عبد اللطيف النيلة
الأعمى
كل مرة، يدب الانكسار في الشيء، يفرقع، ويتطاير شظايا.
خبر الواقعة مرات عديدة، فافترسته رغبة عارمة في سبر كنه نظرته. لذلك انتصب أمام المرآة، وتطلع، بعد لحظة، إلى عينيه، إلى نظرتهما تحديدا.
في البدء، كان يجلس وحيدا، وسط الموسيقى والصخب. رشف جرعة نبيذ، وحطت نظرته على الكأس المنتصف بالشراب. سمر عينيه، دون أن يشعر، على الكأس، فحدث الانكسار، فالفرقعة، وتطايرت الشظايا، وترشش الشراب. أفاق من ذهوله، يمسح وجهه ويحس بألم في جبهته، ولم يفهم حقيقة ما حدث.
قليل من الفهم أومض في نفسه، حين تكرر الحدث في صورة أخرى. كان يقلب بين يديه هديتها: مزهرية صغيرة من فخار، على هيئة جسد امرأة، تتوجها أزهار تبدو حقيقية، رغم أنها كانت مصنوعة من قماش متين رقيق. بمتعة حالمة، تأمل المزهرية. وما إن ركز نظرته على النجوم المتلألئة فوق صدرها، حتى بهره الانفجار. سريعا وقع، وآذت أرنبة أنفه شظية من فخار.
مع التكرار، لم يعد لديه شك في قوة تأثير نظرته. قذف به اكتشافه إلى دوامة من الدهشة والخوف والقلق، غير أنه لم يلبث أن تصالح مع واقع عينيه، عندما أدرك أن الخطر كامن في التركيز وحده. قال لنفسه: “اجعل نظرتك ناعمة حانية، لا تضغط عليها، وسيبقى الشيء الذي تحط عليه كما هو، من غير سوء”. لم يستطع، مع ذلك، أن يلجم رغبته في تحطيم الأشياء. سلط قوة عينيه، بداية، على أشيائه الخاصة، فحطم أقلاما ومنافض وصحونا، بل إنه فجر زجاج نافذته الوحيدة، وشاشة حاسوبه، والساعة اليابانية المعلقة في قلب جدار الردهة. انتقل، فيما بعد، إلى أصيص ذي نبات ذابل، كان مركونا بجوار شقة الجيران، ثم إلى قنينة زيت من زجاج في رف حانوت، فإلى واجهة محل يبيع الأحذية، فإلى لوحة في معرض الفنون…
كان يمارس هوايته، حين تكون الأنظار غافلة. وكانت عيناه توفران له لذة اللعب وتزجية الوقت، وتشبعان رغبته في النيل من الآخرين، والانتقام من كل من استهزأ منه مرة، أو أذاقه طعم الهزيمة أو الذل…
هاهو الآن يقف قبالة المرآة، مثقلا بذاكرة من الأشياء المتكسرة المفرقعة المتشظية. بحذر، ينظر إلى وجهه. يغمره بنظرة فاحصة وناعمة في آن واحد، كأنه يكتشفه لأول مرة. كان ضامرا، متغضنا بهم دفين، تشوب سحنته السمراء صفرة. يدنو متوجسا من عينيه الصغيرتين، بلونهما العسلي، ورموشهما السوداء التي تسبغ عليهما مسحة وسامة. كانتا عاديتين، لكن السر في البؤبؤين، بل في النظرة المنبعثة منهما.
ينظر إلى نظرة عينيه. يحاول أن يسبر كنهها. لا شعاع، لا شيء يتحرك في عمقها. هي مجرد نظرة. لكن، مهلا.. يحدق بدقة وتأن: ثمة بريق يخالط النظرة. يحدق مزيدا من التحديق. فجأة ينكسر شيء ما. يشوب نظرته انكسار. كأن المرآة انكسرت. تتشوش رؤيته، ثم لا يعود يرى شيئا.. ظلام أحمر، وإحساس بالانفجار والألم.
مرعوبا يمد أصابعه يتحسس المرآة. كانت كما هي، عارية من كل سوء. بأصابع ترتجف، يتحسس الحفرتين الجافتين.. يوشك أن يغمى عليه حين يدرك كنه ما حدث: شيء ارتطم متشظيا بسطح المرآة. لكنه أحس، قبل الارتطام، بكرتين صغيرتين تتطايران بقوة من محجريه.
تدبير
كان عباس لا يصرف فلسا إلا في ما يبدو له ضروريا، حتى أنه ضيق على أسرته في الإنفاق…
تهرب لسنوات من تبليط الفناء المترب لبيته، رغم شكوى زوجته المتواصلة، خصوصا وأن كل بيوت الجيران تظلل عتباتها أشجار النارنج. إلا أنه اهتدى إلى حل حكيم؛ فبدل إهدار النقود في تبليط لن يجني من ورائه شيئا، فكر في إنشاء مزرعة صغيرة. لكن المساحة لم تسع سوى خمس أشجار. هكذا قر عزمه على غرس البرتقال عوض النارنج الذي لا يؤكل ولا يباع. كانت خطته تقضي بأن يجني حبات البرتقال ليبيع القسط الأعظم منها في السوق، بينما ينعم على بيته بما تبقى.
إلا أن مسألة سقي الشجرات قد شغلت باله وأرقته؛ فإهدار الماء على جذور الشجرات سيفضي لا محالة إلى ارتفاع سعر فاتورة الماء. لذلك، تفتق ذهنه المدبر عن فكرة إعادة تدوير المياه التي لم تعد صالحة للاستعمال، بدل أن تضيع سدى في مجاري الصرف. ولتنفيذ فكرته، زود زوجته بتوجيهات دقيقة سديدة. فالأواني لا ينبغي أن تنظف مباشرة في المجلى تحت مياه الصنبور المتدفقة بلا حساب، بل ينبغي أن تنظف داخل جفنة كبيرة. وكذلك الشأن بالنسبة للمياه التي تفيض عن غسل الثياب. غمر الرضى عباس لانسياب خطته مثلما رسمها.
أزهرت شجرات البرتقال، وبعد حين طلعت الثمار ناضجة. وقف عباس على مقربة من الشجرات يتطلع، بفرح ودهشة، إلى حبات البرتقال بلونها المغري بالالتهام. قطف حبة، وبعد أن مسح جسمها المكور بقماش قميصه، قشرها، وأخذ يمضغ فصوصها على مهل، متذوقا. لكنه لم يلبث أن بصق ما مضغ، شاعرا بطعم مر لاذع. بصق مرات عديدة على الأرض، بغية تحرير حنجرته من مرارة الطعم. وقف متحيرا تحت الشجرة المثقلة بثمارها. قطف حبة أخرى، ثم ثالثة… الطعم اللعين نفسه. ضرب يدا بيد، وكاد يلطم وجهه: “يا ويلي! ذهب جهدي سدى”.
عندما خرجت زوجته من باب البيت تحمل سطلا طافحا بالماء المستعمل . تناول منها السطل وهم بصبه في حوض أول شجرة، فأدرك أن الطعم الذي لازال حلقه يغص به لم يكن سوى مذاق مسحوق الغسيل!