عيون نحو الداخل .. سيكولوجيا الأدب في رواية “حرير الغزالة”

حرير الغزالة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لماذا قد يرغب شخص ما في أن يبحث لنفسه عن اسم آخر غير الذي وُلد به؟ وأن يتمسك بذلك الاسم كأنه يُشبهه أكثر من ذلك الذي اختارته له الحياة!

أيضاً؛ لماذا قد يمنح ذلك الشخص لمن حوله ألقاباً قد تُشرفهم أو تُحقرهم أو حتى تُعيد تعريفهم على نحو مُغاير للمألوف، تعريفاً ربما يخص من ألقاه أكثر مما يخص صاحبه!

طرحتُ على نفسي ذلك السؤال أكثر من مرة خلال قراءتي لرواية “حرير الغزالة” للكاتبة العُمانية جوخة الحارثي. فالبطلة التي منحتها الكاتبة إسمان:ليلى؛ الاسم الذي أسمتها به والدتها بعد أن ألقت بها في الهواء داخل قُماطها، و”غزالة”؛ الاسم الذي اختارته لها “سعدة” أمها الثانية التي منحتها حليبها بعد أن رفضها ثدي أمها الحقيقية، فالتصق بها والتصقت بهحد أن عاشت حياتها كلها تُصدق أن ذلك الاسم ينتمي إليها أكثر من أي شيء آخر.. وكأن التخلي عنه كان سيُمثل بالنسبة إليها التخلي عن طفولة كاملة عاشتها تحت سماء قريتها البعيدة، قرية “شعرات باط” التي تغير اسمها أيضاً مع الأيام ليُصبح “الواحة”، وليكون تبّدل الأسماءتيمة مصاحبة لكل ما يُحيط بها، وتكون الأسماء الغير مألوفة مثل “حرير”؛اسم صديقتها المُنسل من نسيج حياتها المُترفة، و”زهوة”؛ الطفلة التي أخذت معها زهوة الحياة وماتت، و”آسية”؛ الحزينة المتأملة، أختها في الرضاعة التي حملت معها حزنها وحزن “غزالة” ورحلت.. معاني لحياة كاملة أكثر من كونها مجرد أسماء لأشخاص يحيطون بها.

على ذلك النحو منحت “غزالة” من أحبتهم ألقابًا تُشير إلى رؤيتها الخاصة لهم، مثل: العازف، مغني الملكة، الفيل.

فالعازف الذي ربط حياته بآلة الكمان ملتحقاً بأوركسترا “السلطان”، كان هو أول من عزف بأصابع رقيقة على أوتار مشاعرها فتزوجته، حيث تكشفّت شخصيته عبر النص بدايةً من رحيله الذي ظهر في الجزء الأول من الروايةعلى أنهقرار غدرٍ بأم وطفلين، بينما – وكجزء من الحيادية الواقعية التي تمنحها الكاتبة لشخصياتها – سنجد مع نمو الشخصية أن ذلك الرحيل كان نتيجة لانعدام التناغم بينهما واختلاف رؤية كل منهما للحياة..

“كان العازف مغمض العينين على نغمته يبدو في بيته الحقيقي، بيت الموسيقى، لا بيت غزالة والأولاد.”

“أدركت بعد سنوات أن وجوده في بيتها كان شبحياً، مهدداً بالزوال، لم ينغمس في أي تفاصيل للحياة اليومية، لم يهتم أن ينتقلا من شقة الإيجار إلى بيت يملكانه، بفناء يلعب فيه الأطفال، وحديقة يزرعان فيها الورد والطماطم. لن يزرع العازف شيئاً له جذور، لن يدقّ مسماراً واحداً في جدار الشقة ليعلق التذكارات.”

“إنه العازف المنفرد في حياته، وإن كان المتوحد مع فرقته في عمله، إنه الريح لا الجذور.”

بعكس ما حدث مع “مغني الملكة” الذي ظهر في الجزء الثاني من الرواية في شخصية رسام عراقي يعيش في السويد، يُبدي اهتماماً وعناية بها ويستمع إلى حكاياتها كل ليلة، ويحكي لها أن المشاهد التي تحمل درجات اللون الرمادي في الأفلام، ما هي إلاّ تجسيداً للجوانب المظلمة من النفس البشرية والسلطة، وتجسيد أيضاً لحلم كل فنان مهاجر…

لم يكن مغني الملكة مغنياً، كان رساماً في مجلة كوميكس. ولم تكن هي ملكة، كانت غزالة أو ليلى. ومعه وبه تدفقّت كل حكاياتها.”

حتى ذلك اليوم الذي سيحدث فيه صدام بينهما بعدما سمحت لنفسها أن تخلق مساحة لنقد أعماله، تلك المساحة التي لم يتقبلها هوفأضاء رفض التقبل ذاك الوجه الآخر من شخصية تُغلفها الأنانية وحب التملق،وتُبرز عقد نفسية لم يستطع التخلص منها، عقدٌ تُشير إلى طفولة لم يُفارقها حزام أبيه! لتتحول العلاقة بينهما من منطقة آمنة تلجأ إليها غزالة آخر الليل، إلى علاقة متوترة يُعزز توترها عدم ثقته بنفسه؛ والذي يتكشف أيضاً بسلاسة عبر النص ليمنح الشخصية عُمقاً يتماس مع القارئ فيجعله يُشارك في تأويل الأحداث وتكوين الشخصيات على مدار الرواية.

أما الرجل الثالث الذي منحته لقب “الفيل”، موحياً بضخامة وقوة قادرة على كسح مشاعرها وشخصيتها، حيث تقول:

 في عام الفيل، دخل الفيل إلى متحف الخزف؛ قلب غزالة، فحطّم كل شيء بجهل خرطومه..

ليكتمل بقصته مثلث الحب؛ ذلك الحب الذي ظلّت غزالة تبحث عنه كوسيلة للشفاء من فُقدان قديم لصديقة طفولتها آسية،بعدما رحلت بين يوم وليلة فاختفى أثرها للأبد، وظلّ وجودها داخل النص شبحياًلا يُخلّف أثراً واضحاً على حياتها!

فقد ظهرت شخصيته في آخر النص من خلال عين شخص آخر -عين صديقتها حرير- أنه ما هو إلا إنسان عادي، وأن الجفاء والقسوة اللذان كونتهما عيني غزالة كصورة له تتمثل للقارئ بشكل عميق ومُصدّق،هي مجرد صورة شخصية تماماً لرجل يتألم مثل كل الأشخاص الذين يحملون في دواخلهم معاناة ما، حيث كانت معاناته وغصته الشخصيةتتمثل في ابنته المصابة بمتلازمة داون.

تلك الألقاب التي ألقتها غزالة على حياة كل من أحبتهم؛ لتختزل بها صفاتهم عبر رؤيتها الخاصة لهم ولما تحتاجه منهم، وهذا التناقض بين تلك الرؤية وبين حقيقة كل منهم، وكذلك التكشف لدواخل الشخصيات وسيكولوجياتهم الذي تكون في ذهن القارئ ببطء عبر النص، لم يكن فقط إضاءة لمشاعر وحياة وتاريخ وصفات كل من تلك الشخصيات الذكورية المحيطة ببطلة الرواية، بل كان انعكاساً وتعميقاً لشخصية غزالة نفسها ورؤيتها للأمور وللبشر من حولها، عبر الزمن الذي عاشته في القرية أو بعد انتقالها إلى المدينة..

تقول الكاتبة: تسلّل الزمن كأفعى وسكن في شقوق المرآة والأيام، حتى إذا سكنت المرآة تفتحت الشقوق وانسلّ الزمن، تحوّلت أفعاه إلى غول وواجهني. من أنت؟ أنا الزمن. قيل أنك تداوي الجرح لا تُلهبه. ذلك حين أجري وأذوب لكني مُستكن ومتربص. لم أنت غول؟ لم أكن قط أقل من ذلك.

لا شك أن “جوخة الحارثي” تتمتع بأسلوب سرد مميز يبتعد تماماً عن الأسلوب الكلاسيكي، كما تمتلك نَفساً خاصاًيستطيع القارئ تمييزه من نص لآخر، خاصةً فيما يتعلق بحضور الأصوات النسائية وسرد الحكايات عبر أفواههن، سواء كانت حكايات عن الماضي أو الحاضر. كما أن الفنيات التي تتبعها في الكتابة والتي تجعل تكوين النص أشبه بلوحة كبيرة من البازل يُشارك القارئ في إكمالها قطعة قطعة، عن طريق وضع تأويلات للأحداث وجمع للصور المتفرقة للشخوص، هذا بالإضافة إلى امتلاكها للغة متقنة -تميل إلى الشاعرية في بعض الأجزاء-، مُعتنى بمفرداتها وتركيب جُملها وضبط إيقاعها داخل الفقرات.. لكن الكاتبة في هذا النص بالذات لم تكن معنية بسرد أحداث حكاية بقدر ما اعتنت بتسليط الضوء على تفاصيل ومشاعر يُمكن أن تُشبه تفاصيل أي فتاة عاشت في تلك المنطقة الجغرافية، أو حتى في مناطق أخرى من العالم، لذلك فإن الحكاية الأساسية هذه المرةلم تكن حكاية الصحراء والأفلاج والقرية، بقدر ما كانت حكاية لأبسط التفاصيل الحياتية الخاصة بساكنيها، حيث تُعنى الكاتبة في نصوصها عموماً بتوثيق تلك التفاصيل على بساطتها: تفاصيل الطعام والملبس والعطور والموسيقى، وحتى الحلوى التي كانت مشهورة في الماضي.

تمنحني قراءة مثل تلك التفاصيل الخاصة بالفترة التي عاشها جيلي -فترة الثمانينات والتسعينات- تأكيداً على رؤيتيبأن الأدب لم يُخلق فقط لتصدير رسائل عظيمة، أو إلقاء الضوء على أحداث كبيرة مثل الحروب أو الثورات أوالكوارث.. بل إن توثيق أبسط التفاصيل الحياتية لسكان منطقة ما، خصوصاً لو كانت منطقة نائية لم يسمع عنها أحد، يُعد في حد ذاته رسالة عظيمة، لأن عدم توثيقها في ظني ربما يمثل خيانة لتاريخ لا يستحق أن يختفي أثره لمجرد أنه لم يكن جزءًا من حدث كبير..ولأن مثل تلك النصوص تُنير أثناء قراءتها مناطق معتمة في ذواتنا، مناطق تحمل على بساطتها وعورة ما!

في رواية “حرير الغزالة” الذي اختارت الكاتبة عنوانها لتكون تمازجاً بين اسمين لصديقتين تدور الحكاية كلها في أفقهما، كما اختارت أن يعتمد سردها المتدفق بتكثيف شديد على تداعي ذاكرة كل منهما لينتقل القارئ خلاله بين أكثر من زمن وأكثر من منطقة..في هذا النص لا يتبع القارئ خيطاً لرحلة أو ينتظر حدثاً ما، هو فقط يتفرج على شاشة سينما ويتفاعل مع ما يُشاهده من خلالها. ربما يطرح أيضاً أثناء مشاهده أسئلة من نوع: ما غاية تلك الحكاية؟

لتكون الإجابة أن الغايات أحياناً تتمثل في أن يتعرف الإنسان عن طريق النص، وعن طريق حكايات الآخرين على نفسه، فليس بالضرورة أن يمتد خيط الحدث إلى نهاية منتظرة للحكاية. فمثل تلك النصوص لم تُكتب لقارئ يتتبع بشغف وجود مفاجأة ما في النهاية. فالكاتبة هنا لم تكن معنية بتسليط الضوء على التغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت في المنطقة، بقدر ما اعتنت بتقديم شخصيات نسائية عشن طفولتهن في تلك المنطقة وانتقلن إلى مناطق أخرى، حاملات معهن تلك الطفولة وجدانياً، بلا أي إقحام لتغيرات كبيرة قد تُفسد بساطة البحث عن ذوات تلك الشخصيات ووجودهن.

وعلى الرغم من محاولتي لإنصاف النص على غرار تلك الفكرة، إلا أنني لا أستطيع تجاهل المناطق الرمادية التي تشوبه على مستوى البنية السردية، فبدت معها الحبكة غائبة إلى حد كبير، كما بدت بعض الخيوط مبتورة وحضور معظم الشخصيات متوارٍ أمام حضور البطلة “غزالة” وصديقتها “حرير”، ذلك التواري الذي أدّى في رأيي إلى رسم شخصيات منقوصة، لا يكتفي نقصانها بمشاركة القارئ في استكمال ملامحها عن طريق تأويلاته وإجاباته على أسئلة ضمنية طرحها بنفسه بتحريض من النص. وعلى الرغم من أن ذلك قد جعل من النص رواية تفاصيل ومشاعر لا رواية أحداث! رواية تكشف الجوانب النفسية لأبطالها أكثر مما تحكي عنهم؛حيث تتحدث عن الحب كوهم -في حالة علاقتها بالفيل-، وكخلق ذرائع للتخلي -في حالة علاقتها بالعازف- وكاحتياج لتعبئة روح وحيدة كما حدث مع مغني الملكة!

إلاَ أن ما حدث هنا أن جوخة التي التي أحببناها في سردها عن الماضي كانت تتمسك في هذه الرواية بالحاضر بشكل كبير، كأنها هي نفسها تورطت عاطفياً مع حاضر شخصياتها خاصةً الشخصية الرئيسية”غزالة”.. فجعلها ذلك التورط وذلك الإغواء تُنصف زمناً على حساب زمن آخر، وبقعة جغرافية على حساب بقعة جغرافية أخرى، لتتحول بذلك خيوط الأحداث من سرد مكثف ومختزل إلى خيوط مبتورة أحياناً؛أكّد على بترها القفزات التي كانت أسرع من أن تخدم النص،خاصة في الجزء الأول من الرواية، بالإضافة إلى تداخل وعدم وضوح أصوات السرد في بعض الأجزاء.

تقول الكاتبة: تبدو هذه الحكاية بالية. كأنما لفرط قدمها لم يعد أحد يريد أن يسمعها. حكاية الحب هذه. تفرط قدم هذه الحكاية في نفس المنزلق كل مرة؛ التعلق والانتظار والأرق والشك والخذلان. إنها فعلاً حكاية عتيقة؛ تفجّع بشري على جوهر الوحدة في الإنسان، المتجدد إدراكه مع كل حب يفشل بالضرورة في توحيد كائنين منفصلين.

أستطيع القول أن “جوخة الحارثي”، الكاتبة العُمانية الحاصلة على جائزة “مان بوكر” عن روايتها سيدات القمر، والتي صدر لها ثلاث مجموعات قصصية: مقاطع من سيرة لبنى إذ آن الرحيل، صبي على السطح، وفي مديح الحب، وأربعة روايات: منامات – سيدات القمر –نارنجة وآخرهم حرير الغزلة.. تكتب كتابة محلية بقلم يعي أهمية امتلاك روح منفتحة على العالم، وأنها كلما توغلت في محليتها، كلما ثمّنت تلك المحلية وجودها عالمياً كسفيرة لبقعتهاالجغرافية التي عرفت كيف تضعها داخل إطار يُصدر تفاصيل مبهرة عنها، لتُثبتأن الأدب حتى وإن كان مغرقاً في المحلية، فهذا لا يعني أنه سيتوقف داخل حدود المنطقة التي يحكي عنها، ولنا فيأدب نجيب محفوظ نموذج واضح في ذلك.

مقالات من نفس القسم