مُطاردة

ميمون حرش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ميمون حرش

     شهقتْ في صمت حين أحست أنه وراءها، لم تلتفت، بدأت في الركض، ساعدها نحولُها، وضاعفت من سرعتها.. هو أيضا نحيل، و حدَث، و رياضي، بل و أسرع منها،  لكنه، من خلفها، يذكي طقساً سينمائياً عن مطاردة الضحية دون أن يتخطاها، أو يمسك بها، يحب أن  يُطارِد، بينما الضحية مُطارَدة، تركض خائفة منه. هذا أرَبُه أبداً، أزلاً.

 كانت لا تزال تعدو حين رفعت ناظريْها لاهثة، بدت لها الطريق طويلة، طويلة، بدأ النفَس يضيق، والقدم تتنمل تحت الإسفلت، والقلب يضاعف من دقاته، كلما سمعت شهيقه من ورائها ..لا تلتفت، تحرص ألاّ تفعل، لو تدور، قد تكون حركتها قاصمة. هي تدرك ذلك ،تخذ الخطى واثقة، تعرج  على زقاق تعرف تلاوينه جيداً، هناك، في آخره، كانت أمها رابضة في وهمها المتحرك، منتظرة كملاك… تلقفتها كلقمة لحضنها الجائع، ضمتها إلى صدرها بقوة، و المُطارِد، بدون ملامح، ظل وقتاً يتأمل الأم وصغيرتها؛ وجهان متحديان ،لا يبكيان ، بدا هلامياً في وقفته، وبشعاً حتى وهو بدون شكل، صرخت  الأم في “وجهه”:
  – لماذا تتعقب “حياة ” أيها المأفون؟! ( لم تقل ابنتي).

  الصغيرة، تنتفض، تنسل من بين أحضان المرأة، تدور بمقاس، ولأول مرة تلتفت؛ لا الأم كانت، ولا المُطارد.
    ولم يكنِ اسمها “حياة ” أبداً.

  غادر المطارِد، وطار، لم تعد الفتاة( مهما يكن اسمها ) تعنيه، هي الآن رابضة، وما عادت حالُها تناسب حفلته في “الجري وراء”، ولتكُن “حياة” أو “دنيا”، لا يُبالي، ما همه غير ممارسة طقسه الاحتفالي في المطاردة. ساح في الأرض بحثاً عن ضحية جديدة، فيما تسمرت الفتاة في مكانها؛ لها في المحيط ألفة، تتعرفه كتخوم جسدها، في زاوية منه صخرة ملساء، نبتت كزهرة ضالة، تسيجها طفيليات نبات شائك، وفيها تخبئ كنزها الصغير: علبة من الكمامات، وتظل اليوم بطوله تبحث عن شارٍ، وقد ظنت أن الجيب سيكتنز ، ويسمن في زمن الجائحة، و أن الدرهم ، سيمر به وهو منطلق ؛في الأول انخرطت  في بيع الأزهار الحمراء ملفوفة في بلاستيك شفاف، لكن مستعملي الطرق أعرضوا عن الحب( ربما)، وما عاد أحد يهتم بها، و آخِـــر زبون مع أزهارها، قبل أن تتخلى عنها تماماً، قال لها:

” ما تحملين من أزهار مصطنع، أنت زهرتي الحقيقية، مستعد أن أدفع لك ثمناً مُهما مقابل ليلة حمراء، بلون شقائق النعمان الذي تبيعين”.

  الأرعن، و الفاسق حملها على كره الزهور، و بدل” حَمَلَ الزهور إليّ” النزارية ،صارت تبيع المناديل الورقية، و لأن الناس ” أطهار جداً ” في بلدتها بارت تجارتها، ولم تجرؤ، مع ذلك، على  استبدالها إلا بعد أن فاجأها صاحب سيارة فارهة، احترم القانون، و وقف عند علامة قف، فاجأها بالقول  :

“مناديلك امسحي بها مؤخرتك.. اللعنة ! من أين يفرع هذا الرعاع ! “

      صارت الآن، بعد تجربتها المريرة مع الزهور، والمناديل، تبحث عن زبناء للكمامات، ودعت الله، ببراءة، ألا يرفع كورونا أبداً حتى تظل تبيعها، رغم زهد المارين بها، أكثرهم بلا ملامح مثل الوحش الذي طاردها.

   تجلس حيناً  على الصخرة  الملساء تنادي على بضاعتها. وأحايين تركض نحو سيارات، عند الضوء الأحمر، تعرض للسائقين كمامات؛ هؤلاء، كلما اقتربت منهم، يغلقون نوافذ سياراتهم، ليس خوفاً من كوفيد 19، إنما من فيروس الفقر فيها، ومن وراء الزجاج، تتوسل، إلى هذا، شراء واحدة على الأقل، و الثاني ترميه بدعاء دون أن يسمعها رافعة يديها للسماء:

   “أثقَذاش أوْما يْنو..سَغْ خافي “.

وجارها المتسول، والمقعد في كرسي متحرك، والمتابع ما يقع  لها مع الزبناء، ساءه  إعراض أصحاب السيارات عن الشراء، رغم إلحاحها الصاخب، قال لها معبراً عن امتعاضه :

   ” هؤلاء الوسخون يحتاجون للحفاظات وليس للكمامات”.

علقت على كلامه دون أن تنظر إليه كما لو كانت تكلم نفسها:

  ” إينا و بارْ(…)ــنْ شــا “.

انخرطا، معاً،في ضحك هستيري. لم يفتر أبداً، طوال ذاك اليوم، وكلما تبادلت النظرات مع المتسول الجار، في “الهواء الطلق”، يتصاعد بالحدة نفسها دون أن يرتويا منه…وكانا لا يزالان يضحكان حين وقفت سيارة من نوع “طاون كار”، ركنت جانب الطريق  على مقربة منهما، نزل منها صاحبُها بمرح، نحيل، و طويل، يضع قبعة الساحرين، الرأس محشوّ  فيها، لكن غير موجود.. رجل بلا ملامح كشبح ،امتقع لون الفتاة حين تبدى لها، جزعت، أما المتسول فجرّ نفسه بعيداً، نأى أكثر من اللازم، يراقب المشهد  بحذر.
  هو يقترب، و هي تبتعد.. انتشى، لأنها بدأت تتحرك، مد لها يده، طويلة كيوم غشت، صرخت( أوشتْ أربي أوشتْ)، ابتعدت أكثر، اقترب أكثر.. أدارت له الظهر، وأطلقت رجليها للريح.. و تبدأ المطاردة من جديد.

مقالات من نفس القسم