في “باب الليل” لوحيد الطويلة.. “لا تحلموا بعالم سعيد”

باب الليل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مجدي نصار

لأننا أمام عمل سردي عظيم الجمال، فلا أجد خير من لفظة (الله)، خالق الجمال وصاحبه، لأقرنها بجمال هذا العمل فأقول دون تردد: “الله على الجمال”.

وحيد الطويلة روائي بروح شاعر أصيل وعقل حكيم مُلهَم، قل حاوٍ إن شئت، قل بئر سحيق القرار، عالم نفس خبير بالشخوص وطبائعها، أرى رغبة جامحة في استبدال لفظي “سارد” و”السرد” بلفظي “سرّيد” و”السردنة” كيما يتسقا مع أول أوصافي له كــ “حرّيف” سرد، شديد “الحرفنة” السردية.

يصحبك الطويلة إلى عالم صغير وكبير في آن، فمقهى (لمّة الأحباب) بمدينة تونس هو وطنك الأكبر الذي يعج بالهموم كما أن مدينة تونس ليست هي بيت القصيد فهي رمز لكل مدينة عربية وكل من هم في المقهى من عاملين به وزبائن هم أنت وأنا وكل عربي.

يمنحك وحيد كما هائلا من التفاصيل ببساطة شديدة وعمقا أشد!، المكان (المقهى) بطله الأول والجسد، جسد النساء تحديدًا، بطله الثاني، والسارد، الطويلة نفسه، البطل الذي لا يُنازَع في بطولته لأنه يحدثك أنت، يصحبك على كف الراحة ليذكرك بكل ما يحيط بك وبوطنك من آلام وهموم.

مراوغ كبير يحدثك ظاهرًا عن الجسد وباطنًا عن النفس، مستخدمًا تقنية دائرية في السرد (توديك وتجيبك مع الحدوتة)، تنقلك من خيبة شخصية روائية لخيبة أخرى، ومن خيبات الوطن إلى خيباتك الذاتية.

باب الليل مجموعة من الأبواب متشابكة داخل مكان واحد، في كل باب تتعرف على شخصية جديدة وربما أشخاص، على هم جديد وربما هموم، على جرحٍ وجراح، الوطن العربي كله في مكان واحد، الأجانب لا يغيبون عن المشهد، يحتكون بوطن يحتك به ناسه ويحتك هو بهم، يراودك الطويلة عن وقتك وعن حياتك وعن عالمك ليصحبك في (ليلِه) من باب إلى باب فاتحًا في رأسك بابًا كبيرًا يلج منه إلى خيالك ويتربع فوق عرشه،

يبدأ الطويلة بالحمّام وبأن كل شيء يحدث في الحمّام وينتهي بالحمّام ليصدح في رأسك مذكرًا إياك بمآسي وطن تبدأ وتسير وتنتهي أزماته في حمّام.

يحدثك الطويلة عن أشياء جمّة تصب كلها في كأس هم واحد، عن الوطن المهزوم والمواطن المهزوم، عن البغايا وبائعات الهوى، عن الفلسطينيين المُهجرين، ضحايا أوسلو، الغير قادرين على العودة إلى وطنهم واصفًا إياهم بقوله (أسماء مكتوبة بالأحمر في قوائم إسرائيل ومشطوبة بالأحمر في كشوف الفلسطينيين)، عن مأساة العراق والفلسطيني الذي يعيش على الأطلال (أبو جعفر المهزوم) كما تعيش أنت وكما أعيش أنا وكما يعيش كل عربي، عن الهزيمة العربية الطويلة، عن هزيمة وطنك وكل بقاعه، عن هزيمتك أنت، يمر على الجراح دون رتق، عن الخلاعة وعن عبادة المال، يصدح بحقيقة هذا الزمان، (حط الفلوس على وجه الميت يضحك)، يجعل الغانية تسأل، (لحم ولا فلوس؟).

يحدثك عن الآفات الاجتماعية؛ الكذب والرياء والنفاق والنميمة، عن سطوة الشهوة والجنس.. عن كيد النساء وعن الخيانة، عن النضال في الفراش، عوضًا عن النضال الوطني الكبير، حتى أنه يجعل مناضلي الوطن يشعرون بالغيرة من مناضلات الفراش لأنهن أوضح وأقوى، ينصرف الجميع من الحلم الأكبر إلى أحلام صغيرة وشخصية وانتصارات تافهة.. يقول، “يلعبون ليقتلون الوقت المقتول”، مهزومون يتنافسون في لعب الورق ويتناحرون حول مباريات كرة القدم وكأنما يبحثون عن أي نصر يعوضون به الخيبات الثقيلة، يحدثك عن شخوص مستعملة يلبسون الملابس المستعملة من فائض أوروبا.

أنت أمام عمل عظيم، كاشف، يخلع فيه بطله الأول عباءة الواعظ، يحكي ويسخر خلال الحكي، أنت أمام كتابة حيادية لكاتب يحايد في سرد الأحداث ولا يحاسب شخوص روايته، يتعامل مع النفس بفجورها وتقواها دون محاسبة تثقل كاهل القارئ، كل بالغ بداخله طفل، كل شخص بداخله كل شىء، لكل الناس في المراوغة قواعد، يحدثك عن مبادئ وقوانين في عالم سفلي ليلي لا يرى النور!

عدد كبير من الحكاوى يدفنها البعض في حكاوى البعض الآخر، وتصب جميعها في حكاية كبيرة واحدة، حكاية وطن، يختصره في المقهى، يُصغِره أمام عينيك لكنه يكبر في قلبك، يحدثك عن دفن الحزن في تربة أخرى (لا تصدق الكلام الكبير عن واحد ترك عزاء أمه وهرع ليلعب مباراة الكرة من أجل الواجب، أو ممثلة صعدت المسرح يوم وفاة أبيها. ليس موقفاً، هو محاولة لدفن الحزن في تربة أخرى، أو لربح نقطة على حسابه، أو توزيعه بغير عدل على الآخرين.) يحدثك عن دفن آلام الماضي وذكرياته البائسة في أحضان النساء.

يحدثك عن النساء الجريحات والرجال المهزومين، يسرد حكايات لنساء مختلفات ورجال كثر ويجمع خيوط الحكايات كلها أمام عينيك في بابين (باب النساء) و (باب الرجال) على الترتيب.

يحدثك عن فلسطين دون متاجرة، بل يحارب المتاجرة بالقضية،. يحدثك عن المخلصين وعن الجواسيس، عن الشتات الفلسطيني، عن علاقة العرب بأوروبا، عن الهجرة غير الشرعية.

الوهم أحد أهم ما يحدثك عنه الطويلة، عن الغارقين في الأوهام والمتباكين على أطلال لن تعود، عن أبو جعفر المنصور/المهزوم الذي ينتظر عودة صدام حسين وحزب البعث، عن وهم النصر على العدو والذي سيأتي على طبق من ذهب دون مشقة، عن وهم عودة الغائب (أخو نعيمة المهاجر)، عن انتظار المسيح المخلّص، عن وهم السفر لأرض الأحلام، كل ينتظر مسيحه لكنه لا يأتي، يقول الطويلة، “لا أحد ينتظر أنبياء الآن يا أبوشندي، زمن الرسالات انتهى.”

بارع في الإسقاط وتقريب الحكايا، يطلق أسماء معينة على الأشخاص تحمل دلالات شديدة العمق، يعيّن الشخصيات داخل المقهى (الدولة/الوطن) رؤساء جمهورية وملوك وملكات ووزراء ورجال دين، يشبه المرأة بالبندقية في مشهد بارع، يأتي لك بحتشبسوت وحكايتها من أول الزمان ليقارنها بحكاية درّة وسفيان.

يحدثك عن الفساد، فساد الحاكم ورجال حاشيته، فساد الصحفيين، فساد رجال الأمن، الطفل الذي حلم بمقعد الرئيس ونال العقاب لأنه حلم فقط، صورة السيد الرئيس داخل المقهى، رجال الأمن في المقهى الذين يعرفون كل ما يجري وكل شيء يمر بمباركتهم.. كل شيء عادي إلا التجرؤعلى السيد الرئيس، الفرد الصمد، صاحبة المقهى تتلقى اللوم من رجل الأمن، الذي صار بعد ذلك رجل دين، لأنه هنأت الرئيس علانية بقدوم الخريف، وفي اختيار الفصل لعبة ذكية يخسف بها الكاتب بربيع الحاكم الوهمي، ينتصر لدرّة صاحبة المقهى في النهاية على الحاكم الذي ستبيده الثورة، يجعل درة تشعل فتيل الثورة، وأين؟ في الحمام أيضًا، حين تحطم صورة الرئيس! ينتهي عهد ويبدأ عهد جديد، ثم يُبدع في تطبيق قول أمل دنقل، “لا تحلموا بعالم سعيد” وهو يصف لك حال المقهى بعد رحيل الحاكم، زبائن جدد ولكن بنفس الطباع ونفس البغي ونفس الرحلة من جديد ونفس الخيبات.

لا ينسى الحديث عن الحلم والأمل، فأي من هؤلاء الحزانى والنادمين لا يخلُ من الأمل، عن أحلام السفر وأحلام الثراء والامتلاك والشهرة والمجد والعودة إلى الوطن.

وعن لغة السرد عند الطويلة حدث ولا حرج، يذهلك بتشبيهات تجعل عقلك يغيب عن الحكاية لثوان ويدخل في متعة اللغة، بديع في زرع المعنوي محل المادي، (داس على الموت أكثر من مرة، فرمه بقوة تحت قدميه ومضى)، يشبه أشياء النساء بالقنابل والمدافع وأشياء الرجال بالنِصال، بارع في استخدام المجاز، أستاذ في توظيف الصوت/الأغنية داخل المشهد، مطربين/مطربات يتسللون/يتسللن إلى المشهد بمقاطع غنائية شديدة الارتباط بما يجول في نفوس الشخصيات، يقول مثلًا عن (السح والدح) لعدوية، (وعندما يقترب “السح”  تحتك مؤخرات وعجيزات، وعندما يدخل “الدح”  تنتفخ الأعضاء في مكامنها، ويسبح المقهى كله فوق رغوة كبيرة)

كتبت هذا بروح قارئ إذ أنني لست ناقدًا ولا أملك الأدوات لذلك، يكفي أن أخبرك أنني كلما أقرأ عملًا أدبيًا أضع خطوطًا أسفل عبارات وجمل وتشبيهات معينة أثارت إعجابي لتعينني في رحلتي الكتابية التي لم أخطو فيها خطوات جادة بعد، ودون مبالغة، تخطى عدد العناصر التي اعتبرتها بديعة الستمائة عنصر.

مقالات من نفس القسم