سوسن الشريف
أحكي معكم وأنا أحيك فستانك يا مريم، وقد أنهيت أعمال المنزل في وقت مناسب، نظفت الشقة، وطهوت الطعام الذي يحبه يوسف، وحشوت الحمام لأحمد، وبعد قليل سأضعه على النار، ليتناوله ساخنًا عقب عودته من العمل، وانتهزت هذا البراح الضيق لأنهي بعض أعمال الخياطة، وكي الملابس. اعتدت تسجيل أفكاري على الموبايل، أحيانًا هذه التكنولوجيا التي أكرهها تكون مفيدة. سامحوني إن وجدتم في الطعام روحي المتألمة المرهقة بجانب قلبي المقسم على حبكم، وكأنه خُلق له وحده.
حان الوقت لأضع الحمام على النار، هكذا يحبه أبو مريم، بالأرز لا بالفريك، يشعر بالغيظ كلما ناديته هكذا، يرى أن هذا يمنحه عمرًا أكبر، ويزيل بقايا وسامة الرجل، والحقيقة استمتع أحيانًا بإثارة غضبه. كم من المرات يلوح لي بمزاح أنه سيتزوج علي، معلقًا على وزني الذي زاد بعد انجابك يا يوسف. وكأنه لا ينظر إلى المرآة، وقد اختفى تماًما ذلك الشاب الوسيم الفتي الذي تزوجته، فقد أصر على تربية شارب، وتمرد عليه جسده ببروز “كرش” بدلًا من العضلات، وصارت عيناه أقرب للون الأحمر من السهر والسجائر.
لم يعد يعترف بوجود المرأة بداخلي، أنا الفتاة .. المرأة التي دخلت لتوها في الأربعين، زاد وزني، نجحت في إنقاصه بما يكفي لأن يتناسق قوامي مع ملابسي القديمة، لكنه لم يعد يرى أي جديد فيما اعتاد وجوده، لا يلاحظ نظرات إعجاب من حولي، بل لا يصدقها، أو ربما لا يريد أن يصدقها. اخذت عطلة من عملي اليوم لأهتم بالمنزل وأطهو ما يرغبه كل منكم، أجد في هذه الأعمال سعادة بقدر الشقاء والتعب الذي يصيبني.
أعلم أنه سيذهب الليلة لزوجته الثانية التي عرفت بوجودها مصادفة، كم هم أغبياء الأزواج عندما يتوسمون في أنفسهم الذكاء، ولعلهم يبخسون الصدفة قدرها، أو يجهلون وجودها من الأساس. ومع التكنولوجيات الجديدة أصبح العالم في حجم كف اليد، مهما تشعبت وتعددت خطوطه، لكنها في النهاية مرئية للعين المجردة. رأيتها صدفة في اقتراحات الأصدقاء على صفحة الفيسبوك، وجدت بيننا أصدقاء مشتركين من بينهم أنت، أثارني الفضول، دخلت بأقدام مرتجفة، انخلع قلبي من صراحتها، فقد نشرت صوركما معًا بكل و ..، بكل صراحة.
ولم تبخل يا زوجي الكريم عليها بالتعليقات الحميمية، كم كنت تقليدي، تناديها كما تناديني، فكلانا روحك، وقلبك وحبيبتك، وتزامن إعلانها تغيير حالتها لمتزوجة، مع مأموريتك بالخارج، حيث قضيتما أسبوع عسل نشرت تفاصيله بكل دقة. من الطبيعي أن يكون ردة أي فعل زوجة لكل ما رأته الغضب والتفكير في فضح ذلك الزوج أمام الجميع، وأولهم زوجته الجديدة، لا أخفيك سرًا أن هذا أول ما شعرتُ به، وهممت بالفعل أن أعلق على ما كتبه كل منكما للآخر. توقف دقات قلبي لثانية وارتفاع ضغط الدم، وإصابتي بالدوار أنقذوني من هذه الأفعال الطبيعية الجنونية. أتدري ما هو الجنون بحق أنني لم أشعر بالغيرة، وشعوري كان بالغضب كزوجة ليس كامرأة، اكتشفت إنك قتلت بداخلي المرأة، لم أعد أحبك، ولم يكن هذا الشعور جديد، بل في حاجة للاعتراف به.
أول ما تردد بعقلي طلب الطلاق، فلم أعد في حاجة إليك، ويمكنني العيش وأولادي بمفردنا، قاطع زخم أفكاري يوسف يمسح دموعي، ويقول لي “ما تزعليش يا ماما عشان بابا اتأخر، وبلاش تطلبي الطلاق”. اتسعت عيناي من الدهشة كيف قرأ هذا الصغير ما بخلدي، سألته لماذا يقول هكذا، أجابني أن صديقه بالمدرسة تطلق والداه لأن الأب كان يسافر كثيرًا، ودائم التأخير، جاءت مريم بفستانها الوردي كفراشة ربيع، سيتحمل هذان المخلوقان البؤس طوال حياتهما.
أي أحد سيأخذ رأيي في مثل هذا الموقف كنت سأنصح بالطلاق فورًا، لكن عندما يتعلق الأمر بقطعة منك، بقلبك الذي يسير على أقدام صغيرة في مقتبل الحياة، سيختلف الوضع كثيرًا. ابتلعت مرارتي وبكيت كثيرًا على الأيام التي خدعتني فيها، فقدت كثيرًا من وزني، ويبدو أن شحوب الحزن أضفى عليّ جمال ما، فصارت أعين الرجال تطاردني أينما ذهبت، وصديقاتي يبدين إعجابهن بمظهري الجديد، وكأني عدت فتاة لم تتجاوز الثلاثين. كان الاهتمام بالمنزل والأولاد النور الذي يضيء حياتي، ولا أرى غيره في ذلك النفق المظلم من حياتنا معًا.
ذات يوم وجدته يتغزل في مظهري الجديد، ولم أعتقد يومًا أنه لفت نظره، توقفت عن متابعة أخبار زواجه، لكن الصدفة وحدها قادتني إلي باقي حكايته، فروى لي قصته كاملة على أنها قصة زميله في العمل، وكانت النهاية أنه طلق الزوجة الثانية، ولم تكن سوى نزوة لكن الأساس حب زوجته، ووجدته يشكرني لأنني لم أضطره يومًا ليسلك هذا الطريق.
رفع يدي يقبلها بشفاه دافئة، وعين مُحب، ويدللني باسمي الذي دأب على مناداتي به كثيرًا مؤخرًا مقترنًا بكلمات الحب.
نظرت إلى عينيه ببرود غير مصطنع، وصوبت حروف كلماتي ببطء نحو قلبه المشتعل …
“تصبح على خير يا أبو مريم”