خُطوطٌ بيضاءُ

 عبد السلام بوزمور   
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد السلام بوزمور

كاد المعلمُ أن يكونَ رسولا…

 ظلَّتْ هذه العبارةُ تتردَّدُ على لسانِه دونَ توقُّف، بعد أن أنهى كتابةَ النَّصِّ على السبورة تاركا للتلاميذ فسحةً من الزمن لينقلوه على كراساتهم. ارتسمتْ على شفتَيْه ابتسامةُ رضا وهو يُلقي نظرةً على النص، بدَت له الخطوطُ البيضاءُ على اللوح الأسود شُعلاتٍ من نور ترتسم على عقول هؤلاءِ الصِّغارِ أمامَه لتُنيرَ زاويةً أو حيِّزاً من عقولهم، لترسُمَ أمامَهم مَعْلماً من معالِم المستقبل المشرق.. لكن سرعان ما كسَتْ وجهَه سحابةُ حزنٍ حين داهَمه سؤال: كيف يكون رسولاً ولم يُبعَث في قومه؟ كيف يُخلَع من تربته لينشرَ لِقاحَ ما تلقاه من معرفة في تُربة أخرى، وإن كانت غيرَ غريبة لأنها جزء من وطنه؟

    تراءى له في الصَّف الأول، أخوه الأصغرُ الذي تركه لمصيره متردِّداً بين كُتاب الدُّوار، حيث يحفظ، لبعض الوقت، بعضَ آيات القرآن الكريم، والسُّهوبِ القريبة حيث يرعى قطيعَ الماعِز بقيةَ النهار. وتراءت له في صفِّ البناتِ أختُه ذاتُ الأحد عشر ربيعا، وهي تقضي سحابة يومها تحت وطأة الأشغال، من رعي وسقاية ومساعدة الأم في أشغال البيت ورعايه البهائم، ومساعدة الأب في الفلاحة..   

   انتقل مساء إلى مأواه، حُجرةٌ طينيةٌ مفتوحةٌ على ساحة المدرسة الفرعية المكونة من حجرتين طينيتين أيضا..أعَدَّ عَشاءه المكونَ من حَفنَة من الشعرية المدهونة بقليل من السَّمن البلدي الذي زوَّدته به والدتُه يومَ رحيله نحو مقَرِّ عمله.

   لن ينسى كيف كان ابوه يزوره في المدينة التي تابع بها دراسته، مُحمَّلا بما اجتهدتْ أمُّه في توفيره من مؤونة حرَمَتْ منها إخوتَه الصغارَ، وما وفره والدُه من بيع عنزة او تيس استطاعا أن ينموا في غفلة من الذئب؛ فقد كان القطيعُ المتواضعُ موقوفاً  على سدِّ حاجاته من المال، وحاجة الذئب إلى لحم العنز اللذيذ، أما باقي الأسرة فنصيبُها منه  يومَ عيد الأضحى.

   أبوه الفلاح البسيط لا يملك من الأرض، على وُعورتها وضعفها، سوى القليل، حتى إنه يَعمَد، أحيانا، إلى تغطية بعض الصخور العريضة بالتراب واستغلالها للزراعة، آملاً أن يضيف ولو نزْرا إلى محصوله الهزيل؛ فهو يعيش على كَفافِ الكَفاف، ورغم ذلك استطاع اجتراحَ ما يشبه المعجزةَ: أن يُخرجَ من هذه الأرض مُعَلِّماً..ليُلقَى به بعيدا عنه، في هذة الفرعية التي هي أشبه بجزيرة صغيرة في بحر مترامٍ من السهول المنبسطة الخصبة المتربة، التي يصعب فيها، لنُدرة الحجارة، أن تدافع عن نفسك إن هاجمك كلب.

    آه ياأبي .. ما أنْصَفَ الدهرُ بين أبناءِ هذا الوطنِ؛ كيف تَسْتَفُّون انتم هناك الحَجَرَ، وينعمُ الناس هنا بالخيرات بقليل من الجهد؟ آه ياأبي .. لو أتوا بك إلى هذه الأرض وأقْطعوك بعضَ ما يتركونه منها دون استغلال، أتَصَوَّرُ ماذا يمكنك أن تخرجَه منها من كنوز؛ فأنا أدرى بمهارتك وجِدِّك في طلب الرزقِ الحلال . ليتَهم يفعلون ذلك، ويُرجعونني أنا إلى هناك لأعلِّمَ إخوتي وأحقِّقَ بعض أهدافِ رسالتي، وليتحقَّقَ بعضُ التوازن في هذا الوطن.

    أوى إلى فراشه بعد أن أعدَّ دروسَ الغد، أطفأ القنديل ، لكن جفاهُ النومُ.. تحايل عليه بشتى الطرق، وما إن أغْمضَ جفنيه حتى دخل إلى مَلكوتٍ آخرَ.

   في الصباح، وهو يُعِدُّ برادَ الشاي على نارٍ زرقاءَ ينفُثُها جوفُ فُرنِ الغازِ السائل، تذكَّر حلمَه، خامرَه شعورٌ بالقلق، لكنه تفاءل راجيا أن يكون بشارةَ خير.

   الآن، وقد أُحيلَ على التقاعد، ما زال يتذكر تفسيرَ ابنِ سيرين لحلمه، وهو يشهد، كل عام، موسماً تتهيأ فيه فراخٌ، تعهَّدها مُذْ كانت زُغْبَ الحواصل، لمغادرةِ العُشِّ، بعد أنِ اشتدَّ ريشُها، مُوَلِّيةً ناحِيةَ الشَّمال.

 

مقالات من نفس القسم