سمية عبد المنعم
انطلق من أقصى الجبل رجل يعدو، رافعًا يديه، كلما اقترب دنا صوته إلى آذاننا المصغية بقلق، وبينما يستبين بعضنا كلماته يتساءل الآخرون في لهفة ” تُرى ماذا حدث بالجبل؟”، وربما تمتم أحدهم بصوت خافت ” ترى من مات اليوم؟”.
صار الرجل أقرب، وصار بالإمكان مبادلته حديثًا صائحًا:.
” ماذا حدث يا أبا عبدالله؟
لهج أبو عبدالله متحشرجًا: “مات علي ..سقطت فوقه حجارة الكسر ..مات علي”…
” ياالله..علي..مات “
صاح بها أحد الواقفين ، فيما اكتفى الآخرون بهزة رأس ونطق الشهادتين، وتركوا ما بأيديهم ، وساروا خلف أبي عبدالله نحو الجبل في حركة تلقائية.
نظرتُ أنا نحوهم في تردد؛ هل ألحق بهم أم لا، أفقت من ترددي على يد تربت على كتفي، وصوت أحدهم يقول ” انتظر أنت معي يا ياسين”.
تركت له كفي يسحبني منه نحو تبة قريبة ، أجلسني بجواره وسألني في حيرة ” صغير أنت على العمل بالمحجر يا بني، لا تبدو قد تجاوزت العاشرة بعد “.
لم أرد، واكتفيت بإيماءة من رأسي وعيناي مازالتا معلقتين بأثر الرجال المنطلقين نحو الجبل..بل نحو علي..
انتفض جسدي الضئيل وأنا أرى على المدى ما يشبه الجنازة؛ جمع لا يتخطى الخمسة يحملون جسدًا فوق رؤوسهم ويهرولون نحونا…
ازدادت انتفاضتي والجسد يسجى أمام عينيّ، ركعت على ركبتي، حاولت أن أمسح عن ذلك الرأس المهشم ما علق به من تراب مخلوط بدم، فلم أقوَ..
عادت اليد نفسها تربت عليّ وتجذبني بعيدا، لكنني أصررت على البقاء محتضنًا رأس عليّ بين يدي، وهمهمات من حولي تهمس ” دعوه..”..
“عليّ”…لا شيء بقي من ملامحك، فأين ذهبت، أين ابتسامتك البشوش لي، ونصائحك الدائمة بأن أبتعد عن الجبل إذا ما بدأ الكسر ، فلماذا لم تبتعد أنت عنه يا علي..لماذا؟
لا أذكر ما حدث لي بعدها، فقد أفقت لأجدني نائمًا داخل إحدى الخيمات، وحولي اثنان من العمال.
المحجر.. باب الرزق للمئات؛ شباب ورجال وأطفال، فالمحجر يفتح ذراعيه للجميع، شريطة أن يكون العامل قوي البنية قادرًا على تكسير الحجارة وحملها.
جئت إليه عاملًا ، أنقل الحجارة مع الآخرين إلى حيث سيارات تحملها لمصانع السيراميك وأماكن فصل المعادن عنها.
فمنذ قذف بي عمي إليه، عقب مصرع أبي تحت أنقاض الجبل، وأنا هاهنا أعمل لعشر ساعات يوميا، أحيانًا كنت أرى وجه أبي بين الحجارة، أراه يلوح لي ويبتسم.
أسرع آخر اليوم إلى حضن أمي لتبلل وجهي بدموعها العاجزة، كنت في كل مرة أود أن أقول لها إنني رأيت أبي! ولكني أتراجع، تغرقني هي بنظرات حاولت فهمها فلم أستطع، كان “علي” يقول لي إنها نظرات أسف لعجزها عن تحمل مسئولية أسرتي الكبيرة واضطرارها للتضحية بي لأساعدها.
نعم كان “علي” صديقي رغم الفارق بين عمرينا، كان يصغي لي ولا يبدي تأففًا لحكاياتي الصغيرة، ازداد قربًا وحرصًا عليّ حتى ظننت أننا في العمر ذاته، هو في العاشرة، أو أنا الذي في الثلاثين.
اليوم جئت متأخرًا؛ فلم أستطع مبادلته تحية الصباح وإلقاء بعض العبارات الملخصة ليومي بالمنزل وحال أمي وإخوتي..
انتظرت أن تجمعنا جلسة الغداء، التفافنا جميعا فوق تلك التبة والتصاقي الدائم به، فتصل إلى مسامعي همسات الآخرين ” إنه ملتصق به كالولد لأبيه..طيب عليّ..”
أسمع فأبتسم ويزداد التصاقي ب”علي”.
” ألم تفق بعدُ يا ياسين؟”
انطلق الصوت مخترقًا سيل ذكرياتي ، فتحولتُ بنظري إلى مصدره قائلا بوهن ” بل أفقت “.
تعلقت عيناي بعم إبراهيم، صاحب اليد ذي التربيتة الحنون، من يطل إشفاقه عليّ بين الحين والحين في نظرة أو كلمة أو فعل، التحق بنا منذ يومين فحسب، ورغم أنه لم يتخط الخامسة والأربعين، إلا أنه يبدو في الستين، هكذا أسمع العمال يرددون، ويهمس بعضهم أن علاقة قرابة تربطه بالريس بركات كبير العمال، وهو ما جعله يتغاضى عن ضعفه وعدم قدرته على حمل قدر كبير من الحجارة أو التكسير لوقت طويل.
أجفلتُ في تأثر وعم إبراهيم يربت على كتفي تربيتته المعتادة بحنوٍّ بادٍ، ويدعوني للعودة إلى بيتي؛ فقد استأذن لي الريس بركات.
شيعته بنظرة امتنان وجاهدت لأبتسم فلم أستطع، وقد أدرك هو ما أعانيه؛ فإذا به يضمني إلى صدره صائحًا وهو يهزني بشدة ” ابكِ يا بني، اصرخ، لا تكتم دمعك، فقد كان لي ابن في مثل عمرك وقتله الحزن على موت أمه…
قالها وانفجر في بكاء حار، واختلطت دموعنا وارتعاشة جسدينا الملتحمين في عناق مقهور.
يومان مرَّا، ولم تقوَ قدماي على حملي إلى العمل، فرجتْ أمي الريس بركات أن يمنحني إجازة خلالهما، وتوسط عم إبراهيم لديه ليستمر راتبي كما هو خلال اليومين، وكان يحرص على الحضور بنفسه للاطمئنان عليّ ومنح أمي راتبي.
المحجر دون “عليّ” يشبه قبر أبي المظلم، هذا ما شعرت به بينما أخطو أرضه بعد عودتي، تذكرت عم إبراهيم، فسألت عنه..
هناك ، عند الكسر ..
انطلقت نحوه أناديه، التفت إليّ وأشرقت ابتسامته من بين ظلال ملامحه المدفونة بين الغبار، ورفع إزميله صائحا: “ياسين..حمدا لله على سلامتك يا بني”
ألقى بإزميله أرضًا وأسرع نحوي فاردًا ذراعيه، وانطلقت أنا نحوه مادًّا قلبي، فاخترق ضوضاء الكسر صوت يصرخ: ” ابراهيييم..انتظر ، فإن الكسر بأعلى الجبل مازال مستمرًّا، لا تنحرف يمينا..ابرا….”..
تسمرت قدماي وأنا أرى حجرًا ضخمًا يهوي من أعلى الجبل فوق عم إبراهيم مباشرة، اختنق صراخي وقد اختفى جسده تمامًا ليعلو الحجر عاصفة من غبار كثيف، اختلط بصرخات الرجال.
هُرع العمال من كل صوب نحو الحجر الجاثم فوق جسد عم إبراهيم، إلا أن صراخ أحدهم نبههم إلى استمرار التكسير، فتسمرت أقدامهم يرقبونه من مسافة بعيدة في جزع، تجمدت عيناي على الحجر وقد حلّق فوقه جسد أبي، ناظرًا إليّ وهو يبتسم ، فاردًا ذراعيه كأنه يناديني.
صراخ الرجال يتعالى وصوت أبي هاتفًا باسمي يعلو كل صراخ..
مات عم ابراهيم ..ذهب الرجل الطيب ضحية حبه لياسين ..
ياسين..تعال..يااااااسييييين..
فجأة يبدو جسد آخر محلقًا بجوار أبي، إنه “علي”، فاردًا ذراعيه نحوي، وعمال التكسير بأعلى الجبل يصيحون: ابتعدوا.
وعم إبراهيم مازال أسفل الحجر ، والرجال يتحلقون في دائرة متسعة مبتعدين عن مركز التكسير، وأبي و”عليّ” يصيحان “ياسيييين..ياسيييين”..
فجأة حلّق جسد عم إبراهيم بجوار أبي و”عليّ” ليفرد ذراعيه بدوره هاتفًا بابتسامته المشرقة: ياسييين ..تعاااال..
الأذرع الست تنادي؛ فأسرعت متلهفًا..وأنا أبتسم.
” ياسين..إلى أين تذهب يا مجنون..انتظر يا بني..لا تدخل تلك الدائرة ..انتظررررررررررر…ياسيييييين.
تمت.