخنة (الجواني) مباشرة، وقد لاحظنا أن أرضية هذه الغرفة مرتفعة عن أرضية الحمَّام ليساعد ذلك على انسياب المياه الساخنة واندفاعها إلى قاعات الحمَّام في سهولة ويسر. ويشغل أرضية الخزانة، حلتان نحاسيتان كبيرتان، تسمى إحداهما بالحلة النارية موضوعة على حامل يسمح بمرور بقايا اللهب من تحتها، ومن هذه الحلة يفيض الماء الساخن إلى حوضين عن يمينها ويسارها بكل منهما منفذ إلى أحواض وأجران الحمَّام. وبين الحلتين توجد الفتحة الصغيرة المعروفة باسم “المرازة” التي يتصاعد منها اللهب من المستوقد.
أما المستوى الثالث فهو عبارة عن حجرة تستخدم كمسكن للقميمي، ويقع في الجهة المقابلة للمستوقد وهي حجرة بسيطة يغطيها سقف من فلوق النخيل بوسطه شخشيخة بغرض الإضاءة والتهوية.
ويُدخل إلى القميم من باب فرعي للحمَّام غالباً ما كان يقع مطلاً على حارة ضيقة أو زقاق صغير في الجهة المقابلة للبراني (المسلخ) حيث يؤدي إلى قاعة متسعة تقع بها الحجرات المشار إليها.
وجدير بالذكر أن هناك أجيال مختلفة من شعوب المدن الإسلامية وخاصة القاهرة قد رأوا بأعينهم أو ورد على أسماعهم عملية إنضاج الفول المدمس في قدور ضخمة في الرماد شديد السخونة الناتج من المواد المحترقة بمستوقد الحمَّام والذي كان يُعرف عند العامة من سكان القاهرة “فول المستوقد” وقد اندثرت هذه الطريقة تماماً ولم يعد لها وجود بسبب الاستغناء عن المستوقد التقليدي السابق وصفه وتحويل طريقة تسخين الحمامات بالإشعال بالسولار أو الغاز الطبيعي.
وأخيراً نستطيع أن نقرر أن فكرة تخطيط الحمَّام من حيث أقسامه الثلاثة الأساسية ترجع لأصل واحد مأخوذ عن الحمَّامات الرومانية التي كانت موجودة في بعض المدن قبل العصر الإسلامي. واختلف الحال بعد ذلك بينها وبين الحمَّامات التي بنيت بعد الإسلام من حيث التخطيط والعناصر المعمارية ، وأصبح للمسلمين طراز خاص بهم يتماشى مع متطلبات المناخ والظروف الاجتماعية والبيئية. فالبنسبة للقاهرة لم يولد تخطيط الحمَّام على هيئته المعروفة فجأة، ولكنه مَرَّ بمراحل متعددة قد يكون متأثراً فيها إما بتخطيطات محلية أو وافدة حتى استقل عن نماذج الحمَّامات الرومانية التي كانت منتشرة في مصر قبل الفتح الإسلامي والتي استعملها المسلمون وبنوا حمَّاماتهم على منوالها لفترة، ثم ساروا بعجلة التطور والتغيير بما يتلاءم وتقاليدهم وذوقهم حتى وصل إلى شكله الخاص المعروف، والذي وصلتنا أمثلته المتكاملة من قاهرة الفاطميين، ولكن تظل هناك حلقات مفقودة تمثل هذا التطور في الحمَّامات المصرية.