عبد الرحمن أقريش
المشهد الأول.
الساعة 12 ليلا.
تبدو الشوارع الخلفية للمدينة فضاء معتما ومهجورا، شوارع محفرة وبدون أسماء، تغرق في ظلام مطبق ورهيب، على جنبات الطريق تنتصب أعمدة إسمنتية تتدلى منها بضعة مصابيح كهربائية عمياء وأخرى معطوبة، من بعيد يسمع أزيز عربة مجرورة تقترب، تنبعث من مكان ما في الظلام، تقترب أكثر، يقترب معها الأزيز المعدني للعجلات، يسمع صوت حوافر الحمار وهي تضرب الإسفلت في إيقاع بطيء ومتقطع، تتوقف العربة، ينزل منها شاب بملابس قذرة، يكلم حماره بصوت خفيض.
- شا، شا، شششا، توقف أيها الحمار الغبي…
يلتفت الولد يمينا ويسارا وكأنه يبحث عن شيء ما، ثم يذهب توا إلى أكياس القمامة، يجسها بمهارة، يجمعها ويقذفها في حركات آلية إلى داخل العربة، ثم يمضي دون أن يلتفت إلى أكياس أخرى مهملة هناك على الرصيف، يقدر بحدس الخبير المجرب أنها بدون قيمة.
تختفي العربة تدريجيا، يبتلعها الظلام مخلفة وراءها خيطا سائلا لعصير أسود وكريه.
…
المشهد الثاني.
الساعة 1.45 صباحا
نفس الشارع.
تحضر عربة ثانية، يجرها بغلان قويان، أمامها يسير رجل قوي وضخم، يمشي في خطوات حذرة، يلتفت، يمسح المكان بعينيه، يستطلع الموقف، ولكنه لا يبدو خائفا، يذهب توا إلى البالوعات، يعالجها بآلة حديدية، يشتغل في حركات هادئة ومحسوبة، ثم في لحظة ما، يقفز رجل ثان من العربة، يعملان معا، ينتزعان السدادة المعدنية من مكانها، يحملانها بصعوبة ويضعانها داخل العربة لتختفي وسط المتلاشيات وألواح الخشب وعلب الكرطون، على بعد خطوات يتوقفان مرة ثانية، يعيدان نفس العمل، ويمضيان، وفي كل مرة يخلفان وراءهما بالوعات مفتوحة وسراديب سوداء، مخيفة وقذرة…
…
المشهد الرابع.
الصباح، تشرق الشمس أخيرا، تستيقظ المدينة تدريجيا، تنبعث الحياة في التفاصيل، ويكتشف السكان أن مدينتهم تعرضت للمرة الألف لغزوات ليلية، وأن مزيدا من السدادات المعدنية قد اختفت، وأن تجار الحديد وسماسرة الخردة قد ربحوا جولة أخرى.
…
المشهد الخامس.
قصر البلدية.
يجلس الرئيس في مكتبه الفخم في قلب القاعة الفسيحة، أمامه وعلى المائدة الضخمة صينية شاي، وآنيات زجاجية طافحة، فواكه جافة، وحلويات مغربية من كل الأصناف، على اليمين وعلى اليسار ينتظم الموظفون وأعضاء المجلس البلدي، مستشاران، تقني، ورئيس مصلحة الآليات والتجهيزات، خلية عمل مصغرة تلتئم عادة للنظر في الأزمات والقضايا الطارئة، خلية يسميها هو من باب السخرية والمرح (حكومة الأزمة).
يدخن، ينظر إليهم، يتأملهم، بعضهم لم يتغير كثيرا، وجوه نحيفة، عجفاء، مغبرة بلون التراب، وأسنان متراكبة، وبعضهم الآخر تغير فعلا، تغير مع مرور الزمن، أجساد ممتلئة، سمينة ورخوة، نظارات طبية، أسلاك معدنية لتقويم الأسنان، خواتم ذهبية، رابطات عنق وبدلات غالية، ليست أنيقة بالضرورة ولكنها غالية…
بالنسبة للموظف المكلف بالتجهيز والآليات، القضية لها عنوان واحد، سهل وبسيط.
- القضية ستحل بمجرد تخصيص غلاف مالي من ميزانية الصندوق الجماعي…
أما المستشاران، وهما يمثلان المعارضة، فطلبا المزيد من الوقت للحديث عن مشكلة البالوعات وسبل علاجها.
- لابد من بلورة خطة مندمجة، لحل هذه القضية، والنظر إليها في أبعادها المختلفة، في شقها الإجتماعي والإقتصادي والأمني و…
- فعلا، القضية ليست قضية بالوعات، القضية تستدعي مراجعة شاملة لمشاكل مدينتنا، تستلزم إعادة تهيئة وهيكلة شاملة للمرافق التي لها علاقة مباشرة بحياة السكان، مثل التزفيت والإنارة العمومية، وإحداث فضاءات للقرب، تخص الملاعب الرياضية والحدائق والمكتبات ودار للفنون، وملجأ للأيتام وأطفال الشوارع، وآخر للنساء في وضعية صعبة وللأمهات العازبات، ومركزا لمعالجة الإدمان…فضاءات تمنح الشباب فرصة لتفجير طاقاته و…
اسمتع الرئيس لكل الكلام الذي قيل، استمع بصمت لسيل من الهذيان المسترسل، حاول ان يكون صبورا ومتفهما، ولكنه في النهاية رفع سبابته في حركة حاسمة، إنتظر قليلا، وعندما عاد الصمت أخيرا، راح يعرض فكرته.
- تعرفون أنني إنسان ديمقراطي، وأحترم كل وجهات النظر، ولكنني إنسان عملي، وأفضل المرور مباشرة إلى الأفعال، بدل تضييع الوقت في الجدال والنقاش والنظريات الخاوية…أنتم تعرفون المثل المغربي الأصيل (الهضرة ما تشري خضرة)…
رسم الرجل لحظة صمت، وكأنه يمنحهم الفرصة لاستيعاب دلالات وأبعاد المثل الشعبي، يفكر بداخله، يحاول أن يسترجع كلاما قرأه أو سمعه في مكان ما، كلام لا يفهمه، ولكنه يبدو له عميقا ومناسبا للسياق.
- شوفوا، النظريات تكون عادة رمادية، ولكن البالوعات سوداء، وهذا الكلام معناه أن العمل أهم من النظرية، لذلك دعوني أفكر في قضية البالوعات هذه الليلة، وأعدكم أنني سأجد حلا عمليا خلال يوم أو يومين…
…
المشهد السادس.
بعد يومين.
الساعة 2.30 صباحا.
الأحياء الخلفية للمدينة المجاورة، على بعد كيلومترات قليلة من المدينة الأولى.
هنا يبدو المشهد مختلفا تماما، فيلات فخمة، إقامات عصرية، شوارع واسعة ونظيفة، فضاء ثؤثثه الأشجار والممرات الخضراء، خطوط ممتدة من أعمدة الكهرباء، مصابيح أنيقة وملونة، أسوار عالية، بوابات ضخمة تتوارى خلفها إقامات الأثرياء وممرات الكولف وملاعب التنس…
من خلف الأسوار العالية تهب نسمات خفيفة، يسمع صوت أوراق القصب، تحركها الريح، تعبث بها، تتهادى، تتمايل، وبين الحين والآخر تستكمل الرشاشات دورتها، فترسم مساحات لمطر اصطناعي، في الجو ينتشر أريج ليلي ندي، منعش ورطب..
ينحرف الرئيس بسيارته، يتوقف بها في ركن منزو، يبدو متوترا، يضغط على الأزرار الكهربائية، تنزل النوافذ قليلا، يضغط عليها ثانية، تنفتح عن آخرها، يشعل سيجارته، يعب منها نفسا عميقا، يرقب الموقف، ينظر وينتظر…
تمر لحظات، تحضر شاحنة البلدية، ينزل منها عمال ببدلات زرقاء، يذهبون توا إلى البالوعات، يشتغلون بهمة ونشاط، مجموعة تقتلع السدادات المعدنية، ومجموعة تنقلها بخفة إلى الشاحنة…
ثم في لحظة ما، في الطرف الآخر من الشارع، توقف العمال، انسحبت الشاحنة، اختفت، مخلفة وراءها ثقوبا سوداء مشرعة.
…
امتص الرئيس نفسا أخيرا من سيجارته، أدار المحرك، خاطب رئيس مصلحة الآليات والتجهيزات، خاطبه دون أن يلتفت إليه.
- هذا يكفي هذه الليلة، سنعود غدا…
تململ الرجل الثاني، بدا مترددا، أصدر همهمة خفيضة تكاد لا تسمع.
- كنت أود أن أسألك…
- ؟؟
- ما معنى كلامك عن النظرية الرمادية؟
- لا أدري، ولكن ذلك ليس مهما، المهم هو أن نجد حلا لقضية البالوعات.