عبد الهادي الفحيلي: الكتابة انفتاح للجروح واحتفاء بالألم

عبد الهادي الفحيلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورها: رضوان بن شيكار

تقف هذه السلسلة من الحوارات كل أسبوع مع مبدع أو فنان أو فاعل في أحد المجالات الحيوية في أسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد إنتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.

ضيف حلقة الأسبوع   الكاتب عبد الهادي الفحيلي

1.كيف تعرف نفسك في سطرين؟

عبد الهادي الفحيلي من مواليد الدار البيضاء سنة 1976، أشتغل بالتدريس. أكتب القصة القصيرة. صدرت لي مجموعتان قصصيتان: “شجرة الحكاية” و”مثل تفاحة مقضومة”.

2.ماذا تقرأ الآن؟ وما هو أجمل كتاب قرأته؟

من عادتي أن أفتح عدة كتب في نفس اليوم حسب حاجتي ومزاجي. لكني سأذكر عنوان كتاب واحد، من بين ثلاثة، أقرأ “فيه” هذا اليوم: “الشعور المأساوي للحياة” للمفكر والروائي الإسباني ميغيل ده أونامونو. أجمل كتاب هو ما قرأته وأعدت قراءته، وكثيرة هي الكتب التي قرأتها وأعدت قراءتها. الكتب كلها جميلة، يكفي أن تفتح أحدها وتقيم فيه إلى أن تطوي آخر صفحة ثم انظر ماذا حدث في داخلك. لكني ما أزال أحمل مذاق “ألف ليلة وليلة” في حلقي رغم انصرام ما يناهز ثلاثة عقود منذ أن تعاملت مع الكتاب أول مرة وأنا طفل. لم أنس دهشة القراءة الأولى رغم إعادتي قراءته وفي نسخ متعددة.

3.متى بدأت الكتابة؟ ولماذا تكتب؟

لا أدري إن كان “الإنشاء” الذي كتبته في القسم الرابع ابتدائي يدخل في خانة الكتابة. لم تُمحَ صورة معلمة العربية السمراء القصيرة من رأسي، وهي تحمل ورقة إنشائي “وحيدة” بعد أن وزرعت على الآخرين أوراقهم، وتقول لي: “الفحيلي، ستصبح كاتبا”. كنت خجولا جدا ولا أدري لماذا غرقت عيناي في الدموع وطأطأت رأسي. كتبت مواضيع وحكايات إلى أن بلغت السنة الرابعة من المرحلة الإعدادية فنظمت خمسين بيتا من بحر الطويل عن فلسطين، وتلك كانت بداية علاقة خاصة مع الكتابة.

عادة لا يسأل الإنسان نفسه “لماذا يكتب؟”؛ أجده سؤالا “وجوديا” مستعصيا لا جواب له. أكتب لأني أكتب. ذات صدفة وجدت نفسي أكتب، وهأنذا، مثل غيري، أكتب لأني لا أجيد فعل شيء آخر غير الكتابة.

4.ما هي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟

لم أغادر الدار البيضاء بشكل “واع” إلا عام 1997 لأستقر سنتين في مدينة طنجة، طالبا في مركز لتكوين الأساتذة، فاكتشفت أنها “عالم صغير” وفتنت بشوارعها الملتوية وبجمال نسائها. فتنت بليلها المفتوح على البحر وعلى الدخان الأزرق وعلى ليل إسبانيا المترامي هناك في الضفة الأخرى، ليلها الواعد بالحلم. تسكعت فيها أشد ما يكون التسكع وصارت الدار البيضاء جحيما لا يطاق عندما أعود إليها في العطل. عُيّنت في الصويرة فكان لها طعم آخر، وفيها التقيت ب”فحيلي” آخر غيره في طنجة، وأدركت كم يفعل المكان فينا ويعجننا بعناصره وأشيائه. وأنا الآن أبحث عن مكان خليط بين طنجة والصويرة، مكان أستطيع فيه لقاء البحر في “رمشة عين”، وأعانق فيه ليلا خليطا من ليالٍ.

5.هل أنت راض على إنتاجاتك وما هي أعمالك المقبلة؟

ما هو الرضا؟ ألا يعدو كونه وهما نقضي رحلة العمر ونحن نلهث وراءه؟ لو كان الرضا يتحقق فعلا لانتهينا من الحياة. فما بالك بالكاتب؟ سئلت يوما إن كان يروقني ما أكتب، أجبت دون تردد: “لا”. الكتابة سير على الأشواك، على شظايا الزجاج المسنونة، انفتاح الجروح واحتفاء بالألم، فوضى عارمة من السخط، تشظٍّ، فكيف يكون ذلك مرضيا؟ ثم إني لا أكتب الحقيقة، بل أكتب ذاتي.

أشتغل الآن على كتاب قصصي وعلى رواية أخذا مني وقتا طويلا، لكني أتريث في نشرهما لأني لا أريد أن أضع نقطة النهاية لهما. أجد ما أكتب سخيفا لولا تشجيع الأصدقاء المقربين وتحفيزهم. لكن رغم عدم الرضا هذا فثمة إصرار على اقتراف الكتابة. 

6.متى ستحرق أوراقك الإبداعية بشكل نهائي وتعتزل الكتابة؟

عندما تُشل يداي وتعمى عيناي… عندما أموت. لا أكتب من أجل أن يقال عني كاتب، ولو أن ذلك يطل من كوة خفية من جهة النفس، أكتب إمعانا في التواجد ورفضا للموت الذي يحيق بنا من كل الجهات. الكتابة مراوغة للموت ليس إلا، محاولة لإغاظته والسخرية منه.

7.ما هو العمل الذي تمنيت أن تكون كاتبه؟ وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟

ثمة أعمال كثيرة سحرتني وتمنيت فعلا لو أكون كاتبها. يحدث ذلك للحظات ثم يتراجع ذلك الإحساس إلى منطقة معتمة في النفس إلى أن “ينبثق” أثناء قراءة عمل ساحر آخر. حدث لي ذلك في بداية انفتاحي على أعمال جبران خليل جبران خاصة “النبي” و”الأجنحة المتكسرة”، كنت في الرابعة عشرة من عمري. بعد ذلك راودني وأنا أقرأ “قصة حب مجوسية” لعبد الرحمن منيف، كنت في السادسة عشرة من عمري، وكانت أول رواية أقرؤها لهذا الكاتب الكبير. قرأت لسي أحمد بوزفور فتمنيت لو كنت كاتب نصوص عديدة فاتنة له. قرأت أشعارا تمنيت لو كنت صاحبها. لكني الآن أتمنى لو أكتب تلك “الأشياء” التي تخنقني، تلك الكلمات التي تتزاحم داخلي ولا أجد في أحيان كثيرة الحيلة أمامها.

أرى أن الكتابة ذاتها طقس، لكني أمارسه بنوع من المزاجية. لا وقت محددا لذلك، قد تثيرني كلمة أو جملة أو خاطر أو لوحة أو لقطة من فيلم أو معزوفة أو أغنية أو مشهد بسيط من الحياة اليومية ومن التفاصيل الصغيرة، فأبدأ نصا جديدا ثم تتطور العملية بعد ذلك تفصيلا وتنقيحا وشطبا وإضافة. يكفي أن يكون النص ماثلا أمامي فأخوض فيه دون تقيد بطقوس أو أوقات معينة أو أفضية هادئة أو شاعرية؛ فأنا أكتب في المقهى وفي البيت أو أثناء سفر، آناء الليل والنهار حسب المتاح.

8.هل المبدع والمثقف دور فعلي ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها أم هو مجرد مغرد خارج السرب؟

لهما دور طبعا.. طوال التاريخ كان المبدع والمثقف عموما يشكل سلطة، وإن كان مفهوم السلطة هنا زئبقيا ومراوغا وليس بالمعنى المتعارف عليه. سلطة من حيث الرجوع إليه كلما استجد حدث أو قضية، رغم ما شاب هذه الدور من انحرافات واختلالات بفعل عوامل عدة صارت مكشوفة للعيان. وهنا علينا أن نقف عند مفهوم المثقف نفسه في ضوء ما استجد، مفهوم تشعب وتفرع وأصبح عائما وفضفاضا.

أصبح الواقع أكبر من الأفكار التي يحملها المثقف بل أكبر من أحلامه، حلم التغيير مثلا، بل إنه صار موجها لهذا المثقف وموجها لمواقفه. جرت مياه كثيرة في هذا الصدد وصار التخصص نهرا جارفا ولم يعد المثقف كما حُدّد مفهومه في أزمنة سابقة.

قد أجازف بالقول إنه صار يغرد خارج السرب فعلا وصار صوته متواريا بفعل أشياء كثيرة لا يسعنا المجال لحصرها، ولكن يمكن الإشارة لبعضها: في مجتمع يعلي شأن الخبز تصير الثقافة فولكلورا وهامشا موغلا في الهشاشة. في مجتمع يستأسد فيه المال والسلطة يتراجع المثقف إلى الصفوف الخلفية ويصير متفرجا محضا ينتظر الفرصة لتدبيج بعض الكلام من باب “احم احم نحن هنا”. في مجتمع يدجَّن المثقف ويصير بوقا من أبواق السلطة بدل أن يكون معارضا، لا تنتظر الشيء الكثير منه. في مجتمع يصير فيه الإعلام تافها ويتحكم فيه التافهون ائذن بتفاهة أفظع. طبعا هناك استثناأت لكن المناخ العام لا يبشر بخير. ورغم كل ما ذكرت فما يزال الأمل يتأجج في صدورنا، وعلينا أن نناضل من أجل إعادة الأمور إلى نصابها ونعيد الاعتبار للمثقف والمبدع والفنان في زرع الحلم في النفوس والعقول… نحن في حاجة إلى المبدع الفنان والمثقف والفيلسوف حاجتنا للماء والهواء، وعلى الثقافة عموما أن تعود إلى الواجهة وإلا سننقرض بصفتنا كائنات تفكر.

9.ماذا يعني لك العيش في عزلة إجبارية وربما حرية أقل؟ وهل العزلة قيد أم حرية بالنسبة للكاتب؟

الكتابة وجه من أوجه العزلة، والكاتب منعزل مبدئيا وإلا لن يكتب، فهو يفعل ذلك منفردا ولو أنه يستقي مادته من المشترك. لكنها عزلة مختلفة ولا تعني الوحدة بالضرورة؛ يحمل الكاتب عالما في ذاته، فهو المتعدد والمتناقض والمختلف والمتصارع، كل شيء، وإلا لن يستطيع التخيل والإبداع وتشكيل تلك العوالم التي تحمل الصفات ذاتها كما يحملها هو؛ أي التعدد والتناقض والاختلاف والتصارع. إنه في عزلته بلد مزدحم كما عبّر الشاعر الإسباني رفائيل ألبرتي. وبهذا المعنى فالعزلة حرية بلا ضفاف ولا يدرك كنهها وحلاوتها إلا الراسخون فيها.

العزلة حاجة ملحة ومن لا عزلة له لا كتابة له. فالكاتب كائن مسكون بذاته وبعوالمه الداخلية، ولكي يحولها إلى كلمات يلزمه أن يوجد في صميمه هو بعد أن يستنفد صميم المشترك والعادي.

10.شخصية في الماضي ترغب لقاءها ولماذا؟

الشاعر أبو العلاء المعري صاحب “رسالة الغفران” لأسأله إن كان لكتاب القصة نصيب في الجنة.

11.ماذا كنت ستغير في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا؟

كنت سأغير الكثير، أهمه أن أعيد ترتيب الكتب التي قرأتها، وأن أكون شاعرا وموسيقيا.

12.ماذا يبقى حين نفقد الأشياء؟  الذكريات أم الفراغ؟

الذكريات حينما نسترجعها تؤُول إلى فراغ، والأشياء التي تمضي أو نفقدها لا يتحقق لها وجود مرة أخرى. ما فات كان ومضى. أتساءل دائما هل نتذكر فعلا حينما نستحضر الأشياء التي مضت أم أننا نخلق بدائل لها ونحن نوهم أنفسنا أننا نتذكر؟ أقله أننا لا نتذكر الأشياء كما حدثت فعلا. أعتقد أننا حينما نكتب ما نتخيل أنه ذاكرة فإننا نرميه في سلة المهملات، نتطهر منه ونمحوه.

13.صياغة الآداب لا يأتي من فراغ بل لابد من وجود محركات مكانية وزمانية، حدثنا عن مجموعتك القصصية: مثل تفاحة مقضومة. كيف كتبت وفي أي ظرف؟

هناك محركات للإبداع طبعا، لكنها لا تكون “ميكانيكية” يطبعها منطق بعض الأشياء كما تجري في الواقع من حيث عنصر الاقتضاء والسببية، بل هي محركات ثاوية في أعماق المبدع باعثها الاستعداد الذاتي والرغبة في الكتابة. كما قلت سابقا يكفي أن تثيرني أشياء بسيطة فأبدأ الكتابة. الأديب ذات متحفزة دائما للإبداع لا ينتظر وحيا أو، كما يردد البعض، أن يأتيه النص على أجنحة ما. شخصيا أكتب لأني أريد ذلك وأرغب فيه ما دمت أمتلك الأدوات المساعدة على هذا الفعل. أؤمن بعنصر الوعي في الإبداع، فالكتابة صنعة.

“مثل تفاحة مقضومة” مجموعة قصصية تتشكل من عشرة نصوص كتبت في مراحل متفرقة امتدت من 2009 إلى 2015 تاريخ طبعها ونشرها في مصر، نشرت أغلبها ورقيا وإلكترونيا ثم جمعتها في كتاب واحد. ليست هناك أسباب لنزولها، بل هناك سبب واحد هو فعل الكتابة نفسه.

14.ماجدوى هذه الكتابات الإبداعية وما علاقتها بالواقع الذي نعيشه؟ وهل يحتاج الإنسان إلى الكتابات الابداعية ليسكن الأرض؟

ما جدوى الحياة؟ وما جدوى الوجود على الأرض؟ الإبداع موجود بقوة الفعل والضرورة كضرورة الماء والهواء، كضرورة الحياة نفسها. تخيل حياتنا بدون فن ولا جمال، كيف ستكون؟ كيف يمكن أن نميز وجودنا عن وجود باقي الكائنات في الكون بدونهما؟ لولا الفن لما كان علم ولا تقنية. بالفن والإبداع استطاع هذا الكائن أن يعرف شيئا اسمه العلم، واستطاع أن يطور ذاته ووجوده، وأن يقبض على روح الأشياء من حوله. كما استطاع أن يخلق زمنه الخاص في تواز مع الزمن الطبيعي والفيزيائي. عندما وعى الإنسان ذاته اكتشف الفن أو اخترعه لأنه احتاج إليه، وتكفي إطلالة بسيطة على التاريخ الإنساني لندرك ذلك. ثم إن الحياة على الأرض هي ما فرض ذلك، فلو أننا استمررنا في السماء، كما تذكر الأسطورة والنصوص الدينية، لما احتجنا إلى هذا الوعي ومن ثمة إلى الفن وإلى الأدب.

15.كيف ترى تجربة النشر في مواقع التواصل الاجتماعي؟

لا أنكر فضلها علي وكيف ساهمت في التعريف بنصوصي وإيصالها إلى شريحة مهمة من القراء والنقاد والأدباء والإعلاميين وطنيا وعربيا. على الأقل لم يبق ثمة هاجس النشر أو التهافت على المنابر الورقية التي كانت إلى زمن قريب مثل محمية لا يؤمها إلا المقربون من القيمين عليها.

16.أجمل وأسوأ ذكرى في حياتك؟

 أجمل ذكرى عندما طرق الحب باب القلب، كان ذلك إيذانا بالمعنى الذي لم أكن أعرف له بابا. ثمة أشياء سيئة حدثت لكني لا أبالي بها لأني أومن أن ثمة أشياء حدثت وثمة ما لم يحدث، بمعنى أن ما حدث يصبح تجربة وكفى، وما الحياة إلا متوالية من التجارب.

17.كلمة أخيرة او شيء ترغب الحديث عنه؟

شكرا جزيلا لك صديقي الجميل على هذه الفسحة للبوح، وأرجو أن يعم السلام العالم وأن يعود الإنسان إلى إنسانيته. قليل من الحب يكفي لكي نرى الشمس أكثر إشراقا.

مقالات من نفس القسم