عبد الرحمن أقريش
كانت عائلتنا كبيرة وممتدة، عصابة من الفلاحين الأشداء، لكن عمي (محمد) لم يشتغل أبدا في الأعمال الفلاحية، يداه طريتان كيدي طفل رضيع، وجهه أبيض بلون القمح، مع خطوط حمراء رفيعة تنم عن صحة ونضارة، ونقط سوداء صغيرة منثورة، الراجح أنها مخلفات وشظايا بارود البنادق، ولحية خفيفة كأنما رسمت عنوة، مشذبة بعناية، يمتزج فيها الأسود ببياض الشيب في توازن عجيب…
في المساء، نعود نحن الصغار من الجامع، فنجده في مجلسه أمام البوابة الكبيرة للدوار، نتوقف احتراما له، يمد يده، نقبلها، يأمرنا بتقبيل رأسه، نقبل حافة العمامة البيضاء، ويحتج مازحا في جملة تجمع بين الرقة والصرامة.
– قبل رأسي أيها الشقي!!
كان يحب أن يشعر بشفاهنا الطرية، وهي تلثم فروة رأسه، وكنا بالمقابل، نتجنب قسوة الشعيرات البيضاء في رأسه الحليقة.
نجلس في حضنه، ويسألنا نفس السؤال.
– أنتم أبناء من ؟!
ونجيب نفس الجواب.
– نحن أبناؤك!!
– ماذا تصنعون من أجلي ؟!
– سوف ننظف حظيرة الفرس الأدهم، ونقدم له العلف، ونمشط ذيله وناصيته !!
يمرر أنامله الطرية على رؤوسنا، يبتسم ويسأل.
– وماذا أيضا؟
لسنوات طويلة، كان المشهد نفسه يتكرر، في الأصيل وبعد صلاة العصر، أمام البوابة الكبيرة لبيت العائلة، وفي ظلال الجدار الحجري الكبير، يهيء عمي جلسة شاي لأصدقائه الخلص، كلهم فرسان، يتحلقون بشكل فوضوي وبدون تكلف، يفترشون الأرض في وضعيات مريحة، بعضهم يسند ظهره إلى الجدار الحجري، بعضهم يستلقي على جنبه، والبعض الآخر يمدد ساقيه، وينخرطون في كلام لا ينتهي، عن الأرض، والخيل، والمواسم، والأعراس ومغامراتهم النسائية…
يدخن الرجال، يتحدثون بهدوء، يتحاورون بنظام، ترتفع أصواتهم، تنخفض، ينصتون لبعضهم بإمعان، يسترجعون مغامرات الصبا والشباب، فيبدو منظرهم أخاذا، ساحرا، مثل لوحة استشراقية، جلابيب، عمامات بيضاء وصفراء، خناجر فضية، مزيج من البساطة والغرابة والجمال.
مثل أغلب رجال قريتنا، لم يتزوج عمي إلا مرة واحدة، ولكننا، كنا نعرف أن مغامراته النسائية لم تتوقف أبدا.
سمعته يوما يسأل (أفقير احماد).
– أما زلت قادرا على فعل ذلك ؟
– لا، أنت تعرف، لم أعد قادرا، أنا الآن عجوز، وركبتاي تؤلمانني كثيرا، و…
قاطعه عمي ساخرا.
– اقطع ركبتيك واسترح !!
شعرت بالخوف، تخيلت الرجل ينزف مبتورا من الركبتين، سرت في جسدي رعشة باردة، فقد كانت الجملة صادمة لعقلي الصغير.
كان عمي زعيما كاريزماتيا بكل المقاييس، فهو الوحيد في القبيلة الذي يحمل لقب (أمغار) وتعني الكبير، صحيح أنه لم يتقلد المنصب بشكل رسمي، لكن الجميع كان يحترمه ويبجله.
أستعيد صورته، أو ما تبقى منها، إنسان إشكالي، مرح، مزاجي، حاد الطبع، وروح نزاعة لا تستقر على حال، وسيم، قصير القامة، يلبس الأبيض على الدوام.
السعادة في نظره تركيبة سحرية، أعراس، مواسم، نخوة الخيل والتبوريدة، خناجر، بنادق مزينة بخواتم فضية، وصدى زغاريد نساء تشق الحجر…
عاش عمي جزءا كبيرا من حياته على صهوة جواده الأدهم، مثل أمير حقيقي.
مرت سنوات طويلة، طويلة جدا، دارت الأيام دورتها، وفقد الرجل الكثير من قوته وعنفوانه، دون أن يفقد حدة اللسان وحدة البصر، أفقدته الشيخوخة سطوته، دون أن يفقد عناده ورغبته في الزعامة والسيطرة.
صنعنا له أريكة حجرية إكراما له، وسادة وفراش من الصوف، أريكة تطل على المزارع، والحقول، وعلى مقبرة القرية، وتشرف على الأفق، يجلس هناك لساعات، يرقب الطريق، ومدخل الغابة، يراقب القطعان، والرعاة، وعابري السبيل، ويمتد بصره حتى حدود الأفق.
كان عالمه قد تقلص ليقف عند حدود قريتنا، لم يعرف عمي صناديق المذياع والتلفزة، إلا في المرات القليلة التي كان يزور فيها أهله بالمدينة.
تقع عينه على خيال شخص عابر.
– واهيا…واهيا…تعالى إلى هنا !!
– السلام عليكم !!
يرد عمي.
– وعليكم السلام، على سلامتك، كيف الحال ؟ والصحة والعظام ؟ والتعلق ؟ والمعلقات ؟! (يقصد امتدادات الأسرة، الزوجة، الأبناء والحفدة)
يجلس الرجل بأدب، يخرج عمي سيجارتين من جيبه، يمدهما للرجل الغريب، يشعل الرجل السيجارة الأولى، يمدها له، ويشعل الثانية لنفسه، يسحب الرجل نفسا عميقا من سيجارته، يدخن عمي بمتعة في حركات رفيقة وهادئة، وعلى وجهه ترتسم علامات الرضا والاطمئنان.
يتحدثان، يسأله عمي (محمد) عن أوضاع الفلاحة، والأمطار، والمحاصيل الزراعية، وأحوال القطيع، وأسعار اللحم والخضر، وأسعار الشاي والسكر…
كانت تلك طريقته في تقصي الأخبار، والانفتاح على العالم، واختراق حدود القرية الصغيرة.
المساء، تفقد الشمس سطوتها، تميل إلى المغيب، تتسرب أشعتها خلف غابة الأركان الكثيفة، ترسم ظلالا لغسق جميل وحزين، في الخلفية بعيدا يسمع صوت البحر، يستأذن الرجل الغريب، يغادر، يعدل عمي جلسته، يطفئ سيجارته، يغرس عقبها في التراب، يخرج سبحته، ترتعش شفتاه في تناغم مع حركة أنامله الطرية، ينظر للأفق وفي عينيه هدوء غامض.