ميرهان فؤاد
رغم إنني لا أؤمن بأي شكل من أشكال الميتافيزيقا، إلا أننى أخاف من أغسطس. مات أبي وأبوه وأخوه في أغسطس، كل أفراد عائلتي يموتون في أغسطس. أعتزل العالم في هذا الشهر وأظل في انتظار الخبر المشئوم، مَن القادم؟ أتذكر ارتجافي في قيظ أغسطس، طوال ليلة مبيتي أمام جثة أبي النائم أمامنا، كان لابد للجنازة أن تخرج في الصباح التالي لتكون مهيبة.
يخبرني الطبيب النفسي: هو انتِ معندكيش حاجة تحكي فيها غير عن الموت؟
أخبره: هي ثقافة المصريين يا دكتور ثقافة موت، ما الأهرامات أصلا ايه؟ ماهي ترب.
في الحقيقة الأمر لا يرجع لثقافة المصريين ولكن يرجع لتراثي العائلي، تمتلك عائلتي علاقة خاصة مع الموت، كما تمتلك علاقة خاصة مع الجنون؛ في صغرنا كنا نلعب عند شواهد القبور أتذكر جيدًا رحلتي المتكررة مع أهلى إلى مقبرة العائلة، علمتني أمي أن أقرؤهم السلام لأنهم يشعرون بنا. أتذكر العزاءات المتلاحقة في بيتنا، نساء يتشحن بالسواد، يجلسن على شكل مربّع، رأيت النائحة الثكلى، والنائحة المستأجرة. في اليوم الذي سبق يوم موت أبي، رأيت الموت قادمًا، فنمت طوال اليوم، وأغلقت هاتفي، كي لا يصل الموت إلى مكاني، كنت أشعر أنني سأتعرض للضرب في الشوارع لأنني بلا أب، كما كنت أعتقد أنه سيمل من الموت يومًا ويعود.
أول طباخ رأيته في حياتي كان في مأدبة عزاء؛ أحببت منه الطبخ، طبخ العزاءات مُرًا، يأكل منه الجميع إلا أهل الميت. فأول يوم للجثة في القبر يسمى يوم الوحدة، ويصوم فيه أهل الميت. أتذكر عزيزة، سيدة يمتلأ وجهها بالتجاعيد، كانت تحتفظ بمفاتيح المقابر، تفتح عزيزة الباب، لنجد على اليسار صالة للجلوس لانتظار السيدات حتى تتم الصلاة على الميت، وعلى اليمين مقبرة صغيرة، نمشي ممرًا ترابيًا حتى المقبرة الداخلية، لم أزرها منذ وفاة أبي، رفضت أن أرى اسمه معلقًا على الشاهد، فمازلت أعتقد أنه سيعود إلى بيتنا يومًا ما. يدخل “الفقها” إلى المقبرة الداخلية، يقرأون القرآن بسرعة، بلا روح، تتعلق أسرتي بشدة بالموتى، حتى أنهم كرهوا الحياة. كانت حياتنا مرهونة بالموتى، فنعيش في البيت ذاته الذي يقام فيه العزاءات، والذي عاش فيه أقاربنا، كل العزاءات تقام في فناء البيت الواسع، حتى قلما ما تجد يومًا بدون عزاء. ترتدي أمي السواد لموت أختها قرابة السنة، تمنعنا من مشاهدة التلفزيون حدادًا على الميتة، بعدها بسنوات سأعرف أنه كان بينهم ما صنع الحداد، لن أسألها لماذا أجبرتنا على الانتحاب معكِ أعرف أنها مجرد طقوس يمارسونها بفعل العادة.
أريد أن أفكر في شيء آخر غير الموت، ولو لمدة يومٍ واحد. أسمع أمي تتحدث في الفيديو كول للطبيب النفسي، أنها حلمت أمس بأنها ميتة، أفكر لو أنه من الممكن أن يتنحى عنا الموت ولو لسنة واحدة؟ ليس على غرار رواية ساراماجو، عندما غاب الموت نفسه، وجرت سيرته في كل الرواية، بل لا أريد أن أسمع لفظة الموت لمدة عام فقط. كنت أسمع أبي بشكل روتيني يقول إنه ذاهب لعزاء، كنه أحسبه خالدًا، لم أكن أعرف أنه سينضم للموتى يومًا ما، أخاف من يوم فقد أمي، أجلس بجوارها وهي نائمة، وأتحسس أنفاسها، حتى أسقط من التعب.
أستلهم من بطل فيلم “الجنون” محاولة الدخول في غيبوبات متتالية، لعلّي أتفادى سيرته، دخلت في غيبوبة يومًا، ثم يومين، إلى أن أكمل شهرًا بالتمام، وأفيق في أول سبتمبر، لأجد قطتي تحاول الانتحار قفزًا من الشباك لأعيّ أن الموت سيلاحقني دائمًا