أحمد برحال
متهدل الثياب، منفوش شعر اللحية، حافي الرأس، جاء يجري كباحث عن الحقيقة، انسل من حَلقةِ علمٍ لأحد عظماء التاريخ. وقف لوقت قصير وبدأ يشير بأصبعه في كل اتجاه، داوم على حركة دائرية لجسده النحيف حتى خِفْتُ من أنه سيسقط من سرعة الحركة، توقف، أشار إليَّ بسبابته، وقال:
إنه يعيش دون حواس، لقد فقد كل حواسه.
قالها واستمر في الدوران لمدة زمنية غير قصيرة، فأطلق قهقهات متواصلة بصوت مرتفع، فبدأ يعدو مغادراً، وأمارات الفرح تبدو على أسارير وجهه المرتخية.
غيرت الوضعية التي كان عليها جسدي، استدرت يمينا، ثم شمالا، نظرت إلى حذائي، لأخاطبه بجملة لم أفهم مقصودها إلى الآن، قلت له بلغة صامتة:
ما أتعسك أيها الحذاء! تبا لك ولصانعك.
لا أدري ما السبب الذي جعلني أشتم حذائي.
ــ أَ لِأنه قادني إلى هذا المكان، ولولاه ما كنت هنا، لألتقي بهذا المخلوق، أم هو فقط صَبٌّ للغضب في أقرب الأقرباء، وفي هذه الحالة لم أجد قريبا إليَّ أكثر من حذائي.
أُصبت بصدمة فبدأت لعبة الإعادة، أعيد الجملة التي ضربني بكلماتها وغاب، ولم أتذكر كم مرة أعدتها، ثم اشتعل داخلي بجذوة السؤال:
من هذا الذي فَقَدَ حواسه ويعيش من دونها؟
فوجدت إشارة أصبعه جواباً شافياً عن استفساري.
ماذا يعني بالحواس؟
هنا فكرت في أشياء كثيرة، حواسي المباشرة، والحواس التي تعيش في إحساساتي، في شعوري، في ردود أفعالي، في غضبي، في فرحي، في إدراكي لمعاني بعض الجمل والكلمات، في تأويلي للكلام الذي أقرأه أو أسمعه، في فهمي للإشارات، في تواصلي مع الناس بشكل عام، فأدركت أن الإنسان يعيش بحواسه المتوارية، ويفسر بها العالم من حوله أكثر مما يعيش بحواسه المباشرة، وتذكرت الآية الكريمة” فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ” فجمد الدم في عروقي، وانثابني إحساس غريب، إحساس تمتزج فيه الرهبة بالثقة.
رسمت صورة هذا الشخص الذي يعيش بدون حواس في مخيلتي، حاولت أن أتخيل أنني المعني بكلامه، وأني أعيش دون حواس، فكيف ستكون هذه الحياة؟
تصورت ذلك فقط :
ستكون ظلاما دامسا.
صمتا مطبقا.
مرارة دائمة.
كما أن كل الروائح ستتحول،
إلى بخور بطعم الموت.
استدركت:
لكن ألا يقصد صاحبنا عكس هذا تماما؟
ألا يقصد بموت الحواس:
الفهم الذي غاب ويغيب عنا لحقائق الأشياء.
ربما يشير إلى موت العلاقات الدافئة بيننا؟
أو اللمسات الإنسانية التي افتقدناها في الفعل؟
هل يشير إلى البلادة التي أصبحت تعلو أذواقنا؟
ربما يقصد نظرنا القصير الذي يجعل مصالحنا في المقدمة؟
و لماذا لا يعني الأحاسيس الجميلة التي ماتت فينا؟
وأخيراً :
لماذا لا نأخذ كلامه على محمل الهزل؟
ولنقل إنه يتحدث فقط من أجل أن يتحدث كما يفعل الكثير منا، وانتهت القصة.
التفت فرأيت سَبّاباتٍ تقول:
لا، بحركة أفقية لا تكاد تتوقف.
وعيونا تذرف الدمع.
قلت:
لا شك أنها أدركت الحقيقة.
فتوسَّلتُ :
ـ من فضلكم أخبروني بها.
22/12/2020