البهاء حسين
“أيها الليل، يا حبيبى.. ألم يعد لنا مكان نلتقى فيه إلا غرفة نومى؟! أين الشوارع والملاهى والفنادق؟ أخرجنى من بيتى كما كنا نفعل أيام الشباب واسهر معى حتى أرى أصدقاء عمرى.. السحر، والفجر والصباح. أيها الليل يا حبيبى.. اترك عناء نومى للنهار!!”.
هكذا يناجى كامل الشناوى الليل، أو، بالأحرى، يناجى نفسه.. النسخة التى لا تعامل النهار على أنه نصف اليوم، بل مجرد باب ندلف منه إلى غرفة المعيشة.. الليل.. العالم الذى راح الشناوى، على مدى عمره، يفصله على مقاسه ويعيش من خلاله المعنى الذى يبحث عنه. وكان من الولاء لهذا العالم، بحيث أمكنه أن يحذف النهار.
استعمل االشناوى (1908 – 1965) ربع حياته فقط فى النهار، ورمى الباقى منها إلى الليل. كان كلما واتته فرصة للاختيار، ضحى بالواقع لصالح الخيال وبصحته لصالح ملذاته (كان يدخن 80 سيجارة ” كابيتوى” يومياً ويشرب حوالى 40 فنجان قهوة ومثلها مشروبات غازية، وفى اليوم السابق على دخوله المستشفى قبل وفاته فى 30 نوفمبر كان إفطاره 5 قوالب بطارخ هو المريض بالسكر والباولينا والمصاب بالتهاب فى الرئة والكبد وتسمم الدم)، وضحى بشعره هرباً من المسؤولية. هل كان يتفادى الوحدة، أو الموت الذى وعى عليه فى طفولته وهو يختطف أخته دون أن يجد مبرراً وجيهاً لذلك. ورأى ابن عمه يصارع البحر وموجه العفىّ ثم غاص فى أعماقه، رغم أنه رفع يديه يستغيث بهما نيابة عن صوته؟
كان الشناوى يهرب من النهار، حيث تكون جزءاً من العالم، إلى الليل.. حيث تكون أنت العالم. وقد بنى عالمه دمعة دمعة وقصيدة قصيدة. مع أنه كان يتملص أيضاً من الشعر، هو الذى كان يعتز دائماً بأنه شاعر حتى وهو صحفى، مع ذلك لم يكتب، على مدى 32 سنة، أكثر من 320 بيتاً من الشعر..أى 10 أبيات كل سنة (1)
هل لأن الموت، فى تصوره، كثيراً ما يأتى بالليل، لذلك يظل سهران محتمياً بيقظته وبحالة الأنس التى يصنعها ويستدرج إليها القاهرة كلها. مم يهرب بالضبط؟ مم يخاف، ليدمن السهر، ثم حين تطلع الشمس يضع رأسه على المخدة، بعد ليل طويل مبرّح، باطمئنان من نجا من موت محقق ! هل كان يهرب من دمامته التى يفضحها النهار؟ أم ينتقم من الوحدة التى فرضتها عليه بدانته فى الطفولة والشباب؟ أم هو، ببساطة، حب الليل، دون أن يكون الأمر بحاجة إلى تبرير. وهل حب الليل تهمة؟ من ذا يلوم شاعراً إذا أحب النجوم؟ لقد أراد الشناوى، كما قال لـ ” نجاة “، فى حوار إذاعى، أن يعيش الواقع وهو نائم، ويعيش فى الخيال وهو ” صاحى “. وأضاف مفسراً : ” لأنى أخاف أن أواجه ما تسمونه أنتم واقع “. هكذا جعل الليل محل إقامة أو مسقط رأس، كأنه امتداد لرحم أمه التى كانت تغريه بالعزلة حين تعطيه النقود، ليبقى فى البيت ويتجنب الأطفال الذين يعيرونه. لقد عاش مطارداً من نفسه. ” يعذبه نبوغه، يعذبه شعره، يعذبه حبه ” (2). كأنه ” دمعة كبيرة قد تحولت إلى إنسان “. (3)
قضى الشناوى طفولته فى قرية وديعة على النيل هى ” نوسا البحر ” بالمنصورة، التى ربت خيال كثيرين من الشعراء والفنانين.. الهمشرى، رياض السنباطى، على محمود طه، إبراهيم ناجى.. إلخ. هناك ولدت معه بدانته ورافقته إلى ” حى السيدة زينب ” بالقاهرة، حيث ” بيت الشناوى “. لم يتخلص منها إلا حين ظهر بجواره ابن الشاعر محمد الهراوى، ولما احتار الرفاق أيهما أكثر بدانة من الآخر حسمت نكتة للشاعر حافظ إبراهيم الأمر، حين قال للهراوى : ” يا محمد أنا شفت النهاردة دار الكتب واقفة جنب الولد ابنك ” (4)
هكذا التصقت ” البدانة “، مؤقتاً، بشخص غيره، وإن بقيت غصة، ثم تحولت الغصة إلى عقدة حاكمة وهو يرى أقرانه فى حى السيدة يلبسون الثياب الإفرنجية، بينما كان عليه أن يرتدى زى الأزهر، ليصبح من العلماء مثل أبيه وأعمامه. غير أن هذه العقدة ما لبثت أن تحولت إلى قصيدة. اكتشف الفتى ابن الخامسة عشرة الشعر فى نفسه، وإن لم يتركه أصحابه فى حاله، فقد رموه بانتحال الشعر، مستكثرين عليه أن يدرك شيئاً لا يستطيعونه. هنا بدا الشعر كهدنة يحوّل بها الأنظار عن بدانته. بدا كملاذ يحميه من التنمر، وكان أول أداة أوصل بها صوته العظيم.
البدين يصل إلى المقدمة :
إلى جانب الشعر كانت هناك مهنة سيقطع بها الطريق على بدانته بذيوع صيته، سيكون لاسمه ملمس وصدى، سيبرهن للجميع على مواهبه، وعلى الساخرين منه أن يتابعوه، بينما يصعد السلم بسرعة مذهلة.
بعد حصوله على شهادة الثانوية، ممهورة بتوقيع عمه مأمون الشناوى، شيخ الأزهر آنذاك، انصرف كامل عن التعليم برمته، ودخل دار الكتب فى باب الخلق، ليخرج منها وقد تزود بزاد جعل الأضواء ترافقه من أول خطوة فى مهنة الصحافة التى دخلها من باب ” الأمير “. أخذه الشاعر محمد الأسمر من يده، بعد أن اعترف له بأصالة شعره وجودته، إلى أحمد شوقى وهناك أسرّ له الشناوى بعدم رغبته فى استكمال تعليمه الأزهرى فما كان من شوقى إلا أن صحبه إلى صديقه ” حافظ عوض ” صاحب جريدة ” كوكب الشرق “، ليعمل بها مصححاً بـأربعة جنيهات عام 1930م، ومن حسن حظه أن سكرتير تحرير الجريدة لم يكن يعرف قواعد اللغة العربية فكان ينصب الفاعل ويرفع المفعول. ففى زيارة لملك الأفغان إلى مصر، كما يروى حافظ محمود، كان السكرتير لا يعرف متى يكتب ” صاحبا الجلالة ” أو ” صاحبى ” فى تغطية تنقلات الملكين فاروق وضيفه، ورأى أن الشناوى يغير الكلمات من باب النكاية فيه، وتصادف أن عين طه حسين مديراً لتحرير الجريدة ولما روى له الشناوى الواقعة بظرفه المعتاد، ضحك طه وانتدبه إلى مكتبه محرراً، لينتقل من خانة التصحيح إلى التحرير بجرة قلم. وما هى إلا فترة وجيزة حتى عمل فى ” روزاليوسف ” اليومية، كما اشترط كاتبها الأول عباس العقاد، وبعدها انتقل إلى الأهرام برعاية انطون الجميل، عميداً للمحررين البرلمانيين.
ساقه حظه السعيد، وكان يستحقه، إلى الكبار، ذاع اسمه بينهم قبل أن يعرف الطريق إلى القارىء. وفى الخطوة التالية أصبح رئيساً لتحرير ” آخر ساعة ” عام 1943، ثم ” الجريدة المسائية ” التى يصدرها حزب الوفد، ورئيساً لتحرير ” الجمهورية ” و ” الأخبار “.
حتى قيام ثورة يوليو عام 1952م، وبعدها، كان الشناوى من ألمع الأسماء. حقق الصحفى بداخله، خاصة فى قضية الأسلحة الفاسدة، خبطات ضخمة كانت تنشر فى الصفحة الأولى بالأهرام. وقبلها كانت مقالاته، عن حادث 4 فبراير 1942 م ومعاهدة صدقى بيفين، وحق الصحافة فى الحرية، رغم أنف القصر، مادة على لسان الشارع.
لقد كان من السهل، على ذكائه وعلاقاته المتعددة، أن يحصل على ما يريد من أخبار أو معلومات أو حوارات. فقد كون الشناوى، عن طريق الصحافة، من الصداقات ” مع الكبراء ما عزّ على الكثيرين من أبناء جيله.. لقد كان جليساً لمحمد محمود زعيم الأحرار الدستوريين وصديقاً حميماً لشقيقه حفنى محمود، وكان فى نفس الوقت صديقاً لمكرم عبيد ولمن خلف مكرم عبيد فى سكرتيرية حزب الأغلبية، ثم كان.. صديقاً لخصوم هؤلاء جميعاً فى السياسة “. (5)
مع علاقات كهذه وفى جو احتدم فيه الصراع بين المتناقضات.. بين الوطنيين والاحتلال الإنجليزى وبين الوطنيين والقصر وبين الأحزاب نفسها. كانت مصر تناضل من أجل الحرية والاستقلال عن إنجلترا والإمبراطورية العثمانية التى أصبحت، بتعبير الشناوى، ” عناوين ضخمة ليست لها موضوعات “، فضلاً عن نيران أخرى تحت الرماد. باختصار.. كانت مصر تبحث عن نفسها، ووسط التدافع تولد الأحداث والأخبار ولا ينبغى أن يعاب الصحفى بما يجب أن يُمتدح به، بحيث نحسب نجاحه على علاقاته خصماً من الكفاءة فى مهنة تقوم على الموهبة والعلاقات. كان الشناوى موهوباً أولاً قبل أى شىء آخر، أما أن صداقاته قد تفوقت على كفاءته الصحفية، فيما يقول حافظ محمود، فهذا كلام لا مجال لطرحه، لأن الصحفى يمكن أن تكون لديه قائمة طويلة من المصادر ولا يعرف متى أو كيف يوظفها لصالح القارىء ولخدمة الحقيقة، لا لمصالحه الشخصية. لا تغنى المصادر عن الكفاءة ولا تكفى الموهبة وحدها فى سباق محموم، إن لم تكن هناك استراتيجية للفوز.
على ذكر المصادر.. حدث أن كامل الشناوى، وكان فى بيت محمد محمود، رئيس الوزراء، التقط خبراً عن أن أمين عثمان، وزير المالية وصديق الاحتلال، سيسافر إلى القدس، ليجتمع بأحد المسؤلين الإنجليز وأن مفاوضات على مستوى عال ستجرى بينهما، ونشر الخبر فى الأهرام، وخمن محمد محمود، أن الشناوى يقف وراء التسريب، فلقنه درساً قاسياً. نصب الرجل، ذو القبضة الحديدية، فخاً لصاحبه، فادعى، والشناوى ينصت باهتمام، أن جوبلز، وزير دعاية هتلر، فى مصر وأنه التقى به ودارت بينهما أحاديث خطيرة، فما كان من الشناوى إلا أن أسرع بالانصراف متوجهاً إلى الأهرام يزف إلى ” تقلا باشا ” الانفراد الجديد. ولما وقف تقلا على أن الخبر كاذب اتصل بمحمد محمود الذى انفجر ضاحكاً ثم أنهى المكالمة مع تقلا بقوله : ” علشان يتعلم الفرق بين الصداقة والصحافة ” (6).
مصادره إذن لم تكن تسمح له بأن يستغلها، ولو أن نجاحه، كصحفى، كان مبنياً على دائرة معارفه فقط دون موهبته، لما بقى الشناوى حياً بعد موته. إن كلماته مازالت قادرة على الإلهام. والأقرب للدقة، فى تعليل نجاحه وحالته، أن الشناوى كان استجابة لهذا العصر فى فضائله وحاجاته وشتاته. حظى الشناوى برعاية الكبار، لأنه موهوب، فقدم هو الكثير من نفسه لأسماء عديدة والقليل منها لاسمه. ما من أحد، ممن أتوا بعده، إلا وهو مدين له. كثيرون كانوا يقتاتون على كلماته وجيبه. وغير بعيد أن الشناوى قد اعتبر كل واحد من هؤلاء ديواناً شخصياً، إنجازاً له، فكفى نفسه مؤونة كتابته، متجاهلاً أن أحداً لا يذكرك بالأسماء التى تبنيتها، بل بالأسماء التى أنجبتها. لقد أهمل زرعه، حين رآه يثمر فى حدائق الآخرين.
وسوف أستطرد قليلاً مع شهادة لـ “صلاح حافظ ” روى فيها كيف كان الشناوى ” حين يرعى موهبة جديدة يتحمل عنها جميع همومها.. يشترى الكتب للأديب الناشىء، يصحب الفنان إلى الترزى يفصل له ثياباً أفضل، يخصص حجرة فى بيته لإقامة الشاعر الذى ليس له بيت، ينشر للكاتب الجديد فى الصحيفة التى يعمل بها ويدفع له من جيبه دون أن يخبره بذلك. ولم يكن كامل الشناوى يكتفى بهذا، وإنما كان يعتبر رسالة حياته إرغام الدنيا كلها على الالتفاف للموهبة التى تحمس لها، فلا يترك سهرة، أو حديثاً، أو اجتماعاً، إلا ويحوله إلى فرصة دعائية لصاحب الموهبة. ويكاد يقنع الجميع بأن الله لم يخلق مثله. ويبالغ إلى حد أن يسجل بصوته قصيدة شاب مجهول، لكى يسمعها لزواره كل يوم، ويفرض عليهم أن يحفظوا اسمه، فإذا ما لمع هذا الاسم، وبدأ صاحبه يشق الطريق مستقلاً، تحول عنه وتفرغ لموهبة جديدة ! ” (7)
ولا يمكن ” إحصاء عدد النجوم المشهورين الذين بدأت أولى خطواتهم فى ظل هذا الطراز من الرعاية، وكان كامل الشناوى هو الذى أنقذ مواهبهم من الموت المبكر تحت وطأة العوز المادى، أو الإحباط والتجاهل ” (8). ويعلل حافظ هذا التجرد من الذات وهذا الحدب بموقف الشناوى الفريد من الأدب والفن. لقد كان ” يعشقهما لذاتيهما، لا يحب شعره، وإنما يحب الشعر، لا يتذوق أدبه، وإنما يتذوق الأدب، لا يسعد بتفوق فنه فى الكتابة، وإنما يسعد بتفوق فن الكتابة، وليس فى التاريخ أديب أو فنان تجرد من الأنانية مثله، كأنه فى محراب الفن اختار دور العابد لا دور الكاهن، وكأنما اختار سماء الأدب، لا لكى يلمع هو فيها، ولكن لكى يجملها بأكبر عدد من النجوم ” (9).
عربة الضحك والدموع :
كان الشناوى يخرج على الحياة بموهبة كل يوم، لأنه هو نفسه قطعة من بلد عظيم فقد استقلاله، لكنه لم يفقد مادته الفعالة.. المواهب. احتشد الشناوى لتقليب التربة، فأخرج منها : نور الهدى، عبدالحليم حافظ، نجاة، بليغ حمدى، سعيد أبو بكر، محمد حسنين هيكل، صلاح حافظ، كمال الملاخ، أحمد رجب، سعيد سنبل، أنيس منصور، كمال الطويل، حمدى فؤاد، طوغان، يوسف فرنسيس، جورج، إيهاب، يوسف إدريس، مصطفى محمود، كمال عبدالحليم، محمد الفيتورى، معين بسيسو. احتشد لهذه المهمة، واحتشد للسهر، بأفضل ما فى حوزته.. النكتة، تدبير المقالب، التشهير، إلقاء الشعر بصوت عميق له رنين كأنه صوت جرس يتردد فى بئر سحيقة، الصحافة، العلاقات الاجتماعية بكل الأطياف، البكوية، التى حظى بها مع 20 صحفياً عام 1951م وأوسعها سخرية، وكانت المقامرة حاضرة أيضاً على طاولته، والكرم.. إلى حد السفه.. إحدى فواتيره فى جروبى بلغت 150جنيها عام 1962م، وكان قلبه دائماً على أهبة الحب. كان يستخدم كل هذه الأسلحة حين يشم رائحة موهبة، وكان أنفه يشم المواهب من مسافة ألف ميل بتعبير يوسف إدريس. وكان يستخدمها أيضاً ضد البلادة والأدعياء. هو رجل يجلس إلى المدفآة يمدها بقطع الخشب ويقلب الجمرات، لتظل متقدة. هكذا يحتفظ للنار بسرها المقدس. ولم يكن ابتعاده عنها سوى تغذية لها. فالشناوى يرى أن الموهبة التى ” لا يصقلها العلم والثقافة والدراسة قد تنطلق منها شرارة تلفت النظر، ولكن لا تندلع منها نار تثير الفكر ” (10). لقد كان وجوده بجوار المدفأة.. بجوار الموهبة يعنى أن النار لن تخمد.
،،،
فى طفولته عرف كيف يحتال لبدانته، وإن لم تجده الحيل نفعاً فى ممارسة اللعب والحياة بشكل طبيعى، كما يفعل إخوته الستة وبقية الأطفال. يروى محمد التابعى، الذى تربطه بالشناوى صلة قرابة، كيف رآه، أثناء اللعب، وكان يرتدى جلباباً، وقد أخفى إحدى ذراعيه داخله، ولما سأله التابعى : لماذا يضرب أصحابه الأطفال قال : ” أنا بضربهم علشان بيعاكسونى ويقولولى يا تخين ” (11) أما إخفاء ذراعه، فهى حيلة، يقول : ” يمكن يفتكروا ذراعى مقطوعة أو مكسورة أصعب عليهم وما ياخدوش بالهم من تخنى ” (12). على أن هذه البدانة، التى لا تتوافق مع المقاييس السائدة، لم تعلمه الحيل ولا الخيال ولا العكوف والاعتزال فى مكتبة والده الضخمة والتهامها فحسب، بل أهلته لأن يكون ساخراً عظيماً ومدبر مقالب ومقلد أصوات من طراز رفيع، والحق أن الضحك لم يكن فى حياة الشناوى سوى طريقة لمغالبة الوحدة والدموع. أو قل: كان مجرد أداة يزيح بها الرماد عن المدفأة. إصبع لزغزغة الحياة، للونس. يقول الشناوى ” أنا لا أجلس مع الناس لأقتل وقتى، وإنما أجلس معهم لأخلق النبض فى حياتى ” (13)
إنه يبصر، فى المقالب، حياة يلعب هو فيها دوراً ذاتياً فى اختيار أحداثها وتوقيت حدوثها، عوضاً عن فتور البيت، حيث لا ولد ولا زوجة. لا شىء إلا أنفاس خادماته. يصنع الشناوى المقلب، او البمبة، وينتظر بشغف الأطفال وقع انفجارها تحت أقدام الضحايا من الشخصيات العامة أو أؤلئك الذين يذودهم عن سهراته.. صالونه المتنقل بين الفنادق والبارات.
مرة طلب منه المخرج محمد سالم، وكان عائداً لتوه من أمريكا بعد غيبة طويلة جرت خلالها مياه كثيرة تحت الجسور، أن يرشح له ممثلين لعمل يعود به للتليفزيون. فرشح له الدكتور لويس عوض، ليقوم بدور البطولة. قال له، بعد أن شرح له الظروف التعيسة التى يعيشها الفنان لويس عوض، ” إنه ممثل عظيم يجيد تمثيل كل الأدوار وهو حاصل على الدكتوراه فى الدراما، ولكنه اعتزل السينما والمسرح بسبب مضايقات المخرجين الذين يقاسمونه أجره والمنتجين الذين يأكلون حقوقه ” (14)، وشدد الشناوى : ” أرجوك يا محمد تحاول الاتصال به وتلح عليه فى العودة إلى جمهوره وفنه… بس خليها لفتة كريمة منك وما تجيبش سيرتى لأنه حساس ومناخيره فى السما ” (15). واتصل المخرج يعرض الدور، وإذا بلويس يلعنه ويلعن جهله ويغلق الهاتف فى وجهه. وحين عاد سالم للشناوى يخبره بما جرى سأله :
- متى فاتحته فى الموضوع
- أمس
- له حق يا أخى، وهو ده وقت تكلمه فيه. إنت مش عارف إن والدته توفت إمبارح.
ويعاود المخرج الاتصال بالممثل الكبير : يا لويس يا حبيبى أنا عارف شعور الفنان المرهف.. البقية فى حياتك.. لكن يا لويس لازم تتغلب على مشاعرك ومتاعبك وآلامك.. جمهورك بينتظرك يا لويس… وثار لويس وهدده بإبلاغ البوليس. (16)
على أن كل المضادات، من مقالب وقفشات وضحك، لم تنزع الحزن الوجودى الذى جبل عليه الشناوى. حتى الحب كان مطباً آخر تعثرت به أقدامه. فهو كما كان يقدم للحياة موهبة كل يوم، كان يقدم لقلبه حباً جديداً كل يوم، لأن قلبه ” لا يطيق أن يتسكع فى ضلوعه بلا عمل ” (17)، كأنه يريد أن يختبر قدرته على الانفعال، أى قدرته على الشعر، فهو يرى أن الفن ” ليس نقلا للأحداث كما هى ولكن الفن هو الانفعال بالأحداث، والتعبير عنها بشعورك الذاتى، والفن الواقعى هو إعادة بناء الواقع بخيال شديد ” (18)
وقد ذهب الرجل وراء انفعالاته إلى أقصى نقطة ممكنة.. لقد كان يحب دائماً من طرف واحد، ذلك لأن الحب، بالنسبة له، ” أن تقتحم العذاب وأن ترتفع فوق العذاب ” (19)
أنا عمر بلا شباب وحياة بلا ربيع
أشترى الحب بالعذاب أشتريه فمن يبيع
عن سر لوعته وعذابه فى الحب قال لصديقه صالح جودت، حين سأله ” ما سر شقائك فى الحب ” : ” وأما الملاح فيأبيننى.. وأما القباح فآبى أنا ” (20). هو، فى عذابه، صدى لصوت الشاعر العربى القديم إن شكا من تأبى الجميلات عليه، وإن لم يشك حاله مع القصيدة. إن قلمه مغموس فى قلبه مباشرة. يستطيع أن يرتجل الحب والشعر مع أنفاسه، لأن قريحة عظيمة تغذيه بالشعر وألماً عظيماً يملأ قلبه. الشناوى صاحب تجربة مع الألم، لا تنقصه القدرة على تدوين تجربته بكلمات منحوتة تقول شقاءه كاملاً. فقد تعامل مع الكلمات على أنهن ” العذراوات اللاتى حرم حبهن “، بتعبير يوسف الشريف. والحاصل أن لغته الممغنطة وصوره الفريدة، مع صدق العاطفة وقوة الانفعال جعلت البقاء حليفه، رغم تغير المذاهب والأذواق. وهو ما توقعه، فالشاعر، بالنسبة له، هو ” من تحس أنه خلق جوهراً، أو حقيقة، أو جواً، فإذا ارتبط هذا الخلق بالشكل الذى يلائمه ارتباطاً موسيقياً، فى عمل واحد متكامل…كان الشاعر جديراً بالبقاء ” (21)
ودافعه الوحيد للشعر هو الحب، حيث يكون الحب تكون القصيدة. لقد حاول أن يجد فى الحب / الشعر خلاصه.. اشتكى قدره، واشتكى حبيباته، لأنهن خائنات، ساءل الحياة والموت، ساءل كل شىء تحت الشمس، دون أن يجد إجابة، وإن خلق من أسئلته هزات قد تبدو لقارئها فورات رومانتيكية مؤقتة، إلا أنها، فى الحقيقة، أسئلة هزت صاحبها، وأراد لها أن تهز الآخرين. لقد كان، هو وشعره، شيئاً واحداً كالقلب والنبض. شيئاً أكثر من اللغة.. خلطة من التصوف والفن والطفولة والشقاوة جعلت صاحبها أكبر منشق على نفسه بين ما يريده وما يقوى عليه. ” بعضه يمزق بعضه “. كان شرهاً للذة، أراد أن يعبّ الحياة بكلتا يديه فشرق بها.. مات بهبوط فى القلب. استطاع أن يتجاهل النهار، لكنه لم يستطع أبداً أن يتجاهل الموت.
السؤال : كيف يمكن تصنيفه؟ إذا كان حظ الرواد هو الشتات.. أن يمهدوا الطريق، فلا يرتبط اسمهم بمحطة معينة منه، إلا أن الجيل التالى، والشناوى بالذات، واتته فرصة عظيمة يخلص فيها للشعر، غير أنه لم يفعل ما يجب عليه تجاه كلماته. لم يأخذ جسمه ولا شعره بجدية قط. لو أنه تجرأ على العزلة؟ لو لم ير أن الوحدة “مرض”!.
على أنى أظن، مع فرويد وهو يتكلم عن فان جوخ، أن الشناوى لو وجد امرأة تحبه، لو وجد حضناً يحتويه، لعاش أكثر من 57 عاماً.. عمره الذى قضاه كله كأنه سهرة طويلة متصلة.
………………………….ز
(1) بلابل من الشرق، صالح جودت، سلسلة اقرأ، دار المعارف 1984 م، 156
(2) + (3) عمالقة الصحافة، حافظ محمود، كتاب الهلال، أغسطس 1974، ص 108
(4) السابق ص 100
(5) نفسه 105
(6) كامل الشناوى.. آخر ظرفاء ذلك الزمان. يوسف الشريف، مكتبة روزاليوسف، 1980، ص 37
(7) السابق ص 5
(8) + (9) نفسه
(10) زعماء وفنانون وأدباء، كامل الشناوى، ط دار المعارف 1972، ص 99
(11) + (12) كامل الشناوى.. الإنسان الذى انتحر حباً بالحياة، محمد التابعى، أخبار اليوم 11/ 12 / 1965
(13) آخر ظرفاء ذلك الزمان، م س، ص12
(14)، (15)، (16) السابق
(17)، (18) ساعات، كامل الشناوى، ط دار المعارف، 1970، ص62
(19) السابق ص45
(20) بلابل من الشرق، ص156
(21) زعماء، ص 105