محمد العبادي
أضحت الصيحة الجديدة في أفلام الجوائز الهوليودية هي السرد عن الأقليات وكفاحهم من أجل الحرية، يتضح هذا حين نجد بين ترشيحات الأوسكار لهذا العام فيلمين عن حركة الدعوة للحقوق المدنية في الستينات: “محاكمة سبعة شيكاجو”.. وفيلمنا: “يهوذا والمسيح الأسود”.
للأسف لم أستطع النظر لهذا الاتجاه الهوليودي الجديد بشكل إيجابي.. بل لم أقتنع حتى الآن بالاتجاه الأشمل الذي تصدره له هوليود عاما بعد عام: الصوابية السياسية.. من الصعب أن أقتنع أن هوليود بعد عقود من النفاق السياسي والاجتماعي.. بعد تاريخ كامل من احتراف الكذب وشيطنة الآخر وقلب الحقائق.. من الصعب أن أقتنع أنها الآن قد عادت لجادة الصواب والتزمت بمبادئ الحرية والإخاء والمساواه.
أميل أن أرى الأمر على أنه ليس سوى لعبة اقتصادية جديدة من أجل المزيد من الدولارات.. قراءة جيدة من القائمين على الصناعة لتطور الذائقة العامة ووعي المشاهد بالقضايا القومية والتاريخ.. وطبعا تنامي نسبة المشاهدين من الفئات التي اعتبرت دوما من “الأقليات”.. كما نجح صناع السينما الأمريكيون أن يحولوا طوفان حركات “أنا أيضا” المناهضة للتحرش و”أوسكار أبيض جدا” ليصب في مصلحتهم بدهاء مثير للإعجاب.
فيلمنا يعرض للصراع بين جماعة “الفهد الأسود” والمجتمع الأمريكي الأبيض متمثلا في المباحث الفيدرالية. “الفهد الأسود” التي نشأت في منتصف الستينات لتطالب بحقوق الملونين والأقليات ضد ظلم المجتمع والقمع المتنامي للشرطة الأمريكية.
يخاف قادة المباحث الفيدرالية من ظهور “مسيح أسود” بين صفوف الملونين يقوم بقيادة الأقليات لهدم النظام الاجتماعي والسياسي الظالم والعنصري.. لهذا يقومون بزرع جاسوس داخل جماعة “الفهد الأسود” ليتقرب من زعيمهم “فريد هامبتون” صاحب الكاريزما القوية
هامش: مفهوم “المسيح” المقصود هنا ليس السيد المسيح (عليه السلام) بل المقصود المعنى التوراتي الأشمل “Messiah” المسيح الذي يأتي ليقود اليهود (الأقلية المظلومة) لرفع الظلم والشتات عنهم والانتصار على أعدائهم.. مفهوم أقرب للمهدي المنتظر في الثقافة الإسلامية.
عرض الفيلم بأمانة – أو بانحياز للفهود السود – لما حدث في ذلك العصر.. حين تم شيطنة الفهود السود ونعتهم بالإرهابيين رغم أهدافهم النبيلة.. في عصر حفل بالعنف والاغتيالات.. قُتل فيه أهم الدعاة للحقوق المدني وعلى رأسهم القس مارتن لوثر كينج والداعية المسلم مالكولم إكس.
رُشح الفيلم لستة جوائز أوسكار.. أبرزها أحسن فيلم, سيناريو أصلي, تصوير, وترشيحين في فئة أحسن ممثل مساعد.
بالفعل كان أداء الفيلم على مستوى الصورة.. من جانب التصوير المميز لـ”شين بوبيت” ومن جانب محاكاة تفاصيل الصورة البصرية للعصر.. لكن تأثر إيقاع الفيلم سلبا بالجانب الوثائقي لعرض الأحداث خصوصا في النصف الأول من الفيلم.. في المجمل نحن أمام إخراج جيد.. كنت أتمنى أن يرشح “شيك كينج”لجائزة أحسن إخراج عن هذا الفيلم بدلا من “إيمرالد فينيل” وفيلمها التعيس “شابة واعدة”.
أداء الممثلين كان مميزا واحترافيا خصوصا ثنائي البطل/الخائن: دانييل كالويا في دور فريد هامبتون زعيم الفهود السود في شيكاجو/ لاكيث ستانفيلد في دور بيل أونيل الجاسوس الخائن.. ويبدو أن الأقرب للجائزة هو كالويا الذي حصل على أغلب الجوائز السابقة للأوسكار.. خاصة أن أداءه الخارجي للشخصية هو من النمط المفضل دوما لأعضاء الأكاديمية.
بعد عقود من القمع والتجاهل تعطي الأكاديمية مساحة أكبر لعرض تاريخ وقضايا الملونين والأقليات بشكل عادل.. لكن هل هي مبادرة حقيقية من صناعة السينما والإعلام الأمريكية لتكفر عن تاريخ القتل والكراهية؟.. أم أن أمريكا قتلت القتلى في الستينات.. وتحول جنازتهم إلى أفلام الآن؟