ولع الصورة وجنون السينما في رواية “شقي وسعيد” للكاتب حسين عبد الرحيم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 53
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم عبد المجيد

عشرون يوما الآن لا أعرف لماذا ابتعدت عن القراءة. لا سبب واضح أو لا سبب واحد. وصلتني أعمال كثيرة ولا تزال، أعرف أني لن اقرأها كلها فلست في حالة الانضباط الفكري المطلوب للقارئ. سنوات طويلة كان للقراءة وقت وللكتابة وقت وللفراغ وقت. الآن صار الفراغ هو الوقت كله وربما العدم. ما علينا من جروح الروح يطول فيها الكلام. قلت فلأجرب مع الأقرب إلى يدي. وكانت رواية “شقي وسعيد” لحسين عبد الرحيم الصادرة عن دار خطوط وظلال الأردنية. هل يمكن تلخيص الرواية. يمكن. سردية من هزيمة 1967 والرحيل عن بور سعيد الي طلخا وغيرها من قري ومدن الدقهلية حتي بعد حرب 1973.

علاقة الطفل بأمه منذ ميلاده ورحلة الهجرة ومخالطة المهجرين من بورسعيد تحت أزيز الطائرات وحتى العودة في العام 1975. قسوة وعطف من الأم وأب شديد القسوة في الأغلب لا يبالي.ليس هذا كافيا. وجه آخر هو العلاقة الأوديبية المعقدة بين الطفل “الحسين” وأمه “الصدّيقة “. ليس هذا كافيا. رؤيته لما حوله من بشر وأعمالهم الصعبة في الأسواق وسلوكهم خارج العقل في معظم الأحوال. ليس هذا كافيا. هذا كله تدركه بعد أن تنتهي من الرواية وإذا كنت في عمري فلابد أن تمسك بقلم وتضع ملاحظات صغيرة حتي لا تنسي.

كانت أغلب ملاحظاتي علامات تعجب واستفهام. ليس مهما ما تذكرته من الرواية. وماذا بعد أن تتذكر ؟ ما الفائدة ؟ هي المتعة المذهلة في لغة السرد والحوار التي لخصتها علامات التعجب والاستفهام. ولم يكن ذلك لما يتردد عن بعض السرديات من شعرية في اللغة، لكن من تصوير سريع الإيقاع وخروج مذهل عن المألوف.

رواية لا تضع سورا بين الوهم والحقيقة رغم أنها رواية للمكان بامتياز. السارد يصف لك ما رآه وهو رضيع وتقتنع، وهو أكبر وتقتنع، ووصفه للناس مذهل، وهو يعود في الزمن دائما بلا انقطاع وبلا تقديم، كأنه يغيظك ويقول لك لن أصنع لك سلما متعدد الدرجات. سأرفعك إلي السطح وألقي بك في أي طابق حتي البدروم المظلم، المهم أني سأحافظ على توازنك بمتعة الرؤية في الصعود والهبوط. الشخوص عراة مهما ارتدو من أزياء. هل هي ازياء حقا أم ثياب الفقراء لتراهم؟ والعالم قاتل بالصمت مهما ارتفع فيه الضجيج، والموت أو الجنون هما الاقرب إلي الله. هو لايترك شيئا إلا ويخطفه بكلمات سريعة الإيقاع جدا وليس بوصف متروي. الحقيقة أن حسين عبد الرحيم عمل في السينما مساعد للإخراج والتقي كثيرا بنجوم سينما مجانين مثل يوسف شاهين وعمل معه وحبه للسينما كبير يعكس… لا. لا يعكس. بل يمسك به وهو يسرد. وحين تأخذه الشخصيات أطفالا ونساء ورجالا ومجرمين إلي عالمهم وحياتهم فهو بينهم.

ينفجر هيامه بالسينما مع الوصف المرئي ومن بداية الرواية، أو بعد صفحات قليلة وهو يعرف كيف تم اغتصاب الأم في دورة المياه في الغربة، ويتذكر فؤادة وعتريس في فيلم شيء من الخوف. مع موت الأم التي تعيش بعد ذلك في الرواية حتي الموت الحقيقي إليك هذا المشهد ” خرست كل الأصوات. الشارع. حي الزهور. المستشفي. البشر. البنايات تدور مترنحة. الكلاب تمشي ميتة. الشوارع مزدحمة بعربات الشرطة والبلوكامين. المطافي. عربة النجدة الصغيرة الهيونداي. تلاشت أصوات السفن في الميناء وانقطعت كل علاقتي بالماضي ” هل سيحدث؟ سيأتي الماضي الذي هو الرواية. ” أشم رائحتها الجميلة. أريج عطر انفاسها وهي تلقمني صدرها فاستعيد نشوة سرسوب اللبن الساقط في فم الطفل النونو وهي تقبل أناملي وتلعق أصابعي وتغني لي ” أو ” أقولها في نفسي محدقا في هالات الضوء التي ترسلها تلك السلسة المعلقة في رقبتها وقد لاحت الكاتينة في ظلام البدروم تبرق في عنقها ليمتزج سلسال العرق بنثار ماء بارد رشته فوق رأسها “.

ماهذه الدقة في الرؤية وسط الظلام. هي دقة الصورة وليس الحكي. الأمر نفسه في علاقته بأم هاشم التي ستموت أيضا وفي حديثه عن كل الناس. لقد لخص الأب في مشهد مثل ” ناداني أبي وهو يرفع الباشكير من فوق الباب، ظهر بالصديري وتحته فانلة قطنية دون لباس داخلي وقد تدلي عضوه كرجل ثالثة تتوسط ساقيه..”

عجيب وجميل أن حسين عبد الرحيم لم يمش وراء مايحدث الآن من الكثيرين من تلخيص فكري للأحداث في حكم وأمثال. كاتب مجنون بالصور ويترك لنا الأحكام والأمثال. إما الحوارات فهي لغة تتسق تماما معا قائليها وبنت حياتهم الضائعة بين الحرب وبين الأسواق وبين البلاد ولا تطول أبدا فكل شيء إلي زوال.

 

مقالات من نفس القسم