د.محمود فرغلي
ليس الشعر طبخة سابقة التجهيز، وليس الشعر أيضا بالفضاء المغلق الذي نُؤوي إليه ما نشاء ونقصي عنه ما نشاء، إذ يظل الشعر فضاءً رحبا يكتنز ديمومته وقدرته على التجدد، من رؤى مغايرة للواقع وللإرث الشعري معا، وقصيدة النثر ليست بمنأى عن ذلك، بل هي في قلبه، فهي قصيدة محكومة بديمومة التجريب والخروج على الأطر والقواعد المُعلّبة، حيث يأخذ هذا الخروج أشكالا عدة، حتى أنه تتوافر لكل ديوان بل ولكل قصيدة خصوصيتها الشعرية القائمة على المغايرة والاختلاف، فإذا جاءت القصيدة من أنثى، فإن الأمر يجنح لمغايرة أشد، مغايرة تحكمها طبيعة الأنثى من ناحية، وطبيعة تمركزها في سياق اجتماعي ذكوري من ناحية أخرى، هذه الرؤية تتبدى في ديوان ياسمين صلاح (للنار مزاج آخر) منذ الإهداء:
إلى الأنثى ..
تلك التي لم تلدها حواء ولا ليليث…
ومازالت حبلى في ضلعها بألف آدم
ولا تكتفي الشاعرة بهذه العتبة التي تقوم على المغايرة والتفرد والبحث عن خصوصية بعيدا عن الثلاثي الأسطوري أو الميتافيزقي ( آدم – حواء – ليليث) إنما الافتتاح الذي يشبه “المانفستو” الذي يكتبه كثير من الشعراء للتعبير عن رؤية الشاعر للشعر ولاختياراته الفنية، هذا التأكيد الواضح في الافتتاحية على المغايرة والسير ضد التيار هو المتاخم لطبيعة المرأة الأولى، المرأة ذات الطبيعة الفطرية الوحشية التي تهبها القدرة الداخلية على الابتكار والإصغاء لصوتها الداخلي الذي يحاول الكثيرون إخراسه، بل إن روح الشاعرة ووعيها الشعري القائم على مخالفة النسق والرؤية المضادة يبدأ من عنوان الديوان الذي يمثل عتبة أولى تؤكد هذه الرؤية الشعرية المضادة التي تسكن روح الشاعرة على النحو الذي سنراه في الدراسة.
وياسمين تؤسس شعريتها المضادة معتمدة على عدة آليات تشتغل على:
– اللفظ
– المجاز
– الرؤية القائمة على الانزياح المستمر لا للاألفاظ ولكن للعبارات والنصوص بل والديوان في كليته، فأنت لن تستطيع أن تدرك الدلالة ولا تتبين معاني الكلمات إلا بانتهاء النص، إذ التأجيل هو السمة الغالبة على القصائد لا بمعنى دس المعنى واصطناع الغموض، إنما عن طريق الفك والتركيب والإزاحة المستمرة للدلالات، دون أن تسقط في بئر الغموض أو تطفو على زبد المباشرة والتسطيح.
ولنعد إلى دال النار في القصيدة التي تحمل عنوان الديوان نجد أن الكلمة لا تحيل إلى دلالة محددة، وإن أحالت، فإنها تحيل إلى الدال المضاد لها، فجنتكم هي ناري وناركم هي جنتي، حيث تحولت النار إلى بؤرة من الاحتمالات وخرجت عن كونها علامة ثابتة الدلالة أي معجمية قاموسية، إلى كونها طاقة إيحائية وبؤرة تشع بالدلالات على مستوى النص في كليته، متعددة الدلالة متنوعة التاثيرات، تتضاد من مدلولات الكلمة وسياقاتها المعجمية والتراثية وتشتبك معها في آن معا، وإذا تأملنا لفظة مزاج نجد أنها تقوم على الخلط والتكوين من أكثر من عنصر، ومن معانيها المعجمية، رجل مَزَّاجٌ: مُخَلطٌ كذَّاب لا يثبُت على خُلُق، إِنما هو ذو أَخلاق متقلِّبَة، ومنها أيضا المِزَاجُ وجمعها أمزجة، المعبر عن الحال والطبيعة البشرية في سوداويتها أو تفاؤلها، لكن الدلالة تنجلي وتكشف عن مكنونها من خلال النص الذي يحمل اسم العنوان من ناحية، ومن خلال التناص مع القرآن الكريم في وصفه للجنة من ناحية أخرى، لندرك أن الشاعرة تقف على الجانب الآخر في شعريتها التي تمتح (تراوح) من التراث لتعيد ترتيبه من وجهة نظر شعرية متفردة، ولذا نتوقف أمام التناص بوصفه آلية أساسية في بناء الشاعرة لشعريتها المتفردة.
1-التناص الخلّاق
ذكرنا أن الشاعرة حين تتناص مع نصوص سابقة فإنها تحورها وفقا لتلك الرؤية الشعرية المضادة التي لا تكتفي بدلالة واحدة للنص الذي تتماس معه، ففي إطار شعرية التضاد والوقوف على الطرف الآخر من كل شيء تنقلب دلالة النار إلى النقيض لتصبح جنة ذات طبيعة خاصة، وفي قصيدة أخرى يصبح الغارقون بالطوفان هم ركاب السفينة:
معي في السفينة من كل زوجين اثنين
ولا عاصم لي من الطوفان
وفي تلك القصيدة نجد هذا النمط من المفارقة وعمليات القلب بشكل مستمر، استمع إليها تقول:
الحقيقة ثعبانٌ يغير جلده
وأنا أصدقكم جميعا
وفي قصيدتها ما قبل سفر التكوين تقدم رؤيته لكونها الشعري الخاص، ومن خلال رؤية مضادة:
لم يعلمها الرب اسما واحدا
لكنها تجلس مع الصغارِ لتكون الأسماء
من ثأثأتِهم الفرضية
أول صوت… ححح ببب
وهنا يحضر الصوت المضاد لأمل دنقل في أكثر من موضع،”ولا أريد من أحد أن يوقف في رأسي الطواحين”ص47
والحقيقة أن الشاعرة لديها قدرة فائقة على تخليق أساطيرها الخاصة من أجل تكوين خاص، أو كون خاص ينفتح زمانا ومكانا لأبعد من التاريخ وأوسع من الكون، وهي إذ تفعل ذلك، تتكئ على أساطير الخلق بتنويعات مختلفة، تأخذ من بعض مفرداتها مرقاة لتخليق أساطيرها دون افتئات أو وقوع في أسر السرديات الدينية الكبرى، فهي تصنع سردياتها الخاصة، في الوقت الذي تأخذ مفردات أساطيرها منها وتعيد بنائها فاستمع إليها تقول:
تلد حواءِ من تلقاءِ نفسِها نجوما لترضع اللبن
يحمل آدم شمسا على ظهرِه تضيء له النهر
يتأبط الحُب عن يمينِه و الذكرى عن يساره
والشوق رابطة عنق تخنقه
يمارِس عمله كبطل لفيلم صامت وممل
صباحا يقلم شجر الاشتهاء
يتناول المعرفة مع الشيطانِ على مائدةِ الإفطار
حين المغيب يذبح كوكبين شريدين لغدائه
في الليل يشتد الحنين
يكتب على كل شجرِ الغابةِ..”أحبِك يا حواء”
هنا نجد خلطة شعرية تأخذ من السرديات الدينية أسماءها، لكنها تختط لها طريقا آخر يربط السماء بالأرض والبشري بالكوني، اليومي بالأسطوري الخارج عن الزمن، القديم بالمعاصر، وهذه إحدى ركائز شعرية ياسمين صلاح وأقصد هنا القدرة الفائقة على فتح النصوص على آخرها وامتصاص النصوص وخلطها في خلاط شعريتها المدهش، وفي هذا الإطار يمكنك قلب المعنى ونقل الألفاظ عن دلالاتها بسهولة، دون أدنى تغير دلالي؛ ذلك أن اللفظ يكتسب دلالاته المستحدثة من النص ذاته، فالنار هي مقلوب الجنة، وآدم غير آدم وحواء غير حواء والموت هو الحياة والحياة هي الموت:
لتفتنه بأزرقها المحرم
وفي كاملِ عريها الأنثوي
وكاملِ طاقتِه الذكورية
يحل العماء
إلا من بقعة تصله بآخرِ الكون
3-مخالفة النسق
حين تنسال القصيدة نجدها لدى الشاعر تأتي في شكل موزون موسيقي ووفق تفعيلة ما، لكن الشاعرة وبناء على تلك النزعة التي تتلبسها في المخالفة والمغايرة، سرعان ما تخرج عن التفعيلة المتكررة الرتيبة إلى رحابة النثر الذي لا تعنيه الموسيقى الصاخبة بقدر ما تعنيها التجربة في كليتها وقدرتها الإيحائية لا التعبيرية، تقول ياسمين:
حاملة قلبي فرخا في قفة يتنطط ببلاهة
وتقول : عين واحدة
حبل صوتي واحد
وفي أكثر من مقطع نجد أنها تعاند النسق الموسيقي لصالح تشتت النثر وتشظيه، لكي لا يعلو الصوت على الحالة، والتطريب على العمق ويحدث ذلك كثيرا لدرجة أنك تشعر بإنها تحول دون انسياب القصيدة موسيقيا والايقاع التكراري الرتيب لتخرج إلى أفق المغايرة الواسع.
4- الصوت والصدى، استراتيجية القلب
في قصيدة لا تفضحي خريفك نحن أمام ذات منقسمة وحوار داخلي وخارجي في الوقت نفسه، فلن تعرف من منهما الصوت ومن الصدى ، حتى وإن جاء على لسان خشب الباب، لكن صوت الفطرة والطبيعة والمرأة المتوحشة هو الصوت الأعلى، حيث يحكي الباب عن تاريخه الثري الملئ بالمحبة قبل أن يعرف الإنسان أو يعرف التاريخ، ومن الملاحظ أن الصوتين يتداخلان فلا تدري أيهما الصوت وأيهما الصدى لكن ما يصلنا هو محض حالة حنينية فطرية لعالم آخر، عالم ما قبل الصناعة أو عالم ما قبل الإنسان، حيث الطبيعة في ظهورها البكر، لكن تظل الحركة البندولية بين الشجرة المصنوعة والأنثى مستمرة تتسع من خلال الأسطر في تأكيد هذا التداخل الخصب بينهما في اللازمن، وتظهر المقاومة في الدعوة للبقاء على تلك الطبيعة ومن هنا جاء الأمر مباشرا (لا تفضحي خريفك) بوصفه دعوة للمقاومة لكل رداء زائف وإبراز الطبيعة الوحشية في عنفوانها.
وفي قصيدة ثقب برأس الأرض تستحضر تاريخا آخر وزمانا آخر ما بعد الموت زمان يفرخ ملائكة وشياطين، تجعل للموت نكهة أخرى أو بعثا جديدا وحياة خصبة ومتجددة، هي حياة المرأة الأولى المرأة الوحشية،
وضعونيِ في غرفةِ رطبة صالحة للموتِ أراها صالحة للحياة
أخلع كفني كما اعتدت على خلع ثيابي لأنام
أتصادق مع الدودِ
أجعله يأكل بشرتي الميتة
لأظل نضرةً للأبد..
أرجع حواء الأولى
وأبحث بين العظامِ عن آدمِي لم أجده فوق الأرضِ
حيث لا تترك المرأة للموت أن ينال منها إلا ما هو ميت بالفعل، ووراءه خصب دائم لا يستطيع الموت الوصول إليه، ولذا يمكننا أن نرى التجانس فيما لا تجانس فيه، ويأخذ الموت حلة جديدة مثيرة تحرك المشاعر أكثر مما تدعو إلى الدهشة، فالأمر لا يتوقف عند تجميل الموت بقدر ما يرتبط برؤية كلية أوسع منه دائرة لا تعرف الفناء:
الرمل الذي يحشو فمي أزرعه ياسمينا و بطاطا
أعصر آخر ما تبقى من دمي
ألون بهِ الفيونكة على بابِ القبرِ
هي قطعة ِمن كفِني
ولا أحب الأبيضِ فيِ مثلِ هذي المناسبات
تذكرني هذه القصيدة بقصيدة شهيرة “لبودلير” ترجمت – باللغة العربية– مرة بجيفة ومرة بجثة، حيث تشتغل فيها الصور للجمع بين ما نعتقد بعدم تناسبه أو اجتماعه وتعيد تنسيق علاقات نظنها لا وجود لها ولكنها تحمل المعنى المميز لحقيقة الشعر، والاستعارة هي الوسيلة الأساسية في عقد تلك العلاقات والجمع بين حقول دلالية مختلفة أو بعيدة كل البعد.
والأمر ذاته في قصيدتها (اسمح للصمت أن يغازلك)، حيث تقوم الشاعرة بعمليات تفكيك وتركيب على مستويي اللغة والموضوع أو الدال والمدلول في رحلة لعالم آخر عالم ما قبل التحول إلى البشرية عالم الفطرة، حيث تحل أعضاء محل أخرى وتستقر طبيعة أخرى للذات أبعد ما تكون عن الاصطناع، هنالك يحل الصمت بدلا من الكلام والخلود بدلا من الموت، فالكلام ذاته يموت لأنه يعبر من خلال فوهة الزمن، فيما يظل الصمت في مأمن.
وفي قصيدة ( سماء بلا أجنحة) يبرز التصوير وبخاصة الاستعارة بقدرته على قلب العالم وصنع عوالم أخرى، وإضفاء أبعاد جديدة للموجودات، بل قلب العلاقة بينها فيما كان يسمى قديما التشبيه المقلوب:
بحرا بغيرِ امرأة تمنحه هديرها
سماء بلا أجنحة تمنحها العلو
فصفة العلو تمنح للأجنحة فيما تتحول السماء إلى طائر، وصفة الهدير تمنح للمرأة فيما يتحول البحر إلى مياه راكدة بدون هديرها، وهكذا تتم عملية قلب مستمرة تليق بعملية إعادة تخليق العالم وتركيبه خارج إطار الزمن، إن أهم ما يميز القصائد هو القدرة على الفعل والحل والتركيب، وإعادة الخلق وفتح أبواب النصوص على مصاريعها دون مانع أو حاجز يحول دون التحليق في أفق شعري جديد يصنع أنثاه على عينه، ويحطم كل ما يحول دون حريتها، ولذا كثرت أفعال الأمر وكثرت عمليات الفك والتركيب، وأخذت الشاعرة لغتها من مختلف العوالم والبيئات وعجنت عجينتها التي اختمرت على هدى الأساطير والخرافات والنصوص الدينية المختلفة، انفتحت على اللون والرائحة وعوالم النبات والحيوان والبشر داخلة وخارجة، كان لقاموسها الطبي دورا في بناء عالمها الجديد البدائي القائم على استعادة مجد حواء الأولى، وكأن الشاعرة تعود إلى أساطير الخلق الأولى وأساطير الخلود.
لقد جاءت تجربة ياسمين صلاح الشعرية لتضخ دما جديدا في القصيدة النسوية على وجه الخصوص، فلم تسقط في ذاتيتها المفرطة، أو يوميتها الهشة، وإنما نظرت بعين المجابهة والاختلاف والتحدي، من أجل تقديم رؤية شعرية للعالم أبعد ما تكون عن التقليد أو الاجترار شعرية، أو الخضوع له فكرا ورؤية .