عوانس الكتب

فن تشكيلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسماء جزائري

يمكن أن تتحوّل المكتبات إلى مجازر دماؤها من غبار لكن ماذا عن مكتبات دماؤُها “كثرة التّلميع”؟

لأمبيرتو إيكو نظريّة جميلة حول المعرفة، إذ يرى فيها أنّ حجم معرفتنا الشخصيّة يتناسبُ طردياً مع الكتب التّي لم نقرأها في مكتبتنا، ويقصدُ إيكو هنا بالمعرفة إدراك حدود جهلنا وليس حجم المعلومات التّي نمتلكُها، فأنت بجمعك لذلك الكمّ الهائل من الكتب المرئيّة تحدّد ذلك اللامحدود ولو نسبياً داخل مكتبة خريطتها العناوين التّي لم تقرأها وهي جغرافيا معرفتك الذّاتية وما ينقصُك فعلياً، ويقُول صاحب اسم الوردة أن حجم المعلومات المتاحة مهوّل في العالم وبالرّغم من ذلك فهنالك من يدّعي معرفته  بمجال ما أو مسألة ما بشكل كامل، وللحدّ من ذلك وإدراك حجم تلك المعرفة الحقيقيّة يجب عليه أن يعرف ويمتلك دليلاً يؤكّد خطأ ذلك الافتراض بالمعرفة، وما من دليل أقوى من كتاب لم تقرأه عن موضوع تدّعي فيه المعرفة الكاملة، فالمعرفة هي معرفة حجم ما لا نعرفُه، لكن ومن خلال نظريّة إيكو يمكننا أن نأتي من الاتجاه المُعاكس، فبما أنّ الكتب التّي لا تقرأ هي معرفتنا لما لا نعرفُ فماذا عن الكتب التّي قرأناها  للحدّ الذّي لم تعد موجودة في خياراتنا، لم يعد تواجدها مقتصراً إلاّ على رفُوفنا؟ فهل تعنّس تلك الكتب التّي تتوقّف رغبتنا في قراءتها لمرّة ثانية أو لمرّة عاشرة لأنّنا لم نحرّرها من مكتباتنا الخاصّة؟

سنة 1879 ظهرت إحدى النّصوص التّي تطرّقت إلى تلك المساحة ما بين هوس جمع الكُتب وهوس القراءة حينما وصفها كاتب ياباني يُدعى موري سينزو ساخراً من معلّم كان يمتلكُ الكثير من الكتب إلاّ أنّه لا يقرأها، فأن تشتري كتباً لا يعني ذلك أنه لأنّك ستقرؤه،  وإذا اشتريت كتباً لأجل قراءتها فلا يعني كذلك أنك ستقرؤها، فالأولى يقصد بها مرضاً يطلق عليه  بيبليومانيا bibliomaniaوهي ما ينتهي الأمر عند الاقتناء وهذا الأمر يذكرنا بحادثة أمين المكتبة العامة بشارع بوطرسبورغ الدكتور ألويس بيكلر الذّي قام بسرقة 4500 كتاب وهي أكبر حالة سرقة مكتبيّة تحدث لا بغرض قراءتها بل لأنّه كان مهووساً بتجميعها، أمّا الثانية فهي تسوندوكو سنسي tsundoku sensei والتّي تعني مراكمة الكُتب لا نيّة في جمعها بل قراءتها لكنّها تتحوّل مع الوقت إلى عجز، وكتاباً بعد كتاب تعيشُ محاطاً بكسلك في فعل الشيء الذّي أردت إكماله، الأمر سيتحوّل في لحظتها إلى نوعٍ من الأسف ثمّ شعور بالعجز أمام الرّغبة، وكلّما رأيت تلك المكتبة تنتابُك حالة من الاختناق بدل المُتعة، هذا الارتفاع من الكتب يعني بالطريقة نفسها التّي تحدّث عنها أمبيرتو ايكو حول المعرفة هي معرفة مدى كسلك ومدى صغرك أمام رغبتك المضطهدة من قبل التّأجيل، لكن في عمل “الكتب التّي التهمت والدي” للكاتب أفونسو كروش ننزلقُ مع آل فيفالدو مثل سمكة تُحاول أيادي كثيرة الإمساك بها، القبض على ما يريد منّا الكاتب فهمه، فتظهر جليّة علاقة النّوافذ داخل عالم الكتب، فما إن تفتح نافذة حتى تقُودك إلى أخرى، وجلّ ما سنتتبعه هو تلك العناوين والأبطال الذّين يرتبطون فيما بينهم بالقراءة، فالأب فيفالدو بونفين الذّي اختفى من العالم أثناء القراءة سيكون اختفاءه حلقة جديدة في سلسلة القرّاء، وذلك عبر ابنه إلياس بونفين الذّي سيخرج بحثاً عن والده عبر أمهات الكتب، فمن جزيرة الدكتور مورو ودكتور جيكل ومستر هايد إلى الجريمة والعقاب ومن ثمة إلى فهرنهايت 451 سنشعر معهما بأثر الكتاب الحيّ الذّي يستمر في العيش بالتهام المزيد من القراء، فمثلما يتغذّى القراء من تعدد الكتب يتغذّى الكتاب أيضا من تعدد القراء، لذلك تعدّ إصابة كتاب ما بالعنوسة إصابة للقراءة ككلّ.

فكيف نكتشفُ أنّ كتاباً ما قد عنّس؟

الحديثُ عن الكتاب هو حديثٌ عن المكتبة والحديث عن المكتبات هو مرُور الإنسان رمزياً برغبته الأولى في التّجوال بمكتبة الإسكندرية التّي بناها البطالمة في مصر القديمة، منتقلاً إلى معابد الحضارة الآشورية والبابليّة التّي بها مكتبة آشور بانيبال بمدينة نينوى، متأملاً في القرن الرابع قبل الميلاد حيث أصبح من العاديّ جدّا أن تكون لك مكتبة خاصّة لكن ذلك كان منتشرا بين العلماء والأدباء بعد الملوك والمعابد وقد تردّدت هذه الإشارة في كوميديا أريستوفان كما جاء في عمل “تاريخ المكتبات”والتّي دلّت على احتمال وجود مكتبة لدى يوريبيدس وكان الفضلُ في ظُهور مكتبات خاصة يعودُ للفيلسوفين أفلاطون وأرسطو، رافق هذا الحدث انتشار حب الكتب وأصبح من الضّرورة أن تكوُن هنالك مكتبة داخل القُصور الأرستقراطية والفيلل ما جعل سنيكا يقول مقولته اللاّذعة: أصبحت المكتبة اليوم حليّة ضروريّة يزين بها البيت كما تزوّد الحمامات بالمياه الباردة والسّاخنة، هنا تحضُر الزّينة، يحضر موضوع تحوّل الأشياء بالتقادم إلى تحفٍ، فهل يليقُ بالكتب أن تتحولّ إلى تحفٍ؟ هل تمُوت الكُتب من التلميع أيضاً؟

إنّ تحوّل الكتاب إلى تحفة هو نوعٌ من فقدانه لحالته المعرفيّة، فالمعرفة تدُوم بالانتقال من أحد إلى آخر وتموت حينما تعنّس كتحفة تسلّط عليها الملكيّة الفرديّة، سيأتي النّاس للفرجة عليها دون أن تلمس أصابعهم ورقها، وهذا موت معلن للكتاب داخل تراجيديا القراءة العاجزة عن تفكيك المكتبات بصيغتها القديمة وإعادة بنائها، نحبّ أن نرى الكتب في بيوتنا، رائحة الورق التّي تملئ الغرفة لكنّنا لم نتساءل يوماً هل تلك الرّائحة هي رائحة الورق أم رائحة بكاء الورق، ففي غرفة مرتّبة للغاية وعلى رفوف منظّمة ومنسّقة ملئت جدرانها عناوين لامعة  بدت في غاية الجمال وهي واقفة هنالك كالتحف، وكلّما دخلت لتلك الغرفة تتضخّم في داخلك الأنا الامتلاك، لكن مع الوقت يبدأ ذلك بالاختفاء رويدا رويداً، إلى أن تحتقر ما تفعلهُ، ستبدو الكتب بذلك الشّكل وكأنّها ستبقى معك للأبد، ثم تتحوّل الغرفة من متعتك إلى مقبرة ورقيّة بعد أن تكون قد قرأت  ما اشتريت مرة ومرتين ثم ثلاث وفي بعض الأحيان تمرّ سنوات كاملة دون أن تعوُد إليها، لقد وضعت في تلك القراءات كلّ رغبتك، فالكتاب كما الأشياء الأخرى التّي تحبّها يمكنك أن تتحرّر منه بالشّبع من قراءته، سيعجبكُ التيّن أو تُعجبك الفراولة مثلاً، وحتّى تتخلّص من موسميتها ومن ذلك الاشتياق  والعودة إلى السّوق مرات كثيرة تقوم بشراء كمية كبيرة ثم تأكلها دفعة واحدة،  بعدها سينتابُك مغصٌ ودوار ورغبة في الإستفراغ، ستخرجها لكن ستخرجُ معها رغبتك  فيها للأبد، ثم لا تعُود مطلقاً تشعر بضرورتها وتتحوّل تلك الفاكهة إلى شبع يستدعي أحيانا الغثيان، في الكتب يحدث هذا الأمر لو أنّك توقفت عن النّظر إليها كاستعراض وقرأتها، فيومًا ما وجدتُ نفسي  أنزل كلّ كتبي وأفكّك تلك الرّفوف التّي قدمتها لاحقاً للمسجد القريب من بيتي، أحضرت الكتب ووضعتها فوق بعضها البعض هكذا بدت وكأنّها تستطيعُ في أيّة لحظة أن تنتقل إلى بيت آخر، لقد أنزلتها من مكانة “التّحف” وأعدتها إلى وجودها وحياتها الحقيقية في عينيّ، أن تكون قريبة جداً من الباب، أن يكون رفها الحقيقي كفّ يد ليست خشبية . .

من الحبّ ما قتل:

نحتاج كثيراً إلى صياغة مفهوم المكتبة خاصّة إذا ما اعتقدنا أنّ الحفاظ على الكُتب يعني فحسب حبها في حين التّفريط فيها لا يعني سوى أنّها لا تعني لنا شيئا، فهل الكتب التّي نحبها تحبّ هي هذا النّوع من الحب؟ هل تحبّ الكتب أن تصبح عانساً على رفّ ما؟

إنّ اهتمام الإنسان بجمع الكتب عبر التاّريخ كان انعكاساً للحب الذّي أصابه بسهم” المعرفة”، وحينما يعرفُ هذا الإنسان ينتقل إلى”يعرف أكثر”، فالحديث عن المكتبة هو حديث حبّ متبادل، لكن هذا التبادل قد لا يدُوم للأبد، فمستقبلاً ستحدث قطيعة لا بين الكتب عموماً وقارئها بل بين العناوين المقروءة وقارئيها، إذ لا تصبحُ مثيرة مثلما كانت، فقد عرفناها ولم يعد ثمّة انجذاب نحوها لأنها قدّمت كلّ ما لديها فنسارعُ إلى ما نجهل معرفته، نعم نحبّ الكتب ولذلك نهتم بامتلاكها، نمتلكُ الكتب لا باقتنائها كما نعتقد بل بقراءتها ونحتفظ بها للأبد لا بوضعها على الرّفوف فور الانتهاء منها بل بالتفريط فيها لآخر يشارك معنا عمرها الممتدّ بأعداد من حصلوا عليها، هذه الحلقة الدائريّة التّي تشبه تماماً فكرة العود الأبديّ للكتاب وانبعاثه في مكان آخر حينما ننتهي منه وهذا لا يتحققّ إلاّ عن طريق روح التّخليّ الجليلة والتّي تعني في أعماقها الحفاظ عليه بالطريقة الصحيحة الحفاظ عليه بأن “يقرأ ” من طرف جديد، أن تحيى الكتب يعني أن تكون لك المقدرة على إدخال قارئ جديد إلى حياتها، لكننا نعاني حتّى وإن لم نصدّق ذلك أو يصعبُ علينا تصديقه من حالة الارتباط بشكل مؤذي بما نضعه على الرّفوف، ففي كلّ حبّ ستقتلك أشياء ما، مرّة بذريعة التّملك وأخرى بذريعة التّعلق والكتب كغيرها من الأشياء الحيّة لها نصيبٌ  من هذا القتل اللاّمتعمد، فنحن الذّين نحبّها لدرجة لا نستطيع التفّريط فيها نمزقها ورقة ورقة لكن على طريقة غلقها على بعضها لسنين، هي تموت أيضاً لا بإتلافها أو العزوف عن شراءها فحسب، بل في الحفاظ عليها هنالك قبالتنا، أنانية أن نراها يومياً في حياتنا بينما هي تبهت وتفقد كل يوم قارئاً آخراً، فحينما تنتهي من قراءة كتاب ما  لا يعود بعدها لكَ حتى لو أنت من قام باقتنائه، كلّ كتاب تقلب صفحته الأخيرة وتغلق عليه هو بمثابة موسم لقارئ جديد  وأنت الذّي أنهيته وسيلته للوصول أو عاهته المستديمة  بين أحضان عينيك.

فما الذّي سيؤلمنا أكثر، أن تكون  مكتبتنا أجلها قراءة الكتبُ وبهذا يطُول عمر الكتاب،،  أم أن يكون للكتاب المقروء أجل كرفّ المكتبة؟

إنّ علاقة الكتاب بالمكتبة في المنزل تبدو قاسية من الدّاخل، إذ يرتبطان فيها عكسيّاً نظراً لماهيّة البقاء، وعلى أحدهما أن يتبددّ حتّى يستمرّ الآخر، كلّ مكتبة هي مقبرة مُعلنة لكتاب مقروء وظل في المكان الذّي هو مقروء فيه، وكلّ كتاب مستمّر في المقروئيّة عن طريق التّداول هو إعلان عن موت المكتبة في منزل ما، وفي هذه العلاقة علينا أن نميل للمعرفة العامّة كحالة إنقاذ بدل التورّط في مراقبة ما نملك، أحقيّة الآخرين في القراءة دون الالتزام بدفع مُقابل وهذا لا يحدثُ إلا إذا تمكننا من الوصُول إلى ذلك المُرتفع الذّي يُطلق عليه “التّخليّ”، ففي حياتنا مثلاً يحدث فراقٌ سعيدة نقوم فيه بمنح بريق عيوننا لعيون أخرى، فراق سعيد لا من حيث أنّنا راضيين عنه ” كفراق” بل لأنّ المفارق سيبدأ في ذهابه هذا التوجه نحو البداية الأزليّة لنا، فكرة زواج الأبناء وانتقالهم إلى بيوت أخرى في أعماقها هي صيغة “أن يؤخذ منكَ ما تحبّه ولكن في هذه المرّة برضاك”، يأتون ليطلبوا موافقتك بداية في أن يفارقوك، وهنالك بعيداً عنك تماما تكمنُ سعادتهم، تفريطك الآن لا يعني أنّك تنازلت بل تمسّكت أكثر بفكرة “البقاء” “الاستمراريّة”من خلالهم، هنا يبدأ الاهتمام من طرف عكسيّ “بالابتعاد”، فثمّة أشياء تُزهر كلّما تركناها وشأنها وهذا لا يعني أنّها تذبُل إلى جوارنا بل جلّ ما نكونه لحظتها “مدينة ” بينما هي الآن تصلُ إلينا لتفتح نوافذنا وتزيل الغبار عن كراكيب في زاوية ضئيلة تنتظرها وما إن ننتهي من قراءتها نتحوّل بسرعة إلى جسر قُطعَ وعليه  أن يضع طرفهُ الآخر على صدر مدينة أخرى، فعلاقتنا بالكتاب لا تختلفُ عن هذه الفكرة، الأبناء الذّين نقرّبهم منّا حتى لا تعود لنا تلك المقدرة على تركهم، ولهذا نقوم بتخصيص غرفٍ لهم، نمنحهم رفوفاً كشقق، ثمّ نطلق على هذا الحيّ الميّت مكتبة.

مقالات من نفس القسم