نمر سعدي
(1)
شبيهة مارلين مونرو
كانت صورة مارلين مونرو تجاور صورتها في خزانة الثياب وعلى طرف المرآة الداخلية المائلة.. فيما كانت طبول حرب الخليج الثانية تقرع.. فنهرع إلى إحكام غلق النوافذ بالأشرطة اللاصقة والنايلون.. أتذكرها امرأة ناعمة ذات ابتسامة غامضة مربكة كابتسامة الموناليزا.. الغريب في الموضوع أنها كانت تكبرني بسنوات ضوئية.. لن أشرح أكثر.. إنها المرأة الأولى التي تذوقت عذاب الحبِّ على يد جمالها الأسطوري ممزوجاً بعبق التبغ المختلس وروائح الطفولة والنباتات في براري الربيع.. أغرمت بها.. بطريقتها في الكلام والرقص والمراوغة والمشي.. تمشي الهوينا كغزالة متعبة.. كغيمة بيضاء في حقلِ قمح.
كانت المرأة الأولى التي أصابني برق أنوثتها فسقطتُ مترنحاً على سهوب الحياة، ومفسحا لناياتها وحرائقها وحقولها المجال في قصائدي المؤجَّلة. صورتها في قلبي تنمو كشجرة لبلاب، حينذاك كانت أجمل من صورة مارلين مونرو المحفوفة بشمس شقراء كالتماع الذهب، كانت يداها أحنى من يدي مارلين المرتخيتين على قطعة خشب أبنوسي في الاسطبل. ولا أحدَ يمسحُ على ضفائرها برفق فارس.
كان ذلك قبل عصور الفيسبوك ومواقع التواصل الأخرى، تشتاق على الطرف الآخر من الأرض، لا تكتب ولا تحلم بمحو فارق السنين الضوئيَّة، هل كانت الأيام والليالي أجمل؟ بلا مراسلات ولا مكابدات مكتوبة؟! كان الشوق دائرة من فراغ مكتوم.. تدور وحدكَ في مداراتها اللا نهائيَّة. فيما بعد ستحتلُ المرأةُ المشهد.. ستتربَّع على قبَّة الأرض وتفردُ يديها على فتنة المرايا جميعها.. ستحمل المرأة البيرق.. ويبدأ عصر الأنوثة.. عبرها ومن خلالها وعلى طريقتها في مواجهة الحياة والهاوية بالجمال والشعر وتنهدات الليل المخبوءة في صدف الشهوة.
على مواقع السوشيال ميديا أو في مرايا المخيَّلة.. المرأة هي الملكة المتوَّجة.. الامبراطورة.. الفارسة.. الشاعرة.. الملهمة.. تشيرُ فيتبعها الرجال كما يتبعُ القطيع الراعي. الأضواء كلُّها مسلَّطة على هذا الكائن.. فيما الرجال كالأطفال الصغار المتلصصِّين على منصَّة جلوس العروس من وراء أسوار المشمش والبرتقال والزيتون.. هذهِ الصورة منحوتة في ذاكرتي منذ الطفولة.. عروس مجلَّوة بثوب زفافها ناصع البياض وصبية من غبار وحبق وأسمال ورائحة ليمون، يتطلَّعون إليها من خلف سور قديم. الرجال هم أيضا أطفال كبار.. يتسكَّعون على أرصفة الفيسبوك وتويتر وأنستغرام.. هم يتامى أرصفة العوالم الافتراضيَّة المديدة كلها بأحذية مهترئة وقلوب محترقة.. تكفي إيماءةُ امرأة واحدة لتحويلهم إلى حجَّاب بلاط أو سائسي خيول.. أو بستانيِّين جدد في عوالم الأنوثة المتفتحة.
عاشت تلك المرأة في القلب زمنا طويلا.. أصبحت سروة وزيتونة وحقل عبَّاد شمس وحاكورة عنب وبئرا أولى وأحلاما معطَّلة وطريق معشبة على ساحل مضاء بالشفق. شاعرة لا تكتب الشعر.. ولكنها أشبه بتلك المهرة الجامحة.. مهرة الغيم والريحِ العصية.. المتفلتة من قيود الحرير والقبيلة.. القصية القريبة والقصيدة النابضة.. ممزوجة بزرقة سماء الشمال السوري وبخضرةِ النيران الجبلية الجميلة.. الشاعرة العاشقة المفتونة بالنرجس وسراب المجاز الأُنثوي.. وعبير اللغة البكر..
امرأة كأنفاس الظباء.. دبَّت فيَّ منذ الطفولة.. كنت أتلمس طريق البرق، الحب.. الشغف الأول ولهفتي للكتابة.. استهوتها أشعار القدماء.. كانت تقرأهم بشغف بالغ.. خاصة امرؤ القيس.. طرفة.. النابغة.. أبو تمام والمتنبي.. كانت لدينا مكتبة تحتوي الكثير من دواوين الشعراء العرب القدامى.. كنت أعيش تجربة الكتابة حتى ولو لم أكتب.. وكانت هي غزالة تغسلها أمطار الشعر في سهوب اللغة.. كنت عباد شمس الاصيل.. وكانت هي الشمس والحنَّاء..
هناك الكثير من النساء والكثير من الكتب من الصعب الإحاطة بها كلها ولكنني تشبعت بدواوين الأنوثة الصالحة لكل الأوقات ولكل الاحتمالات.. لا طقوس معينة لكتابة القصيدة عندي.. أحيانا أدندن بها وأنا في القطار وأحيانا أخرى تهب فجأةً وأنا في سهرة عائلية.. وفي أوقات كثيرة تأتيني وأنا عنها في شغل.. القصيدة برق يأتي على حين غرة، برق يومض فيضيء الروح.. ويحرق بلا نار.
*
(2)
عز الدين المناصرة.. الطفلُ الذي شرَّدهُ الحنين
يغيبُ عز الدين المناصرة.. وتنتهي رحلة أحد أجمل عشَّاق فلسطين وحداة عذاباتها وأحلامها وانكساراتها.. الباحث بعمق ومشقَّة عن اكتمال القصيدة العربيَّة، الشاعر الشاعر الذي لم نقرأهُ كما يجب ولم يلتفت إليه النقد العربي المحكوم بالنزعات القبلية والاعتبارات المزاجية الصرفة، وعاش طويلا خارج هالات التقديس النقدي المجَّاني وكواليسهِ. بيد أنه يتفوَّق فنيَّاً وشعريَّاً وجماليَّاً على أكثريَّة مجايليهِ من حيث تنوُّع مناخاته واستعاراته ودرجة صفائهِ التعبيري ونبض عصبهِ الشعري وجماليات صورهِ المجازية المدهشة.. الفارس.. العاشق ذو الظلِّ المخمليِّ اللامع، الذي قبض على هواء الحلم ونسيَ بيارات يافا وحلاوة عنب الخليل وفتنة السناسل وعذوبة الينابيع وروائح نباتات ربيع فلسطين.. ونسيَ هواء حقول القمح ولذعة طعم الجمال والحبِّ والنبيذ ونايات الرعاة في خبايا قصائده المنثورة على زجاجِ نوافذ الوطن وبيادره الطافحة بالغلال.. قصائده المضيئة كحباحب ربيعية في شجرة ليمون ليلا.. المزهرة بالوجد والحزن الشفيف والمورقة بالسهر المشتعل في أحداق الأرق الوجودي.. ثالث ثلاثة.. الثلاثة الكبار.. حرَّاس غيوم الطفولة وجلوة الأقحوان وعبَّاد شمس القصيدة وندى حبق الجليل.. محمود درويش.. سميح القاسم وعز الدين المناصرة، الذين نستطيع بسهولة فائقة أن نجد تشظِّيهم المشِّع في أصوات شعرية عربية كثيرة، ونلمس أصداءهم بعيدة الرجع في المشهد الكليِّ للشعر العربي الحديث، متجاورة مع أصداء السيَّاب، أدونيس، سعدي يوسف، عبد العزيز المقالح، أمل دنقل ونزار قباني. المناصرة المؤسَّسة في رجل.. المفكر.. الباحث الأكاديمي.. الشاعر.. الطائر المتفرِّد في سربهِ.. المشروع التنظيري المهم والعميق والضروري لحداثة القصيدة العربية وتجلياتها، والصوت الشعري الأصفى والأبهى والأجمل والأكمل بعد محمود درويش وسميح القاسم.
كان المناصرة برأيي الأب الروحي لشعراء جيل الثمانينيات والتسعينيات الفلسطيني / الأردني.. يشاركه الشاعر الفلسطيني الراحل محمد القيسي في هذه الأبوَّة الشعرية سواء اعترفَ أم لم يعترف بذلك شعراء ذلك الجيل.
يحتفظ صوت المناصرة بالصفاء الوجداني وبالصدى المجازي الكثيف.. ثمَّة سماء زرقاء فيه تضجُّ بأسراب طيور الخريف المهاجرة. ثمَّةَ حقولُ قمح ممتدَّة على آخر مرايا الذاكرة الشعريَّة. ونداءاتٌ ممزوجة بحفيفِ الأنهار وطفولاتها.. وبرغبة الشاعر أن يقطف قمر حزيران الأخضر، أو ينثر سنابلَ أشواقهِ على بيدرِ الأنوثة الأزلي. ولو غطَّت على مسيرته تجربة النقد والتنظير للقصيدةِ الحداثيَّة، فهو منظِّر وممارس لكلِّ أنواع الكتابة الشعريَّة، شاعر تجريبي بكل ما في الكلمة من معنى، تصطبغ أنفاسهُ بالبكاء الكنعاني المثقل بالعذابات، ونجدهُ أحيانا يتقمَّص الشاعر الجاهلي في طللياته ووقوفه على خرائبِ الأمس، ومرَّةً يدخلُ في عباءة لوركا الإسباني، فينقر على أوتار عذبة ويأتي بقصائد قصيرة مضمَّخة وعابقة بعبير الشفق والغيم والزيتون والزنابق.
قصائد المناصرة مشتعلة بالحنين وبالطفولة.. ومضاءة بذاكرة الوطن الملوَّنة، تمسكُ بخيوط اللهفة إلى السناسلِ والحاراتِ وينابيع الماءِ والسلالِ وأزهار الصبَّارِ والجرارِ والقصب. لهفة متقدة بنار لا تغيب ولا تنضب ولا تنتهي.. حالمة بالمكان والزمان، وبقمصان جفرا وغواياتها وغزلانها البريَّة النافرة إلى آخر الحنين الأبدي في الأغنية الكنعانيَّة الممتدَّة كداليةٍ عاشقة…
“جفرا… كانت تنشد أشعاراً… وتبوحْ
بالسرِّ المدفونْ
في شاطيء عكّا … وتغنِّي
وأنا لعيونكِ ياجفرا سأغنِّي
سأغنِّي
سأُغنِّي
لصليبكِ يا بيروتُ أُغنّي
كانتْ… والآنَ : تعلِّقُ فوق الصدر مناجل للزرعِ وفوق
الثغر حماماتٌ بريَّةْ.
النهدُ على النهدِ، الزهرةُ تحكي للنحلةِ، الماعز سمراء
الوعلُ بلون البحر، عيونكِ فيروزٌ يا جفرا
وهناك بقايا الرومان: السلسلةُ على شبكة صليبٍ… هل
عرفوا شجر قلادتها من خشب اليُسْرِ وهل
عرفوا أسرار حنين النوقْ
حقلٌ من قصبٍ، كان حنيني
للبئر وللدوريِّ إذا غنَّى لربيعٍ مشنوقْ
قلبي مدفونٌ تحت شجيرة برقوقْ
قلبي في شارع سَرْوٍ مصفوفٍ فوق عِراقية أُمِّي
قلبي في المدرسة الغربيّةْ
قلبي في النادي، في الطلل الأسمر في حرف نداءٍ في السوقْ
جفرا، أذكرها تحمل جرَّتها الخمرية قرب النبعْ
جفرا، أذكرها تلحق بالباص القرويْ
جفرا ، أذكرها طالبةً في جامعة االعشّاقْ”.
وداعا عز الدين المناصرة.. عاشق جفرا الكنعاني.. الطفل الحالم الذي شرَّدهُ حنينه في جهات الأرض.
*