أحمد حلمي
عبر تيار الوعي نبحر مع وفي ذكريات وعقل “الحسين” الشقي السعيد عبر تسعة عشر فصلا من أصل عشرين فصل هي متن الرواية الكامل، تلك الرواية التي مقطعا من سيرة ذلك “الحسين” وأمه “الصديقة”، يأخذنا حسين عبد الرحيم عبر تيار وعي الراوي إلى رحلة في المكان والزمان تبدأ وتنتهي في نفس المكان والزمان تقريبا.
تبدأ الرواية بخبر موت “الصديقة” أم “الحسين” الشخصية الرئيسية، فيبدو الفصل الأول كمحاولة رثاء لا تنجح، فتنفجر المشاهد والذكريات، “شريط حياتي مع أمي” على حسب تعبير الراوي، تنفجر بتتابع شبه منضبط كرونولوجيا، لكنه غائم وضبابي على صعيد التفاصيل والحدث الواحد داخل كل مشهد، وأيضا موثوقية بعض الأحداث من حيث إمكانية حدوثه بتلك الطريقة التي سرد بها.
إنفجار الذاكرة بالذكريات يبدأ بانفجارات “نكسة 67” في مدينة بورسعيد، فيحكي الراوي عن نفسه وهو رضيع على صدر أمه رحلة التهجير الأولى على المركب الأول. السرد هنا من وجهة نظر الرضيع، فيحكي عن الرحلة والشخصيات وحادثة السقوط التي تعرض لها، وعن غياب الأب والافتقاد إليه. يتم الحكي عبر الخلط بين سرد الأحداث الحقيقية (التي تبدو حقيقية) وبين مشاعر وتخيلات أو تجليات قادمة من عوالم أخرى، تبدو أحيانا عوالم حُلمية أو سريالية، وأحيانا أخرى صوفية روحانية.
طريقة السرد (الخلط) المخاتلة والمضطربة، الغائمة والضبابية، هي الطريقة المعتمدَة لأسلوب السرد في هذه الرواية، وهي متسقة بل نابعة من كون الرواية تنتمي لروايات تيار الوعي بشكل واضح وصريح.
الراوي يسرد من الزمن الحاضر، يسرد بكل طاقته ووعيه الحالي ومعارفه التي بلغها في الخمسين من عمره على حسب أحدى إشاراته داخل النص، وظل كذلك محافظا على هذا الموقع طوال الوقت، رغم وصول السرد في عدة مواضع من الرواية لما هو أعمق من الذكرى في العقل البشري، وصل السرد في هذه المواضع إلى الشعور المصاحب للحدث، وإلى الأحداث المتخيلة التي تحدث داخل عقل الشخصية، بل تجاوزت ذلك واختلطت الأزمنة داخل المشهد الواحد بظهور شخصيات أو تجليات للشخصية الرئيسية/الرواي قادمة من الماضي القريب والمستقبل البعيد والقريب كذلك، لتتدخل في سير السرد وتضيف إلى الطبقات السريالية والحُلمية وتضع بعض السيناريوهات البديلة لسير الأحداث المتوقع.
رغم كل تلك التداخلات الأفقية والرأسية في السرد ظل الراوي محتفظا بمقعده أو موقفه الخارجي المستقبلي الذي يستعيد منه لنفسه ويروي لنا منه كل تلك الأحداث والخيالات، هذا الموضع هو ما مكنه من طرح اسئلته المباشرة عبر سؤال الشخصية الرئيسية لنفسها أو لتجلياتها أو سؤال الراوي لها، أو عبر سرد الحدث ذاته وما يطرحه من أسئلة.
من الدلائل على احتفاظ الراوي بمكان خارجي يسرد منه الحكاية نجد أثناء مشاهدته وهو طفل لفيلم “شيء من الخوف” يتحدث عن شريط الصوت بالفيلم، وهو مصطلح تقني للعاملين بالسينما لا يستخدمه عموم المشاهدين فما بالنا بطفل مهجر في ستينات القرن العشرين، كذلك كلمة “لوجو” بدلا من شعار كانت من كواشف موضع الراوي المتعمد، أيضا استخدام تعبير “خفة كائن لا تحتمل هواجسه” و”مسارات مضت لم تنقضي” كلها دلالات واشارات كاشفة عن شخصية الراوي الحالية الساردة، كما كشفت عن موقعه.
رغم أن الرواية تبدء وتنتهي عند الأم ووفاتها، ويتم تصدير النص كمرثية لتلك المرأة الراحلة، فظهور هذه المرأة وتواجدها يتراجع كثيرا كلما أوغلنا في السرد لحساب شخصيات وأحداث وخيالات أخرى، فمع نهايات الربع الأول من النص نجد أن الأم تراجعت لتحل في المرتبة الثانية لحساب امرأة أخرى، وتلعب في هذه المرتبة (أعني الأم) دورا أشبه بالـ”Anti-Villain” أو الشرير المضاد، فهي تعمل من أجل المصلحة العامة للعائلة وبقائها ونجاتها، لكن في المقابل تمارس كل القسوة والتجاهل والتعنيف للطفل الهائم في عوالمه، السابح في خيالاته.
هذا التحول في شخصية الأم كما زحزحها عن المركز (مركز الرواية ومركز حياة الطفل) سمح أيضا بظهور “أم هاشم” كشخصية نسائية مركزية في هذا العالم، لتحتل هي مركز الرواية حتى قرب النهاية بقليل، مع بقاء الأم ويشاركها الأب -بعد عودته للظهور- في مرتبة الـ Anti-Villain.
“أم هاشم” بكل ما يحمل هذا الاسم من دلالات تاريخية أو دلالات داخل الوعي والثقافة الشعبيين تظهر به الشخصية النسائة المركزية الثانية (في ترتيب الظهور) ومحور الحدث الأكثر وضوحا وحجما داخل هذا المقطع من تيار الوعي السيري الذي نحن بصدده، فأم هاشم أو زينب الكبرى الأخت الشقيقة للحسين بن على أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم تتناص معها “أم هاشم” خاصتنا حاضنة “الحسين” بطل قصتنا، ويبدا التناص من مشهد الظهور الأول فنجد في صفحة 32 ما يلي: “واصلت الفتاة المشي على مهل تحت الأشجار، فُتح باب السائق، ورأيتني أنادي بأعلى صوت ترددت أصداؤه في آفاق المدينة: “أم هاااشم”. “
في هذا المشهد نجد في النداء ثاني تناصات أم هاشم، فهذا النداء الصوتي في أصله واستخدامه الشعبي نداء تبرك واستغاثة من المريد أو طالب الحاجة بصاحبة المقام والفضل والبركة، لكنه هنا في النص هو نداء تعارف وتعرف من الوهلة الأولى على المرأة الجديدة صاحبة المركز والمكانة، فمع هجر الأم للطفل الذي لم يعد رضيعا، ظل الطفل يبحث عن أنس وونس واحتواء، وبعد تحول الأم بسبب التغيرات الجذرية التي عصفت بعالمها، اضافة لتقدم الطفل في السن، وجد في أم هاشم البديل، وجد الأم والأخت والرفيقة والحبية، وجد المرأة المثال، فجعلنا الراوي (المراوغ في هذه اللحظة) نراها بعينيه الحالية، أنثى مكتملة مثالية خطت أولى عتباته في مدارج الأنثى بنحاج هائل، فيحملنا أفق التوقع إلى قصة حب غير ممكنة غير مقبولة، إلى حكاية الطفل والمرأة (كما في امتداح الخالة ليوسا)، إلا أن الحسين يخذلنا، حيث يحبها قلبه وروحه وجسده، دون جنس أو اشتهاء، دون أي أفعال اريوتيكية صريحة (تمتلئ الرواية بالتلميحات الإيروتيكية فيما يتعلق بعلاقة الحسين الطفل بالنساء حوله، لكن لا يوجد تصريح واحد واضح)، أحبها حب العطاء من القلب، وحب الونس من الروح، وحب الجمال من الجسد، فكانت حالة من الافتتان بأم هاشم تشمل كل الحسين بن حسنين.
طفل أوسط وحيد مملوء بالخيالات والهواجس تزوره تجليات مستقبلية وذكريات ما قبل ادراكه، فتدعمه حينا وتنغص حياته أحيانا، يقع في حسب ملاك جميل يملأ حياته، ويضفي عليها معنى لا يدرك أبعاده بعد لكنه يملأه حتى النخاع ويتوحد معه، ذلك ملخص علاقة الحسين بأم هاشم على مستوى الشعور، لكن أم هاشم لا تنتهي تناصاتها هنا، فكما استبدلت الأم في مركز النص، بدعت كأنعكاس ملائكي لها داخل النص نفسه من خلال تناص داخل آخر، فبين حادثتين كان الحمام العام (في المدرسة والمسجد) مكان لهما، نجد الأم الناجية من الأول ونجد “أم هاشم” الضحية في الثاني.
مع هذا الحادث الأليم المروع -الذي تم سرده بكل ما يمكن من ألم جميل وجمال مؤلم يتراجع السرد الحكائي الواضح، ويصل تيار الوعي إلى ذروته وعنفوانه وتظهر تجليات الراوي والبطل الخمس الذين تم الإشارة لهم سابقا في النص في عدة مواضع وظهروا على استحياء في مواضع أخرى. هؤلاء الخمس الذين يسكنوه -على حد تعبير الراوي نفسه- كانوا حاضرين بقوة فيما بعد الكارثة، حتى أن أحدهم ذهبت لينتقم لأم هاشم في واحدة من أقوى تجليات وذُرَى تيار الوعي المتألم.
التناص الأخير لأم هاشم يأتي في مشهد الصعود النوراني فيما بعد الموت في مشرحة المستشفى، فكلتا المرأتين تشكلت أمام الحسين في نفس المكان على هيئة طاقة نور صاعد إلى السماء في لحظة الوداع الأخيرة بينهم.
قبل إلقاء الضوء على أسئلة الرواية الرئيسية وتيماتها أقف قليلا عند بعض مشكلات الرواية، والحقيقة أني أقف أمام مشكلة واحدة كانت مؤرقة، وهي قريبة من الموضع الي كنا بصدد مناقشته قبل قليل، فالمشكلة هنا كانت الإفراط في السرد بعد الحادث المؤلم لأم هاشم.
فعلى مدة عدة فصول لم تخلو من الأحداث أو الخيالات أو التجليات المهمة، تم تكرار واجترار العديد من المشاهد والموتيفات والألم، مما أصاب السرد ببعض الترهل في هذه الفصول وابطئ إيقاع النص بشدة، وإيقاع النص في العموم كات يتراوح بين البطئ (المناسب) والاضطراب، وفقا للتقنية المكتوب بها النص ككل، لكن التكرار والاجترار جعلا البطئ في هذا الموضع مأخذ على النص.
وأخيرا، الرواية تطرح عددا من الأسئلة ولا تجيب عليها بشكل مباشر، سواء في الطرح أو الإجابة، فنجد سؤال يتكرر على مدار النص، “أين أبي؟”، يتكرر السؤال على مدار غياب وحضور الأب، يظل السؤال مطروح، وكذلك “أي البلاد بلادي؟” سؤال آخر يحمل من الغربة والتغريب الكثير، وهما مدخل آخر يمكن قراءة النص من خلاله قراءة كاملة ومغايرة.
السؤال عن مصدر الهلاوس والخيالات والتجليات، والتساؤل عن ماهيتها (الخمسة الذين يسكنون الراوي على سبيل المثال) طوال الوقت سؤال يبدو في داخل العالم الروائي لكن أعتقد أنه يخرج منه ويطرح نفسه خارجه، على عكس التساؤل عن العدالة داخل النص بالسؤال عن مصير المجرم الذي اختفى كأنه تبخر في الهواء بعد ارتكاب جريمته، يتم طرحه على استحياء ولا يتجاوز ذلك أبدا.
بالطبع لن أسعى للإجابة على أسئلة النص، فلكل قارئ إجابته، كذلك أؤكد على احتواء النص على جوانب عديدة أخرى لم أستطع التطرق لها في هذه القراءة لأنها ستفتح أبوابا لقراءات أخرى منها النفسي والسياسي والتاريخي والاجتماعي غير ذلك، لكن أستطيع أن أختم بسؤال حول هذا النص السيري، هل سنجد يوما ما كتاب أخر يكمل سيرة الحسين الراوي، والسؤال الأهم كم يبعد الحسين الراوي عن حسين الروائي؟