رضوان السيد مفكرًا ومجددًا

رضوان السيد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. خالد عزب

     صدر عن الرابطة المحمدية في الرباط كتاب “الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر . . دراسات مهداة إلي المفكر رضوان السيد” ضمن سلسلة كتاب الإحياء، الكتاب ينقسم إلي قسمين، القسم الأول دراسات حول التجديد في الفكر الإسلامي، والقسم الثاني دار حول فكر رضوان السيد، قدّم الكتاب الدكتور أحمد العبادي الذي ذكر أنه تعرف علي الأستاذ رضوان السيد بشكل مباشر من خلال كتاباته المرجعية حول الأمة والدولة والجماعة، ومن خلال المجلات العلمية الرصينة التي ترأس تحريرها، أو أسهم في بلورة تصورها العلمي؛ وبوجهٍ خاص مجلة “الفكر العربي”، ومجلة “الاجتهاد”، ومجلة “التسامح” التي أضحت توسم بمجلة “التفاهم”.

     وفي كل المنابر حرص الأستاذ رضوان السيد علي طرح قضايا معرفية؛ تاريخية واقتصادية، وثقافية، وسياسية، ودولية بالغة الأهمية والأولوية في مشهدنا الثقافي العام، استقطبت نخبة مرموقة من الباحثين والمفكرين من شتي المنازع والتوجهات الأكاديمية.

     زخر القسم الثاني من الكتاب بالعديد من الكتابات حول رضوان السيد لعل أهمها دراسة الدكتور محمد شهيد تحت عنوان “ملامح المشروع الفكري لرضوان السيد من خلال مجلة الاجتهاد”.

     يري محمد شهيد أن مرحلة الثمانينات من القرن الماضي تميزت ببروز عدد مهم من المنابر الفكرية، ساهمت بشكل فعال في تأسيس وبلورة نخبة من المفكرين والمثقفين في العالم العربي استطاعوا حمل راية الفكر والثقافة في الوطن العربي. هذه النغبة كان لها تأثير بالغ في تنوير العقل العربي من خلال الدراسات والبحوث التي كانت تنشرها في تلك المنابر المتميزة. كما أن هذه المجموعة من المثقفين تميزت أيضًا بجرأتها وإقدامها علي مباحث ومحاور فكرية وثقافية بعمق وجدية ناسبت الظرفية التي يعيشها العالم العربي.

     إن الأستاذ رضوان السيد كان من الأوائل الذين ساهموا بشكل عميق وبارز في صنع هذه النخبة وتأسيس لبناتها الأولي، وذلم من خلال تبوئه مكانة الصدارة والطليعة في الحقبة الحساسة من تاريخ الأمة، التي تميزت بازدياد مطامع الغرب المفتون بقوته في الوطن العربي والإسلامي: غزو لبنان وما شكله من صدمة وصحوة في نفس الحين، غزو أفغانستان وتعقيداته بين الشرق العربي والإسلامي والغرب قيام الثورة الإسلامية في إيران وما نتج عنها من إشكالات وتناقضات بين العالمين، دون إغفال القضية الفلسطينية ونكبتها في ظل الوضع العربي الهش..

     في ظل هذه الأوضاع السياسية الاجتماعية الثقافية الاقتصادية المتشابكة والمعقدة كان الأستاذ رضوان السيد يؤدي دورًا محوريًا ومتميزًا لا يستطيع تأديته إلا الرواد ولا يقوم به إلا أصحاب الرسائل والضمائر الحية.

     لقد تصدي لهذه المهمة النبيلة الأستاذ رضوان بكل جدية وتفان من خلال المواضيع التي عالجها في دراساته ومؤلفاته الغزيرة والمتنوعة، حتي ليصعب علي الباحث أو الدارس حشرها في تخصص معين من كثرة تشابكها وتشعبها في مواضيعها ومباحثها. فقد كتب “الأمة والجماعة والسلطة، دراسات في الفكر السياسي العربي الإسلامي” وكتب “مفاهيم الجماعات في الإسلام” وكتب “الإسلام المعاصر” وكتب كذلك “الجماعة والمجتمع والدولة: سلطة الإيديولوجيا في الفكر السياسي العربي الإسلامي” وكتب “سياسات الإسلام المعاصر: مراجعات ومتابعات” وكتب كذلك “جوانب من الدراسات الإسلامية الحديثة” . . كما له أيضًا ما لا يحصي من الدراسات والأبحاث المنشورة في عدد كبير من المجلات والدوريات . .

     من جانب آخر وللقيام بنفس الدور والمهمة التي تصدي لها الأستاذ رضوان السيد فقد تقلد مهام فكرية حساسة من خلال تحمله مسؤولية التحرير مرات متعددة وفي مجلات فكرية رائدة. وهكذا فقد سبق له أن كان رئيس التحرير في مجلة “الفكر العربي” التي كان يصدرها “معهد الإنماء العربي” في بيروت، كما سبق له أن شارك الأستاذ الفضل شلق في رئاسة تحرير مجلة “الاجتهاد” التي كانت تعني بقضايا الدين والمجتمع والتجديد العربي الإسلامي، وهو الآن يشغل رئيس تحرير مجلة “التسامح” التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان، وأصبحت حاليًا باسم جديد هو “التفاهم”. بالإضافة إلي ذلك فقد شارك في الهيئة الاستشارية لعدد من المجلات كما هو الحال في مجلة “الحوار” التي تحولت فيما بعد إلي مجلة “منبر الحوار”.

     كما أسهم الأستاذ رضوان السيد في عدد لا يحصي من المجلات العلمية المحكمة، فقد نشرت له مجلة “منبر الحوار” ومجلة “الفكر العربي” ومجلة “مستقبل العالم الإسلامي” ومجلة “الإنسان المعاصر” . .

     إذا استقرأ الباحث كتابات ودراسات وبحوث الأستاذ رضوان يصعب عليه تصنيفها في أي خانة من خانات التخصص التي يلحقه به، وتزداد هذه الصعوبة حين يعرف تكوين الأستاذ العلمي. كيف لا وهو الذي تحصل علي الإجازة من كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، ثم حصل علي شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة توبنغن بألمانيا الاتحادية؟

     إن هذه الازدواجية في التكوين هي التي أعطت للأستاذ هذه الأصالة والتميز في أطروحاته. فهو علي اطلاع مهم فيما يخص العلوم الشرعية، ثم علي اطلاع علي الفكر والفلسفة الغربية خصوصًا من معينها وفي عقر دارها. هذا التنوع في التكوين الذي يجمع بين الثقافة الذاتية والثقافة الأخري من النادر جدًا أن تجده عند العدد الكبير من المفكرين العرب خصوصًا الحاليين وحتي عند من سبقهم. لذلك للأستاذ رضوان السيد خصوصيات فريدة تحيلك علي الشخصية الموسوعية بالمعني الإيجابية للمصطلح؛ أي الاطلاع الواسع المفيد علي المعارف والعلوم والثقافات والتخصصات المتعددة.

     هذا التنوع والتعدد في التكوين أيضًا كانت له عدة مزايا أخري، يبقي أهما بالإضافة إلي ما سبق، كون الأستاذ من أكبر المفكرين العرب المسلمين انفتاحًا علي كل الأفكار والثقافات والحضارات، يتعامل معها تعامل الواثق من فكره وثقافته وحضارته، فلا يعرف التشنج والتعصب في طرحه وأبحاثه ولا يشعر القارئ بأي نفحة من نفحات التشدد والتمسك بالرأي مهما كانت درجة صوابه ونسبة قربه من الحق.

     ثم قدم معتز الخطيب رحلة في عالم رضوان السيد، ذكر فيها أنه بعد عودة رضوان السيد من ألمانيا نشر تحقيقًا لكتاب “الأسد والغوّاص” (مجهول المؤلف) في طبعته الأولي سنة 1978، وهي حكاية رمزية لعلاقة السلطة بالعالم، أو السياسة بالشريعة، وهي تشبه قصة “كليلة ودمنة” من حيث الشكل، وتختلف عنها من حيث المضمون؛ ففي “الأسد والغواص” يتعاون فيها العالم (الغوّاص) مع الملِك (الأسد) لإصلاح أمور المملكة. ثم نشر في سنة 1979م تحقيقًا لكتاب الماوردي “قوانين الوزارة وسياسة الملك”، كما نشر نصوصًا أخري كلاسيكية، وكان يكتب لتحقيقاته مقدمات تأريخية تحليلية في الفكر السياسي الإسلامي.

     ويبدو أن ذلك العمل التحقيقي كان جزءًا من مشروع طمح إليه وقتها، بالرغم من بعض الصعوبات التي واجهها بعد عودته إلي لبنان ومعاناتِه الانتماء إلي فئة المثقفين في لبنان، كما سأشرح لاحقًا، فقد أدرك أنه لن يكون مؤرخًا بالشكل المعروف للمؤرخ الذي يؤرخ للأحداث السياسية والاجتماعية، لكن ثقافته التاريخية الواسعة، وتحيزه للفكر السياسي تحديدًا، ونشرَه تلك النصوص المبكرة فيه، مكّنه من إدراك أوجه القصور في دراسات الفكر السياسي الإسلامي، فقد رأي أن الدراسات التاريخية المعاصرة والحديثة حول قضايا الصراع الداخلي في الاجتماع الإسلامي الأول، (والتي تسود فيها فرضيتان لهاملتون جب ولمارتن هايندز)، تتجاهل النص في فهم الأمور كلها، وحتي دراسات الباحثين الإسلاميين التي يُذكر لها فضيلة التركيز علي النص، تتجاهل عمل النص في التاريخ.

     وهكذا تبلور لديه أن ثمة منظومة فكرية سياسية إسلامية أو عالم ويتم فهم المصطلح وتتبعه في تاريخ الجماعة من خلال الوظيفة التي تؤديها في المنظومة. وهو ما قام به في كتابه “الأمة والجماعة والسلطة” (1984)، و”مفاهيم الجماعات في الإسلام” (1984).

اشتغاله علي المفاهيم وإنجازه دراساتٍ مفهومية مفتاحية (مثل الجماعة، والأمة، والفتنة، والسنة، والدولة . . .)، كان الهدف منه الوصول إلي إعادة تشكيل الحقل التاريخي لظهور الأمة وظهور الدولة في الإسلام، وهذا عمل تأريخي بامتياز، لكنه ينتمي إلي حقل جديد في التاريخ يسمي تاريخ الأفكار أو التاريخ الثقافي، وهو أشد وضوحًا في كتابه “الجماعة والمجتمع والدولة” (منشور سنة 1997 وكان قد بدأ فيه سنة 1985) الذي افتتحه بالحديث عن “التاريخ والتاريخ الثقافي”.

     وتأريخ الأفكار فرع نشأ في النصف الأول من القرن العشرين، وربما استقل علمًا برأسه في بعض الجامعات كما في السويد مثلًا. والفرق بين التاريخ وتاريخ الأفكار أن مؤرخ الحدث السياسي معرّض للوقوع في أسر الحدث نفسه، وأسر الجزئي والقريب والمادي الملموس، أما مؤرخ الفكر فهو مرتبط، بحكم طبيعة مجاله وتفكيره، بالنص أو النصوص، وكان رضوان السيد أقرب لهذا اللون، ودراساته الأولي تنتمي إلي هذا الحقل تحديدًا، فقد أدي تطور الدراسات التاريخية ودراسات نقد النص إلي تشكل خبراتٍ تقنية ونقدية متنوعة أتاحت لرضوان وجيله البدء بكتابة التاريخ المفهومي والأيديولوجي لثقافتنا الوسيطة، وهذا التاريخ يقرأ المفاهيم والتوجهات والأفكار: السائدة، والهامشية، والمعارضة. ويتصدي لعرض الأيديولوجيات الكامنة وراء التصرفات والأعمال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والرمزية / الأخلاقية.

     وقد أوضحَ الوظائف المنوطة بهذا التأريخ وهي وظائف ضخمة ومهمة تتمثل في: “العرض الكاشف” من أجل الفهم والوظيفة والدورن وطرائق العمل والاشتغال. “والعرض الناقد”، بمعني التحليل والمقارنة والوضع في السياق ومحاكمة الفكرة والرؤية استنادًا إلي المرجع الأيديولوجي الذي تزعم الاستناد إليه. و”العرض المحرر”، بمعني الاستيعاب والتجاوز عن طريق التحديد في الزمان والمكان.

     وتأريخ الأفكار كان أول شئ لمسته في كتابات وتفكير رضوان السيد، بل كان أبرز ما جذبني وأمتعني فيها، بالرغم من عدم ولعي بتاريخ الأحداث علي الطريقة التي درسناها في المدارس والجامعات والتي ربما لا أزال أحمل مواريث نفوري منها.

إلا أنه لم يستمر في ممارسة تلك الوظيفة التأريخية الضخمة؛ ولعل ذلك يعود لأسباب عديدة، ترجع لأمرين رئيسين:

الأول: تلك التحديات التي واجهها بعد عودته إلي لبنان والالتباسات التي أحاطت بدوره وتخصصه ودخوله الوسط الثقافي اللبناني، بل بهويته الثقافية. والثاني: إكراهات أحداث الثمانينات وما بعدها، التي لابد أن تفرض نفسها علي المفكر المهموم بشؤون أمته.

     فيما يتعلق بالأمر الأول فإن رضوان السيد درس في المعهد الديني في لبنان علي أيدي أساتذة مصريينن ثم رحل للدراسة في الأزهر في مصر، ثم لم يلبث أن سافر إلي ألمانيا ليعود إلي لبنان أواخر 1977م، يعني ذلك أنه كان بعيدًا تمامًا عن البيئة الثقافية في لبنان، وكان مفتقرًا لمعرفة حساسياتها (اليسارية واليمينية)؛ لأنه لم يعشها أثناء تكوينه العلمي والفكري فضلًا عن الانتماء إليها، فقد كان يتنفس أجواء مختلفة في مصر وألمانيا.

     وفي لبنان علي وجه الخصوص، للثقافة والمثقف صورة ومعني خاص، فهو مرتبط أولًا بالعلمانية، فلا يمكن أن تكون مثقفًا وأنت غريب عن هذا المصطلح والمفهوم. كما أنه لم يكن يليق بالمثقف أو من يريد أن يصبح كذلك أن يتعاطف مع الناصريين؛ لأنهم سذّج وعوامّ، ولا ينتمون حقًا إلي اليسار التقدميّ! وكانت عواطف رضوان وقتها أقرب إلي الناصرية. “فالمثقف اللبناني كان يملك لنفسه حينها صورة المثقف الفرنسي العلماني المعارض، وهو في أكثر الأحيان يعرف ما لا يريده أكثر مما يعرف أو يهتم بمعرفة ما يريده، ثم إنه، بحكم علمانيته اليسارية المنزع غالبًا، لا يري أن الدين يمكن أن يكون موضوع دراسة علمية، ومن هنا فقد أقبل المثقفون اليساريون العرب واللبنانيون منذ الستينات علي تأمل الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية تحت عنوان التراث. وقد اعتبروا أنهم موضوعيون تمامًا في هذا التأمل حين اعترف بعضهم بوجود عناصر ثورية في الدين، ثم حاولوا اكتشافها في دراسات متطاولة ما تنفك تصدر بلا توقف.

     وما تغيرت نظرتهم إلي الدين حتي اليوم، لكنهم تحت وطأة الأحداث منذ السبعينيات أصدروا حكمًا محددًا علي الإسلام اعتبروه بمقتضاه ثورانًا رجعيًّا ضد الحداثة ومخاطرها وتحدياتها. وعندما تصدعت جبهاتهم بانهيار الأحزاب والحركات اليسارية في لبنان وغروب الشيوعية الدولية في العالم، اندفع كثيرون منهم إلي أحضان الليبراليات الجديدة ذات الجذر العلماني، فتغيرت آراؤهم في كثير من الأمور باستثناء الدين، الذي ظل يعتبرونه أنثروبولوجيا سكونية الجوهر، مستعصية علي التغيير.

     ولهذا المعني للدين، وتلك الصورة للمثقف في لبنان، واجه رضوان السيد تحديات عديدة وتعرّض لمواقف طريفة، كانت كلها تدور حول طبيعة هويته، أهو مثقف أم شيخ؟ فكونه ليس علمانيًا واضحًا وصريحًا، مع حملته علي مسار العلمنة العربية في بحث نشره إبان سنة 1980، كل ذلك تَسَبب في تبخر حماس بعض أساتذة الجامعة الأمريكية له، فلم يتم قبوله أستاذًا لكرسي الشيخ زايد للفقه الإسلامي بالجامعة وكان قد رشح له. كما أن كونه درس في الأزهر وأصدر بعض التحقيقات التراثية وكونه متخصصًا في الدراسات الإسلامية جعل المثقفين وقتها يصفونه بأنه شيخ أو فقيه وإن لم يكن يلبس عمامة! حتي إنه تهرب من هذا حين تقدم إلي المعهد العربي للإنماء في بيروت فور عودته من ألمانيا قائلًا: “إنني أحمل شهادة دكتوراه في الفلسفة أو في الاستشراق”، وتم قبوله ليصبح بعد ذلك بسنتين رئيس تحرير مجلة المعهد البارزة “مجلة الفكر العربي” ثم مديرًا للمعهد نفسه (1982-1985).

     إلا أن د.معن زيادة حاول حل تلك المعضلة فقال له: “أنت لست شيخًا واعظًا كما أنك لست فقيهًا بالمعني التقليدي لذلك، لكنك تعرف كثيرًا في الأدبيات العربية القديمة، لذا فأنت مختص في التراث”!، وإن كان هذا التحديد لم يعجب وضاح شرارة زميله الآخر في المعهد، فقال له: “أنت بارع في تحقيق النصوص القديمة، لكنك لست بارعًا في قراءتها ودراستها، فما رأيك لو اشتركنا معًا: أنت تحقق النص، وأنا أكتب مقدمته الدراسية!”.  

مقالات من نفس القسم