وجفت ضروع الأبقار

رزق البرمبالي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رزق البرمبالي

لما جفت ضروع الأبقار في قريتنا، واجهتنا مشكلة كبيرة وهى كيفية إطعام العجول الصغيرة، من أين سنأتي لها باللبن لتتغذي وتبقي على قيد الحياة؟!

ـ قال أحدهم وهو يجز على أسنانه من الغيظ: لو أن العمدة لم يقم ببناء السور الشاهق بيننا وبين قرية الأشباح،

ـ  رد آخر ساخرا وهو يعدل الطاقية الصوف فوق رأسه: إنهم مثلنا، فضروع أبقارهم ضرب فيها الشراقي وأقام!

ـ  قال ثالث وهو يهش بعصاته الخيزران دبور كان يزن فوق رأسه: لكن عمدتهم جلب لهم بقرة هولندي مستوردة وعملاقة، تكفي لإرضاع الف عجل في الوجبة الواحدة،

شهق الجمع وقالوا في صوت واحد مندهشين وغير مصدقين : ألف عجل في الوجبة الواحدة!!!

ـ لولا أخي الذي قال ذلك ما كنت صدقت، “حسان” تعرفونه كلكم، زوج بنت عمدة الأشباح وذراعه اليمني،

أجمعوا أمرهم بينهم، وذهبوا إلى عمدتهم ليجلب لهم بقرة هولندي كما فعل جاره، كان “فتح الله” العمدة في اجتماع مغلق مع شيخ الخفر وشيخ البلد، لإيجاد حل لهذه المشكلة، لحظات قليلة وخرج إليهم ثلاثتهم فرحين مستبشرين، هدأ فتح الله من روعهم، وطلب منهم الجلوس حتي يسمعهم، وكان رده على مطالبتهم ببقرة عملاقة “ومجانية” أسوة بعمدة الأشباح في القرية المجاورة، أن ابتسم ابتسامة ماكرة تميل إلى اللون الأصفر وقال: حتى تعلمون أنكم وبهائمكم في قلبي، فقد أحضرت لكم ما هو أفضل من البقرة الهولندي العملاقة، وأردف : أحضرت لكم لبن صناعي يكفي لثلاثة آلاف عجل في الوجبة الواحدة، هنا وقف شيخ البلد وبعد أن برم شاربه، رفع يديه وهو يصفق قائلاً : رددوا خلفي يعمر بيته.. يعمر بيته.

وردد بعضهم فرحين بهذا الحل، بينما الآخرين ظلوا متوجسين خيفة، لأنهم يعلمون أن عمدتهم ماكر وأن الحدأة لا ترمي كتاكيت!

حرك شيخ الخفر عجيزته وشبك كفيه فوق كرشه الممتد أمامه وطلب منهم الهدوء لأن العمدة “الرجل الصالح” على حد تعبيره لم يكمل كلامه بعد.

صمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، وكل منهم يزدرد ريقه، ويخشى القادم.

عدل العمدة من وضع عصابته البيضاء حول رأسه، وشد جلبابه الأبيض الذي انحسر فوق كرشه، ووقف مبتسما وقال في صوت ناعم يقترب من الهمس: تعلمون أن بودرة اللبن الصناعي تأتي بالدولار، والدولار مرتفع ونادر كما تعلمون، ولولا خشيتي على العجول المساكين من الموت ومن ثم إنفطار قلوبكم عليهم، ما كنت وضعت أموالي في هذا العمل،

شيخ الخفر : الرجل الصالح.. الرجل الصالح

ردد خلفه مجموعة بصوت قوي هز أركان الدوار

قال أحد الفلاحين ان هؤلاء الرجال ليسوا من قريتنا!، في اشاره منه إلى الذين يردون بحماسه!

أشار العمدة بيده فصمت الجمع، وأردف:

وكما قلت لكم من قبل إنكم وبهائمكم في قلبي، وقد أعددت عقودا جاهزة على البصمة، فأحضروا عجولكم قبل أن تموت،

ـ قال أحدهم في أسى : عقود إيه ياعمده؟!

 مشاركتي لكم مناصفة في العجول، مقابل اللبن،

هتافات تتردد وسط ذهول الفلاحين

يعمر بيته… يعمر بيته

الرجل الصالح.. الرجل الصالح

وافقوا مرغمين فلا حل ثان لديهم، وقالوا بارك الله لنا في النصف الآخر.

بعد أن كبرت العجول وسمنت وجاء أوان البيع، كان العمدة هو المشتري، وذلك للبند السابع والأخير من العقد، والذي ينص أن يتم البيع لصالح مصانع وشركات توزيع اللحوم التي يمتلكها العمدة واعوانه،

ذهب عوضين ساحبا العجل خلفه إلى دوار العمدة، وهو في الطريق كان يُمني نفسه بالحصول على مبلغ مناسب لقضاء ديونه للبقال والحلاق ومحل الأعلاف والمبيدات، ولجاز ماكينة ري الأرض، وفواتير الماء والكهرباء الذي عجز عن سدادهم لأكثر من تسعة أشهر، أملاً أن يتبق مبلغ يمكنه من شراء بعض الحاجيات لجهاز ابنته “صبحه” التى ستتزوج العام القادم،

كان العمده يجلس في وسط الدوار ومن خلفه يمسك أحد الخفر بشمسية كبيره بيضاء من الخارج خضراء من الداخل، وكان خفيرا أخر يقدم له الأرجيلة، بينما ثالث ممسكاً بمذبة ليهش بها الذباب، ويجلس عن يمين العمده ويساره اعوانه الإثنين الشيخان” شيخ الخفر وشيخ البلد”

والي جوارهم كان يجلس التاجر الذي سيثمن العجول، ومن خلفهم كان يقف موظفون بقمصان وبناطيل ، تغطي رؤوسهم طواقي دائرية بيضاء ويحملون بين أيديهم دفاتر عريضة ذات غلاف سميك، واقلام وضعوها فوق الشعر واسفل الطواقي، وبجوار سور الدوار كان يقف رجال غرباء بأسلحتهم، يطوقون السور من الداخل والخارج، قال عوضين لنفسه بعد أن ألقى نظرة على هؤلاء الغرباء : فيهم ملامح من مرددي الهتافات في يوم العقود!

ما ان هل عوضين والعجل خلفه حتى انفرجت أسارير العمده عن ابتسامة بعرض الدوار هب واقفاً ومرحبا بعوضين وعينيه على العجل السمين، احتضن عوضين وأشار إلى الشيخان أن هبوا وافعلوا مثلي،

بعد أن مسح بيديه على ظهر العجل في فرح، سحب كرسياً ومسحه بكم جلبابه قائلاً : اتفضل ياعوضين، وأشار إلى أحد الخفر الشاي لعوضين بسرعة،

أحس عوضين بالغبطة والسرور وقال لنفسه: بداية مبشرة، ونظر إلى الموظفين ودفاترهم فشعر بمرارة في حلقه

وقف التاجر يدور حول العجل ويجس بيديه ظهره، ويرفع ذيله وينظر إلى فخذيه، ثم قال للعمده مبتسما : أربعين ألفاً

لاحظ العمدة الإبتسامة ظللت وجه عوضين فمال برأسه إليه وقال: مبسوط ياعوضين،

رد مسرعا : يعمر بيتك ياعمده، وضحك الشيخان،

ـ  انتم في قلبي ياعوضين،

ونادي على موظف المالية، ففتح الدفتر وقال: عشرة آلاف ضرائب ياعوضين

هم عوضين بالوقوف معلنا عن رفضه لكن شيخ الخفر ربت على كتفه قائلاً : الضرائب حق، ومفيش فيها كلام او إعتراض

ونادي العمده على موظف الجمعية فقال بعد أن بحث عن عوضين عبد البر في الدفتر 5550

صرخ عوضين ليه وعلشان إيه ياظلمه

حرك العمده رأسه يمينا وشمالاً وقال ناظرا إلى شيخ البلد : نعمل معاه الخير، يقابلنا بالشر

ـ لا ياعمده، عوضين هو بس ال مش فاهم، وأشار إلى موظف الجمعية فقال:

الفين وخمسمائة رسوم زيارات الطبيب البيطري الدورية، والف وخمسين ثمن كسب بذرة القطن،

قال العمده متسائلا: فين الظلم ياعوضين؟!

وتقدم موظف الري قائلاً : 2050 لزوم ماء الترعة الذي يستخدم للإستحمام والشرب

ومن بعده جاء موظف المجلس المحلي الذي قال 1000 جنيه نظافة

ثم تقدم موظف الأمن وكان أخرهم وقال 1700 لزوم حفظ الأمن والمحافظة على العجل من السرقة

نهض عوضين وشق ثوبه قائلاً : ليته  انسرق.. ليته مات، وظل يكررها إلى أن وقع على الأرض مغشيا عليه.

أحضر العمده كوبا من الماء البارد ونثر عليه بأصابعه فأفاق، وقال له بصوت رقيق يقترب من البكاء : صحتك أهم ياعوضين، إئتني غدا لتأخذ نصيبك في جلد العجل،

جاء موظف المجلس مهرولاً يصرخ: انتظر ياعمده.. انتظر ياعمده!

 ـ فيه ايه تاني يامجلس؟!

نسيت مبلغ 650  مصروفات إدارية

رمقه العمده بنظرة عتاب وقال : غدا تأخذهم من تاجر الجلود،

وشهق عوضين شهقة على إثرها خرجت فيها روحه  إلى السماء.

 

 

مقالات من نفس القسم