باستثناء هذا…

لايوس، لاجوس زيلاهي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قصة للكاتب المجري: لايوس زيلاهي

ترجمة: عبد الغني محفوظ

لم يتوقف ليغسل زيت التربنتين من على يديه، ولكنه اكتفي بتجفيفهما في مزقة كانت تتدلى من مسمار خلف الباب، ثم فك مئزر النجار الأخضر من خصره ونفض النشارة من على سرواله، وضع قبعته على رأسه، وقبل أن يخرج من الباب، استدار إلى النجار العجوز الذي كان يقف وظهره إليه، يحرك الغراء.

كان صوته منهكا وهو يقول: “ليلة طيبة”. شعور غريب غامض يختلج بداخله منذ الصباح. وكان هناك مذاقا سيئا في فمه، لدقيقة كانت يده تتوقف عن تحريك الفارة، وتغلق عيناه من فرط الإجهاد.

عاد إلى منزله وتناول عشاءه بفتور، كان يعيش في منزل سيدة عجوز، هي أرملة فرينز بوركا، في غرفة صغيرة عارية كانت يوما ما سقيفة من الخشب.

تلك الليلة – في اليوم الرابع من شهر أكتوبر 1874 في الساعة الواحدة والربع صباحا، توفي النجار الماهر جون كوفاكس.

كان رجلا دمثا وشاحب الوجه، كتفاه منخفضان وشاربه بلون الصدأ، توفي في الخامسة والثلاثين، وبعد يومين، أهالوا عليه التراب، لم يترك خلفه زوجة ولا طفلا، ولا أحد إلا طاهية تعيش في بودابست في خدمة رئيس بنك، يحمل اسم “تورداي”، كانت ابنة عم جون كوفاكس.

بعد خمس سنوات، مات النجار العجوز الذي كان يعمل في ورشته، وبعد تسع سنوات أخذ الموت المرأة العجوز التي كان يعيش في سقيفتها.

بعد أربعة عشر عاما، توفيت طاهية تورداي، ابنة عم كوفاكس.

بعد واحد وعشرين شهرا – في شهر مارس 1805 وفي حانة في أطراف “كيريبيسيوت”، جلس الحوذيون حول مائدة عليها مفرش أحمر يجرعون النبيذ، كان وقتا متأخرا من الليل، ربما كان في نحو الساعة الثالثة صباحا. مدوا مرافقهم على المائدة، وهم ينتفضون من الضحك الصاخب، كانت تدور حولهم سحب من الدخان الكثيف منطلقة من السجائر الرديئة. وتذكروا أيام خدمتهم العسكرية.

كان أحدهم، وهو حوذي ضخم ذو وجه أحمر ولغد، يسمونه فريتز، يقول: “ذات مرة، جعل صديقي العريف مجندا يضع رأسه في الفرن…”

وعند هذه النقطة أخذت بخناقه نوبة عنيفة من الضحك وهو يضرب المائدة براحة يده، وصاح صاخبا “يا إلهي”.

وانتفخت العروق في رقبته وصدغيه ولعدة دقائق اختنق، وراح يرتعش ويهتز بفعل الضحك المتشنج، وعندما هدأ في النهاية، واصل، وهو يقاطع نفسه بقهقهات متكررة: “جعله يضع رأسه في الفرن وهناك جعله يكرر مئة مرة ‘يا سيد زوجسفير، أبلغك بطاعتي’….الأحمق المسكين، كان يقف على يديه وقدميه وكنا نضربه على مؤخرته حتى أوشك لحمه أن ينسل بين أصابعنا”.

مرة أخرى توقف لكي يتغلب على نوبة أخرى من الضحك، ثم تحول إلى أحد الرجال ‘هل تتذكر ذلك يا فرانزي؟’. وأومأ فرانزي.

ووضع الرجل الضخم يده على جبهته: ‘والآن…ماذا كان اسم ذلك الشخص…’

فكر فرانزي للحظة ثم قال: ‘آه..أ..كوفاكس…جون كوفاكس’.

كانت هذه آخر مرة نطق فيها صوت إنسان اسم جون كوفاكس.

في العاشر من نوفمبر 1899، نقلت امرأة تعاني من مرض في القلب من مصنع بودا للتبغ إلى مستشفى سانت جون. كانت في نحو الخامسة والأربعين من العمر، وضعوها في الطابق الأول في عنبر رقم 3، تمددت على الفراش هادئة وخائفة، حيث كانت تعرف أنها ستموت.

كان العنبر مظلما، وكان بقية المرضي نائمين بالفعل: لم يكن هناك سوى فتيلة تنفث من مصباح زيت ازرق صغير، وبينما كانت عيناها تحدقان مفتوحتين عن آخرهما في الضوء الشحيح، راحت المرأة تتأمل حياتها، تذكرت ليلة صيف في الريف، وشابا ذي عيون رقيقة، كانت تتجول معه في الحقول المثقلة بالرائحة وأصابعهما متشابكة، ومن خلاله في تلك الليلة أصبحت امرأة.

كان الشاب هو جون كوفاكس وعاد إليها الآن وجهه وصوته ونظرة عينيه للمرة الأخيرة، ولكن هذه المرة لم يذكر اسمه، بل ظهر فحسب في ذهن هذه المرأة المحتضرة في صورة صامتة لبضع دقائق. في العام التالي دمر حريق منزل كاهن الأبرشية الكالفينية وسجلاتها المتربة التي تحوي تفاصيل ميلاد ووفاة جون كوفاكس.

في يناير 1901، كان الشتاء قاسيا.

قرب المساء في الظلمة تسلق رجل في أسمال خلسة الأخدود الذي يحيط بمقابر القرية، وسرق صليبين من الخشب لإشعال نار، كان أحد الصليبين يمثل علامة على قبر جون كوفاكس.

وثانية مر عقدان.

في عام 1920 في “كيكسكيميت”، جلس محام شاب إلى مكتبه يعد قائمة بممتلكات والده.

وفتح كل درج وبحث بعناية في كل قطعة من الورق.

وعلى ورقة منها كتب: “تم استلام 4 فلورين و60 كراسير. سعر مقعدين مصقولين مع الاحترام.. جون كوفاكس”.

ألقى المحامي نظرة على الورقة، وغضنها في يده ثم ألقاها في سلة المهملات الورقية.

في اليوم التالي أخذت الخادمة السلة إلى الخارج وأفرغت محتوياتها في الطرف البعيد من الفناء.

بعد ثلاثة أيام سقط المطر.

تشبعت الورقة المغضنة بالمياه ولم يبق عليها إلا هذا:

‘…كوفا…ج…’

مسحت الأمطار البقية، وكان حرف ج لا يكاد يقرأ.

كانت الحروف الأخيرة هي السطور الأخيرة، آخر شذرة من مادة بقيت من جون كوفاكس.

بعد بضعة أسابيع زمجرت السماء وهطلت الأمطار بغزارة كما لو كانت تصب من دلاء.

في تلك الظهيرة مسحت الأمطار الحروف الباقية.

وكان الحرف “ف” هو الأكثر مقاومة، لأنه كانت هناك انحناءات الخط في الحرف “ف” حيث ضغط جون كوفاكس عليها بقلمه.

ومحت الأمطار ذلك أيضا.

وفي تلك اللحظة – بعد 49 عاما من وفاته – توقفت حياة النجار الماهر عن الوجود واختفت إلى الأبد من على هذه الأرض…باستثناء هذا….

————-
لايوس زيلاهى (1891-1974) روائي وكاتب مسرحي وشاعر مجري ولد لأب يعمل بالقانون وينتمي إلى أسرة من صغار النبلاء. اتجه إلى الأدب في السادسة عشر من عمره وفى هذا السن بدأت قصائده تظهر في الكثير من صحف ومجلات بودابست الهامة. كتب عشر روايات وتسعة عشر مسرحية ومجلدات عدة من المقالات والقصائد والقصص القصيرة. ترجمت اغلب رواياته إلى كل اللغات الأوربية تقريبا كما أخرجت العديد من مسرحياته على الكثير من مسارح العالم.
في الحرب العالمية الأولى جرح على الجبهة الروسية، وفى هذا التوقيت ظهر كتابه الأول وهو مجموعة من القصائد التي تدعو إلى السلام وتنبذ الحرب. بعد أن برأ من جراحه لم يكن مستعدا للعودة إلى الجبهة لأنه شعر أن المجر لا تحارب دفاعا عن نفسها ولكنها تحارب لخدمة ألمانيا.
في عام 1942 حطمت المقاتلات الروسية فيلا زيلاهى ولكنه نجا من الموت بأعجوبة حيث كان هو وزوجته وطفليه ومربيتهما يقضيان عطلة بالريف. وبعد نجاته من الموت تبرع هو وزوجته بكل ثروتهما لإنشاء معهد تعليمي لتدريب الشباب على خدمة الإنسانية والسلام العالمي والمثل الإنسانية العليا.
في عام 1947 توجه إلى أمريكا ليعيش فيها، ورغم انه لم يشارك في أي حركة سياسية مجرية إلا أن حكومة المجر الشيوعية وصمته بأنه خائن لديموقراطية الشعب، ووضعت أعماله في القائمة السوداء.

مقالات من نفس القسم