أوتار الحلم البعيد

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 أسامة كمال

حين يغيب الزمان فى المكان فى البشر تطفو الأحلام على موج البحر، موجة وراء موجة وحلما وراء حلم، وكما أن الامواج لا تتوقف ستظل الأحلام تتدفق ..

هناك وعلى بعد ما يزيد عن الخمسين عاماً وبعد أن اتشحت السماء بسواد يونيو ١٩٦٧ وقف – المحمود ابراهيم  – يهدهد أحلامه التى تسكن هناك فى الشواطىء البعيدة وتأتى مع  لمعة هلال السفن العابرة على مجرى القناة وتغيب مع رحيلها الى ظلام وغياب البحر ..

حينها كان الحالم مولعاً بكل التماعات قمر الفن المغوىة: أدب، سينما ، مسرح .. ، ..  وقبل الفن شغوفاً بمعنى الحياة خاصة المخبوئة منها على ضفاف الشواطىء الاخرى .. غسل روحه وتطهر بحلمه وحمل حقائبه وبجسارة ابن البحر غادر إلى الشاطىء البعيد فى ايطاليا محمولا ًعلى صفحة البحر متتبعاً ظلال السينما الجديدة فى عاصمة الفن ( ايطاليا ) التى شاهد منها أفلام: روسيلينى، فيسكونتى، دى سيكا .. شاهدها فى مدينة البحر منبعثة من بوبينة شاشة قصر ثقافة الستينيات الفقير المبنى على أحلام الوزير – ثروت عكاشة  – بمد جسور النور بين الثقافة والشعب .. فى رحلته لم ينس قصصه التى بدأت تعرف طريقها إلى النشر بمطبوعات أخبار اليوم وروز اليوسف وصباح الخير وقت أن كانت الأيادى تتلقف الجرائد والمجلات كعادة كونية ليس منها بد أو فرار .. لم ينس حلمه فى سينما بديلة يرى فيها البسطاء واقعهم وأحلامهم الصغيرة .. لم ينس سر شفرة مدينته السحرية الكامن فى أوتار الطنبورة والسمسمية، فهى ليست مجرد أوتار بل خيوط من الضوء تسرى فى الروح وعلى القلب .. ورحلت سفينة ابن البحر وغابت معها أخباره وأحلامه …

………

بعدها بسنوات خرج من نفس البيت ونفس البحر ونفس الحلم ظل آخر للفن والموسقى والحياة .. ظل ممتد من الجذور إلى الأوتار .. من جذور عشق الحياة إلى أوتار ممزوجة بنشوة ولمعة الأرواح، من جذور الايمان بحق البشر في العدل و السعادة، إلى أوتار البهجة الحية النابضة المتدفقة تدفق أمواج البحر..

وقف الريس زكريا ( أبو حسن ) أوالعاشق زكريا ابراهيم  ..أمام نفس الموج وتوضأ بماء نفس الحلم وعقد النية وبدأ المسيرة والمصير ..

فى عام 1980 كشف عن حلمه للمقربين منه من المثقفيين والفنانيين وارتاب الجميع فى نجاحه حتى صار كالصارخ وحده فى سراب الصحراء أو على حد  تعبيره وصرخته: وحيداً / وحيداً فى الصحراء / ولا أحد / أصرخ .. / لا أحد .. / فأصرخ .. / ربما خلف هذا الجبل البعيد / يسمعنى أحد ….ولم يفقد الأمل نقب عن الصحبجية القدامى كمن ينقب عن سيرة عائلته تحت ركام النسيان أو يبحث عن خريطة البهجة المفقودة فى بقاع وشوارع مدينة البحر .. نادى عليهم فلبوا الحلم والتقت أحلامه مع غرامهم بطفو الروح على ماء البحر منتشية ببهجة الأوتار أو بلغتهم ( محظوظة ) بمهجة السماء  ..

من غرفة ضيقة فى حزب التجمع ببورسعيد تضيق بأجساد الصحبجية وتتسع لأحلام أحلامهم  بدأت فرقة الطنبورة تدق أول أوتار الحكاية عام 1989 ..

ومع  استشراف هلال الحلم بدأت الأساطير تتوافد مع أسراب الحمام إلى دفء الغرفة الضيقة: الريس إمبابي، الريس احمد وليم، حمام، الشيخ رجب،  الأسطي محمد القط، سعد أبوالشحات، احمد مجاهد، محمد السعيد (ابوإسلام)، السعيد الليبرتي، علي عوف، جمال عوض، مرسي إبراهيم، السيد الجيزاوي (ابوعادل)، صلاح الحصري، جمال فرج، علاء الشاذلي، سامي عبد النبي، مسعد موسي، العربي جاكومو، مسعد باغة، محسن جبريل، احمد كنش، العربي البيه، منصور حسين، محسن العشري، شوقي الريدي، صابر جزر ……

أساطير من أساطير الى أساطير..

تحكى الأسطورة: أن نداهة أغوت الساحر الأكبر – عبد الله كبربر – وأغوته بضوء لاح فى السماء والتمع فى الماء فشق اليه الرحال ولم يكن فى يديه غير ( السمسمية ) التى تندت أوتارها بقطرات الموج وغنى عليها كما لم يغن أحد وحين وصل الى أصل الضوء ارتمى محموماً على الشط  ولمّا دخل النهار رأى بعينيه أسراب الطيور المهاجرة إلى دفء الأرض والمكان الجديد، فعرف انه وصل إلى أرض عشقه ومنتهاه وظل فيها حتى خرجت من نغمات أوتاره أسطورة جديدة ( الريس ابراهيم خلف) الذى تعلم على أسلاكه الذهبية كل من وتر الطنبورة وعشق السمسمية حتى صار عارف الأسرار وسيد الأحبار ..

وانفتحت الغرفة الضيقة على أول طبقات السماء وعرفت ( الطنبورة ) طريقها الى القاهرة ودارت فى أفلاك العاصمة المغوية والتف حول وهجها وبهيجها كل التواقين الى ملامسة سر الارواح فى : بيت الهراوى، بيت زينب خاتون، دار الأوبرا المصرية ، ساقية الصاوى، مكان، …، … وكل المراكز الثقافية الأوربية …

قبل أن يصبح للفرقة مسرحها الخاص ( مسرح الضمة ) بحارة البلاقسة بعابدين ..

يقول العاشق زكريا فى أول سطر من سطور بدء التكوين: المصريون الذين حفروا القناة تحت سياط القهر والألم وجدوا في الغناء سر الأمل والبقاء وغابوا وجدا في رمال الحفر وغاموا عشقا تحت مياه القناة لكن أجسادهم تحولت إلي ورود بيضاء تطفو على لمعة مياه القناة عند بزوغ كل بدر جديد .

 و من قهر المظلومين وخلوات المتصوفين خرج فن – الضمة – في بداية القرن العشرين بعد انتهاء حفر القناة عام 1869 وظهور ملامح المدن  الجديدة و خروجها إلي الحياة . ..وتتعدد معاني فن الضمة فهو بمعني – اللمة – لمة أو إلتمام مجموعة من البشر يأتنسون بالغناء والصحبة و السمر أو بمعني – ضمة – للأغاني و الموشحات و الأدوار والمواويل المختلفة خاصة أن فن الضمة تضمن في تلك الفترة الأغاني الصوفية الخالصة وأغاني العشرينيات المفعمة بحب الحياة التي احتفظت بها اسطوانات الجرامفون السحرية العتيقة، وأعاد الفنان الشعبي إبداعها و صياغتها من جديد وتطويعها لأدوار الضمة التي تؤدي غالباً علي إيقاعين رئيسين : أحدهما بطيء في أول الدور و الثاني سريع في النصف الأخير منه، وعند تأمل كلاً منهما تجد أن الأول يحمل إيقاع الحضرة الصوفية ببطئه المناسب لطقس التراتيل و الترانيم أما الثاني فهو نفسه إيقاع الذكر المليء بالحركة وكي تصل هذه الحالة لذروتها ومنتهاها لابد أن يكون الجميع  في حالة سلام ونقاء مع أنفسهم أولاً  ولديهم  رغبة فى التجاوب والإندماج والاستغراق مع صحبجية الضمة بحيث يترك كل منهم للآخر رحابة  التعبير عن ذاته وحريته وسلامه الداخلي ..

ولكل ضمه ريس وهو الشخص الأكثر حفظاً لأدوارها ويتمتع في الوقت نفسه بحب رفاقه وصحبته .. وهناك تشابه بين ريس الضمة و شيخ الطريقة الصوفية لتمتع كلا منهما بحب مريديه وصحبته، ولنا أن نستحضر تلك الحالة الروحية التي تتلاقى فيها  أرواح الصحبجية كموجات بيضاء في بحر منغم بالسحر والأسرار

…. وبين أغانى العشرينيات المذابة فى بهجة الايام وميوعتها وأغاني الحضرة الملتمعة بوهج الأرواح فى حلقات الذكر كان هناك طريق ثالث بينهما، طريق سرى يسير فيه من يبحث عن  خلاص روحه من همومها ومواجعها وأقصد به (الزار) وحالة ( الزار  ) تتداخل مع الضمة فى انتشائها بالنفوس  والأرواح  لكن ضوئها ينسحب وينحصر فقط على المكروبين من ضغط وويلات الحياة

………..

 بعد خمسة وعشرين عاماً عاد ابن البحر – المحمود ابراهيم – مرة أخرى الى موطن الروح والحلم، عاد بعد تغريبته الطويلة مجذوباً مرة اخرى الى اعادة بث الروح فى حلمه القديم: سينما يرى فيه الفقراء واقعهم وأحلامهم الصغيرة المفتوحة بفتنتها ومرارتها على سماء الله .. التقى بنا نحن أبناء البحر الصغار وكأننا فى انتظاره .. قال :  أنا ابن البحر وابن السينما .. جعلنا نرى الحلم أمامنا .. كان أقوانا وأقدرنا .. لم نشعر بمسحة يأس واحدة في عينيه ذات الستين عاماً، فقلبه ناصع كخضرة السنابل وحوله تتساقط الشهب كقناديل صغيرة متوهجة ..عاد إلينا بزمنين: زمن عاشه وزمن يحلم به، زمن ترك فيه مدينته يوم أن كانت ذات لونين: الأبيض والأسود التى تترنم بأنشودتها البيضاء (الوداع يا جمال يا حبيب الملايين )…

زمن غادر مدينته بعد غياب العربات فى ظلمة الطرق وغياب القرى بعيداً عن أرض الميلاد والميعاد، وزمن آخر: رحل  فيه وحده إلى الشاطئ البعيد وعاد إلينا محملاً بدهشة الصور والحكايات، عاد وحوله تحوم كل فراشات المساء…

عرفنا منه كل حكايات البحر السحرية وعرف منا احباطات ساعات الصباح ..

عرفنا منه أن السينما موجات من الأحلام الرقيقة، وعرف منا الاستسلام الكسول لقيلولة المهزومين .. عرفنا منه أن نصنع دانتيلا بيضاء نغطى بها قلوبنا وعرف منا أحلام الليل المهدرة في قراءات متقطعة وكتابة قليلة لحمقى صغار يريدون رؤية القمر من مجرد نافذة صغيرة .. كان قويا بدرجة جبل اختار أن يكون بعيداً ووحيداً، وكنا اضعف من أوراق القش المتناثرة بجوار البيوت القديمة، فغادرنا وغادرناه .. قرر أن ينسج حلمه تحت غبار العاصمة ودخانها القميء، وقررنا أن نبقى في مدينتنا كعرائس من الصمت والسكون تدفعها الموجات أينما رأت وأرادت…

الشيخ الذي قارب الستين اختار أن يدافع عن حلمه في كتابة سينما يتمناها وتتمناه والحمقى الصغار استمر ءوا أن يظلوا خائفين من صدى صوت القطار الذي يعبر إلى المدن البعيدة محملا بهواء العصافير الملون ببراءة الأناشيد …

ابن البحر اختار أن يصنع حلمه بيديه وكتب فيلما ممزوجاً بأوتار وأحلام الطنبورة، لكن الموت اختار له أن يبقى وحيداً وبعيداً.. اختار له أن يظل جبلاً صبوراً ينتظر حلمه الذي حتما سيبزغ على جبل آخر يشبهه لكن تحت سماء أخرى وشاطئ جديد.

………..

وبالفعل بزغ الحلم مع العاشق زكريا ابراهيم وتحولت ( الطنبورة ) من مجرد فكرة فى صحراء الى حلم معلق فى سقف السماء .. تحولت الفرقة الصغيرة الى  فرق عديدة بلون وأحلام الخريطة المصرية من شمالها فى بورسعيد حتى أقصاها فى جنوب الوادى .. وتحولت الغرفة الصغيرة الى مركز ( مركز المصطبة ) يحوى بين جدرانه تراث موسيقى وانسانى امتزج بطمى النيل وجرى مع مجراه من أرض المنبع الى حلم المصب .. وتحول مسرح  الفرقة ( الضمة ) الى مكان عرض حى لفنون البحر والصحراء والريف ..

دافع ابن البحر عن حلمه الذى وقف من قبله أخيه يحلم به  قبل ما يزيد عن أربعة وخمسين عاما وعبر اليه ممزوجاً بكل التماعاته فى الادب والسينما والحياة ..

وصدق الحلم وعاشه وحققه ورآه رأى العين … ورأى الحلم

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم