صدام الزيدي
تتسم نصوص مجموعة “جرعة مفرطة” للشاعرة المغربية، أمينة الصنهاجي، بكتابة ما بعد حداثية، تتموضع في أفقية لـ”النص الجديد”، مشبعة بالعواطف والمشاعر والتفاعلات اليومية، وتغترف من واجهة التواصل، فتنجز نصًا طارئًا مشحونًا بالترقب والشتات ومأخوذًا بضوء نجمةٍ في البعيد.
المجموعة من إصدارات “الدراويش للترجمة والنشر” في ألمانيا، تحتوي على 42 نصًا، موزعة على قسمين، الأول حمل عنوان: “الغياب مزيل جيد لأقنعة المجاز”، تضمن 13 نصًا، وحمل القسم الثاني عنوان: “اغرورق الخيال بالتوق.. واصطفاني الغياب”، متسعًا لبقية النصوص.
تفتتح الصنهاجي مجموعتها الأحدث بنص: “إلى ملحاح”، وتختمها بنص: “خروج”، فيما تنجز- في الكتاب ككل- نصًا موغلًا في الانفتاح على المغايرة، وكتابة تتفلت من القيود الصارمة، إذ تنقل النص إلى مساحات أوسع برؤية أعمق وبمفردة أقل هدوءًا..
تنساب النصوص بخفة يدٍ على الكيبورد، فتصنع عالمًا جديدًا، لم نقرأه في الموروثات الشعرية العربية، حتى تلك التي تدعي أنها تنجز نصًا حداثيًا، لكنه متصحر ويفتقد للابتكار وروح التجديد، فنجده يراوح مكانه، بمفردات مستهلكة، يغرق في دائرة النمطية الرتيبة.
“وسط غابة فضوليين”
تستهل الشاعرة آخر نصوص المجموعة، بالقول: “أسير وسط غابة من الفضوليين، الملتصقين بي”، وبعده تتابع جملًا اعترافية هي تصوير لمشاهد متباينة في خبايا الذات، تخرجها إلى النور، فيما تجيد، ببراعة، وبشاعرية، الانتقال بين الأسطر، لتصل إلى القول: “لكني ضدي دومًا…… ومعك”. ونص آخر تعنونه بـ”وردة إلكترونية”، في سياق نزوعها لكتابة أحدث، متماهيةً في فضاء لا نهائي، نافذته الأولى: الواقع، أما الثانية- الأكثر صخبًا وشغفًا، فهي “الافتراض”، بمترامياته، وسمته التفاعلية التي انغمسنا فيها فطبعت حياتنا بملمح جديد.
من اللحظة “صفر” تندلع نصوص ومقاطع المجموعة، كأنما تكتب نفسها، دون سابق انتظار وترتيب، لكن فضاءً لدى الشاعرة، يجهد على كتابة “ما بعد قصيدة النثر”، ويجترح نصًا مليئًا بمفردة مستقبل، ومنجذبًا إلى المغايرة، في سياق تفاعلي، على أرض جديدة، مساحاتها بيضاء تنذر أفقيتها بمطر طارئ في دروب اللغة، عندما تحلق الكلمات في مساحات أكثر رحابة، خارج المألوف والاعتياديّ.
في أجواء المجموعة، يكون القارئ على موعد مع كتابة تنبع من شلال غير مرئي، متدفقةً كتلال في الغابة الإلكترونية التي يحجّ إليها الناس، ضمن رحلة افتراضية، تذوب معها الحدود والجغرافيا والأصقاع وكتل الإسمنت، لحساب نوافذ أكثر قربًا وأبعد مكانًا..
تنجز الصنهاجي، بلغة دافقة، نصًا مغايرًا، بين الاحتشاد والخفة، بين الارتباك والفرح، بين الحائط وألياف الضوء، بين الشغف والدهشة.. كتابة مكان ولادتها الأول، الفضاء الإلكتروني، أما طريقها فهي معبدة بالاشتياق، بينما حدائقها مؤثثة بالورد، وفكرتها قافزة من عدم.
تتصدر كلمة “قطوف”، واجهة الغلاف الرئيس للمجموعة.. والصنهاجي، إذ تفعل ذلك، إنما تعلن استمرار مشروعها الإبداعيّ، بكثير من الإصرار، فتخلع عن النصوص، كل تصنيف يضعها ضمن مساق حداثيّ بعينه، فثمة شجرة تمد ظلالها على الغابة الإلكترونية، عمدت الشاعرة، تحت ظلالها، إلى مقاطعة الماضي، فانتبذت فضاءً أبعد، في سعيها لعوالم أخرى، تحت سقف إلكتروني، باتساع مجرة من الخيال والرؤى.
“تقاعدت أصابعي عن النقر”
في سياق مبتكر، تحرر الشاعرة النص من قيوده، آخذةً القارئ إلى أفضية حالمة، تلوح في أرجائها راية “الحب” برغم امتلاء الجغرافيا بالحرب والأوبئة.. كتابة رشيقة تطلع من براكين في النسيان، تحلق بجناحين إلكترونيين، فنقرأ مثالًا: (انفلاتك من الصور)؛ (ننشرها لقطةً لقطة)؛ (صمت الحائط)؛ (الأبواب بلا معنى)؛ (أقفز للغيم الأبله أمامي)؛ (كي لا يعترف الباب بالريح)؛ (كي لا يتجمل اللقاء بالمسافة)؛ (التقينا حيث لا حضور)؛ (يسافر بلا أطراف)؛ (يدك التي لا تمتد)؛ (ترتب اللوحة ألوانها)؛ (وردة إلكترونية)؛ (محادثة)؛ (تقاعدت أصابعي عن النقر)؛ (البسمة الماكرة)؛ (لحظة مستقطعة لن تشيب)؛ (واحات من سراب)؛ (بين أصابعه السؤال)؛ (حين إشراق الصورة)؛ (وقتٌ يسيل)؛ (على طرف الترقب)؛ (يخبئ كسلًا لذيذًا)؛ (ماذا لو أرسلت وردة؟)؛ (ماذا لو أرسلت زهرة)؛ (ماذا لو أرسلت هاءات)؛ (ستعلبه الشاشة)؛ (ستفككها الشارات والأيقونات)؛ (وتركت الأزرق)؛ (أثير مشبع بالارتباك)؛ (الإطار المربع)؛ (الدهشة المتاحة)؛ (أصابع لم تحسن الحساب)؛ (أخربش صورتك)؛ (الحرف البارد)؛ (السماعة سيلقي بها الوقت إلى العطب)؛ (أنقر بعيني)؛ (نوتة تتغنج)؛ (أنديلا وهي تردد dance; dance; dance)؛ (على قارعة الأرقام البليدة)؛ (في عالم هش كهذا)؛ (في خزانة الحرب).
أمينة الصنهاجي، شاعرة ومترجمة من المغرب. صدرت لها 5 إصدارات: “غابة التناقضات”، 2009؛ “يطلي حروفه بالضجر”، 2010؛ “البطروس الغريب”، 2020؛ “حذر الوداعة”، 2021؛ “جرعة مفرطة”، 2021. هي عضو تحرير مجلة “نصوص من خارج اللغة”، والمنسق العام لمؤتمر “النص الجديد/ ما بعد قصيدة النثر” بدوراته الأربع بالقاهرة.
…………..
*نقلا عن “ضفة ثالثة”