ضياء جبيلي
في واحدة من المحاولات الجادة، والمختلفة في الكتابة السردية العربية، تقدّم لنا ياسمين حنوش عبر تجربتها الفريدة حقاً، كما وصفها الكاتب والناقد عبده وازن في مقدمة الكتاب، قصصاً أبطالها مجموعة من النباتات والثمار المنتشرة على الأرض العراقية، شمالاً وجنوباً، غرباً وشرقاً، وهو أكثر ما يمكن أن يثر فضول القارئ ويحفّزه على القراءة والتعرّف على عمل تجريبي حداثي مميز. عمل يأخذنا بحدوده الزمانية والمكانية إلى أبعد مما كانت سترسمه قصص أخرى عادية.
إنها قدرة السرد على تطويع كل ما هو غير بشري، ومن ثم توظيفه بالشكل الذي ارتأته ياسمين بواسطة هذه القصص التي أفادت كثيراً من الغرابة والمحلية، لتضيف بذلك إلى عملها خصوصية وجمالاً ولمحة سحرية وإضاءة لا تهتم كثيراً بالجانب العلمي الأحيائي والبيولوجيا النباتية بقدر اهتمامها بالموضوع وصياغته فنياً وسردياً. كتابة من هذا النوع تُعدّ تحدياً وانحيازاً للفن في صورة مغايرة وخلاف المعتاد، تستمد قوتها من اللا مألوف والعجائبي الذي لا يبتعد عن الواقع، بل ينصهر معه ويأخذ منه كي يصل في النهاية إلى الغاية المنشودة، والتي من أجلها يكتب السرّاد قصصهم.
وإنها لتجربة فريدة حقاً أن تكون النباتات والثمار والأشجار شاهدة على الكثير من التحولات والأحداث الكبرى، وساردة مصائر وحيوات الإنسان أحياناً بتلك الطريقة، عبر سرد متسلسل منساب بشكل تودّ معه لو كنت نبتة، لتروي عنك ياسمين حنوش حكاية جديدة، قبل أن يطالك اليباس ويجرفك التوسع العمراني، فتصبح أثراً بعيد عين.
كل نبتة وثمرة، محلية كانت أو مهاجرة، تحمل قصة ومفارقة وإشارة إلى هويتها المكانية وجذورها. قصص الثمار نفسها، قصص الزرّاع والنساء المظلومات، قصص النشوء والازدهار ثم الاندثار. قصة الأرض والتربة وما يحيطها. إنه عمل كُتب لا من أجل التعريف بعالم النبات، بل كتاب إبداعي يكشف ببراعة، من خلال المخيلة الخلاقة، عما لا نعرفه من أشياء تلامس وجداننا نحن البشر، الذين سطونا على الطبيعة وجرفنا خضرتها كما يفعل الجراد. فمن لم يطله الجدب والجفاف سحقه الإنسان بالتمدد السكاني المريع.
وعدا ذلك، هناك الإشارة التي لا يمكن لعين أن تخطئها في مكان، والتي يمكن ملاحظتها في عنوان المجموعة: أرض الخيرات الملعونة. فعلى امتداد تاريخ هذه الأرض، أرض الرافدين، وكما لو أن ثمة لعنة حقيقية أصابتها وجعلت من خيراتها وبالاً على سكانها، لم يتمتع العراقي يوماً بخيرات بلده، فهناك دائماً الحروب، الاحتلال، والاقتتال الداخلي، الفساد والظلم الاجتماعي، وكل ما يجعل الفرد متشائماً حيال ما ينتظره. وهو ما يسرده لنا الصبّير والبلوط والزيتون والسدر، الجميز والعاقول، الصفصاف وعباد الشمس وغيرها الكثير.
لقد أجادت ياسمين حنوش في صياغة أفكارها عن طريق استنطاق النباتات والثمار، وتحويلها إلى شهود تقص علينا حكايات قد لا تحمل مثل هذا السحر في حال كان رواتها وشخصياتها من البشر. ولعل هذا هو أكثر ما دفع بالعمل نحو التميّز وأعطاه القيمة الفنية المرتجاة.
إنها ذاكرة النباتات الثمار إذن، التي قاقت الذاكرة الإنسانية في استحضار ما يخبئه الزمن من أحداث، وما تحتفظ به الطبيعة من أسرار كانت ستُطمر لمزيد من الوقت، لولا أنّ قلماً مثل قلم حنوش اصطادها أخيراً، ليخرجها لنا بهذا الشكل.