العمى.. عين ساراماغو التي رأت كل شيء

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عايدة جاويش

“أنا أعمى لا أرى شيئا” يصيح رجل من داخل سيارته. كيف هذا؟ لا أحد يعمى فجأة.. لعلها حالة عصبية.. هل نطلب لك الإسعاف؟

بعد سلسلة من الأسئلة التي لا جواب لها، قال الرجل الأعمى: أوصلوني إلى بيتي، فلبى أحدهم رغبته وأوصله إلى بيته لكنه أنتهز عماه وسرق سيارته وبعد عدة ساعات من سرقة السيارة صرخ السارق “أنا أعمى لا أرى شيئا”

يذهب الأعمى الأول برفقة زوجته إلى عيادة الطبيب، كان في غرفة الانتظار: “موظفة الاستقبال وطفل أحول، وكهل ذو عصابة سوداء، وفتاة ذات نظارة سوداء” يدخل الأعمى الأول مباشرة لعند الطبيب كونه حالة استثنائية ليؤكد له الطبيب أن عينيه سليمتان ولا توجد أي عوارض لأي مرض، أمضى ليلته الطبيب في مراجعة ما تعلمه عن العمى ولم يتوصل إلى أي إجابة منطقية لما يحدث، بعد ذلك بقليل يصرخ في نفسه: “أنا أعمى لا أرى شيئا”.

يشك الطبيب في وجود حالة وبائية فيبلغ السلطات التي لم تتخذ أي إجراء إلا بعد انتشار الوباء بشكل ملحوظ

وفي اليوم الثاني كل من كان في غرفة الانتظار وكل من صادفهم الأعمى الأول، أصيبوا بالعمى.

بعد انتشار ظاهرة العمى بشكل ملحوظ، تتخذ الحكومة إجراءات وقائية لاحتواء الوباء وتقرر عزل العميان والمخالطين للعميان في مشفى مهجور للأمراض العقلية، مع حراسة مشددة لمنعهم من مغادرة المكان، ومع تزايد عدد المحجورين في المصحة يصبح الطعام الذي يلقيه عليهم الجنود من بعيد قليل فيتقاتل العميان فيما بينهم على حصصهم اليومية، ومع الوقت تتشكل مجموعة من العميان المجرمين السارقين الذين يستولون على الطعام فيصبح المال والمجوهرات والأشياء الثمينة التي يملكها العميان مقابلا الطعام، ومن ثم يقاضونهم على استباحة النساء ليحصل الجميع على الطعام، فيغدو العميان محكومين بغرائزهم البدائية عراة تماما إلا من أرواحهم “إن في داخلنا شيئاً ما لا اسم له وذلك الشيء هو ما نحن عليه”.

“العمى” لجوزيه ساراماغو الحاصلة على جائزة نوبل عام 1998 رواية خيالية فنتازية سوداوية عدمية مسكونة ببعد واقعي رمزي أحداثها تجري في خيال الكاتب خارج الزمان والمكان، يجرد الكاتب أبطاله من أسمائهم من أنسابهم من أشكالهم من أنظمتهم الاجتماعية المريحة المناسبة، ويجعلهم عميانا لا يرون إلا داخلهم ولا ينطلقون إلا من غرائزهم، ليعيش البطل في واقع جديد دون مبادئ يتمسك بها أو قيم يتحلى بها فتتجلى حقيقته كإنسان بجمالها وقبحها بعيداً عن عالم مريح صنعه الإنسان بنفسه

العمى رواية لا تعنى أبدا بالأسباب أو بالبدايات وإنما تعنى بالنتائج والنهايات…فأياً كان السبب فهو غير مهم ولكن ما ينتج عنه هو المهم، عندما يتجرد الإنسان من كل شيء، لا يبق لديه إلا أمراضه وعقده النفسية ويبقى هدف البقاء على قيد الحياة الهاجس الأول لديه. “لا أستطيع أن أجزم أن هناك مستقبل، فما يهمني أن أرى كيف سنعيش، لا معنى للحاضر دون مستقبل، ربما ستتدبر الإنسانية أمر العيش دون أعين لكن ستغدو بدون إنسانية”.

من بين المحجورين كانت زوجة طبيب العيون التي أدعت العمى لتبقى برفقة زوجها هي المبصرة الوحيدة والشاهدة الوحيدة على ما يجري في بلد العميان، لم تغدو ملكة لكنها غدت بائسة يائسة فهي ترى كل شيء أسود بينما العميان يرونه أبيض كالحليب…تتمنى أن تصاب بالعمى للتخلص من الألم والشعور بالمسؤولية.. فهي لا تستطيع إنقاذ الجميع فتقرر أن تساعد مجموعتها “حين يجن الجميع فإن احتفاظك بعقلك يصير أقسى أشكال الانتحار”.

رواية لا يوجد فيها علامة استفهام واحدة لكنها مليئة بالفواصل، كحياة منظمة بعشوائيتها

العميان ليس لهم أسماء، يصف لنا ساراماغو الراوئح والـصوات.. فندرك كل شخصية من خلال إحساسها بأصوات من حولها فيكون التقارب بين أبطال الرواية معتمدا فقط على إحساسهم النابع من أصواتهم بعيدا عن أي صورة أو قالب جاهز وبعيدا عن أي مفهوم اجتماعي قائم على الشكل أو اللباس أو أي مفهوم اجتماعي كان سائدا مع العمى الحليبي غدت خياراتهم معتمدة فقط على طبيعتهم البشرية وعلى مساحة أرواحهم الداخلية

العمى امتحان لطبيعتنا البشرية ولجودة خياراتنا ولسعة أرواحنا “العمى هو أن يعيش المرء في عالم تبددت فيه الامال كلها”.

الأعمى كما يراه ساراماغو ليس من فقد القدرة على النظر إنما من كان يرى ولا يرى فكان عمى سارماغو أبيض حليبي ليميزه عن العمى المتعارف عليه “عندما أصبت بالعمى أصبحت أرى بشكل أفضل “

عين ساراماغو المبصرة ترى الدين عمى..الحرب عمى.. الطمع عمى

الوباء عمى…السلطة عمى….والمال عمى والمفاهيم الشمولية عمى.. القوالب الجاهزة عمى وأن تعيش دون مستقبل أو بدون أمل عمى، وهذا العمى كما يراه سارماغو وباء جماعي لذلك يستطيع كل منا إسقاط شخصيات سارماغو عليه ليجد أبعاده النفسية الحقيقية وليدرك أن وجوده الحقيقي يكمن في إدراكه لذاته “إن أردت أن تحظى بخدمة ممتازة إخدم نفسك “

انظر جيدا ربما كنت أنت الطبيب وربما تكونين أنت الفتاة ذات النظارة السوداء أو ذلك العجوز وربما نجد بيننا شخصية “زوجة الطبيب” المبصرة المنقذة البائسة “أو ربما مع العمى نصبح جميعا “من أفراد العصابة “

لكن انتبه….

“أعتقد أننا عميان يرون،

بشر عميان،

يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون”

“كلمتان أو ثلاث كافية لجعل الغرباء شركاء بالتعاسة “

 

مقالات من نفس القسم