محمد فرحات
لا أدري لماذا يتلبسني عجز شديد إزاء كتابة شئ عن كلاسيكيات الأدب العالمي، بالرغم من تأثيره الشديد على كل ذرة من كياني، وبالرغم من معاودة القراءة لتلك النصوص كل عامين مرة أو اثنتين على الأقل.
أسائل نفسي دائما قبل أن يشرع القلم في الكتابة،”وماذا عساك أن تضيف؟! بعد كل ما كتب…!”
دعونا نتفق على سبب منطقي لوصف عمل أدبي بالعالمي، ناهيك عن ما قيل من كونه أنه قد استغرق بكل تفاصيله في محلية نشأته، فإن التماس الشديد بينه وبين المشاعر الإنسانية العامة كانت وراء كسبه لصفة العالمي، المشاعر الإنسانية البسيطة الصارخة في المباشرة، البعيدة كل البعد عن الأدلجة أو ادعاء قدرا ولو بسيطا من العمق…وهل عبرت “ماكبث” إلا عن مشاعر الطموح ثم الندم، وكذلك “هاملت” و الرغبة في الانتقام ثم الانصياع الإرادي لنوبات من الجنون بعدما عجز عن إحراز أي نصر كائن؛ لرقة بالمشاعر، ورهافة مكبلة لكل فعل يجابه المحيط الحتمي؛ والذي لا وسيلة للانفصام عنه سوى الاستغراق النهائي في تأملات لا تنتهي عن العالم، وطبيعة القبح والخيانة.
“1984” لجورج أورويل ديستوبيا عن بقعة كبيرة من العالم، تؤرخ للحكم السلطوي وتنطلق لرسم صورة سوداء لما سوف يكون عليه الوضع مستقبلا، حيث يختصر الوجود كله في الحزب المحيط علما وسيطرة بكل ذرة تحدث خارجة.
لا تكتفي النخبة الحاكمة بمجرد السيطرة على الأبدان، ولكنها تنطلق بلا كلل لتتحكم بمشاعر الفرد وأفكاره، تخاصم المنطق والتجريب وتطوع الممكن لأيدولوجيته…أن تؤمن بفكرتين متناقضتين في آن واحد، وتطلق على ذلك “الفكر المزدوج”، التزوير اليومي الدائم لكل جزئيات الواقع كي تتحكم في الماضي والمستقبل.
لا تقول فقط تحت وطأة التعذيب أن 2+2=5، ولكن أن تؤمن بذلك وبكل ذرة في كيانك…فالحرية هي العبودية، والحرب هي السلم، ووزارة الوفرة هي أن تقيم الفرد على حواف الموت جوعا، ووزارة الحب للتعذيب، وتكريس الكراهية كمتنفس عن كل المشاعر السلبية إزاء الحزب، ووزارة الحقيقة لتزوير كافة الحقائق لصالح الحزب.
تطويع اللغة في اتجاه واحد فقط وقتل المجازات…
وأن الحرب لامتصاص فائض السلع الكفيلة برخاء الفرد وتخليق وعيه ثم الطموح في التغيير.
الفهم العميق لحركة التاريخ أن الطبقة الوسطى حشدت الطبقات الأدنى تحت شعارات المساواة والحرية وأطاحت بالطبقة العليا لتحل مكانها، ولتمارس ذات الأفعال التي حشدت يوما للثورة حيالها، ولتعد الطبقات الدنيا لمكانها، ومحاولة تجميد حركة البندول.
ثم الاعتراف بأن السلطة للسلطة فقط بدون تلك الادعاءات حول الحكم لصالح الثورة أو الطبقة العاملة أو لتحقيق مثل المساواة والعدل…
القضاء على إنسانية الإنسان ليبقى الفرد مختصرا في المجموع، والمجموع مختصرا في الحزب، والحزب مختصرا في قياداته العليا، والقيادات مختصرة في قائدها الأوحد.
يؤرخ أورويل للمستقبل إذا جاز التعبير بمحاولة التنبؤ بشكل العالم السياسي، وحال الفرد المتشابهة في العالم أجمع ليسود الحكم الشمولي للحزب الواحد العالم أجمع.
لتجسد العلاقة بين “ونستون وجوليا” من جهة، والحزب من جهة آخرى نموذجا معبرا عن عضو الحزب، وكيف تتم مراقبة كل تفاصيل حياته بدقة، وأن أضعف خلجات الثورة على الوضع الراهن مرصودة وعقابها القتل، بعد نوبات من التعذيب، وغسل الدماغ من كل الحقائق، بحيث لايبقى غير الفناء في الحزب ومن ثم الأخ الأكبر زعيم الحزب.