ماجد فايز
لم يحتل القلب مكانة في حضارة ما كما احتلها في لغة ووجدان بل وفي صلب عقيدة المصري القديم والحديث. ولا يوجد دليل أقوى على ذلك مما ورد في كتاب “الموتى” بأنه عند حساب المتوفي في الآخرة يوضع قلبه على الميزان في كفة وريشة الإلهة “ماعت”، إلهة الحق والعدل، فإن رجحت كفة الريشة فقد نجا ونال الحياة الأبدية وإن طبّت كفة قلبه فقد هلك. لكن ماذا عن القلب في حياته قبل مماته؟
لغة القلب
في البداية لا بد أن نعرف أن اللغة المصرية القديمة تنتمي إلى عائلة اللغات الحامية- السامية حيث تشترك مع اللغة العربية، على سبيل المثال، في عدة خصائص مثل وجود جذر للكلمات يتكون من مجموعة حروف صامتة يتم صرفها نحويا ونحت كلمات جديدة منها بإضافة حروف متحركة قبل هذا الجذر أو بعده. كما أن الكلام في لغة قدماء المصريين ينقسم إلى جملة اسمية وأخرى فعلية ويشترك مع العربية في وجود تاء التأنيث- التي كانت تُرسم على شكل نصف رغيف خبز- وكذلك المثنى، مقدمة كتاب (متون الأهرام المصرية القديمة) ترجمة حسن صابر.
أما اللغة القبطية فهي نفس اللغة التي كان يتحدث بها المصري القديم لكنها دونت بحروف يونانية- على يد العلّامة بنتينوس رئيس مدرسة الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي- لسهولة نسخ الكتاب المقدس عوضاً عن الرسوم والأشكال في الخطين الهيروغليفي والديموطيقي حيث بلغ عدد علامات الخط الهيروغليفي في عصر الدولة القديمة نحو ألف علامة.
وتكشف لنا تلك اللغة أعاجيب عن مكانة مضغة القلب في فكر المصريين وحياتهم. كلمة “قلب” باللغة القبطية هي “هِيت” وتختلف صيغتها بموضعها في الكلام واتصالها بالضمائر، بحسب كتاب “المرجع في قواعد اللغة القبطية” من إصدارات جمعية مارمينا العجايبي بالإسكندرية.
ودعونا نضرب بعض الأمثلة على استخدام الكلمة في تعابير وتراكيب هي أبعد ما يكون عن معناه الحرفي. بالأساس عندما كان المصري أو القبطي- وكلاهما مرادفان لشيء واحد- يريد أن يقول إنه يشعر كان يستخدم التعبير “إيمي إن هيت” أو “يعرف بالقلب” أي أن الشعور هو علم داخلي نابع من القلب وليس من خلال الحضور الحسي للشيء أو الشخص.
وعن القلب في تعبيرات الحياة اليومية في لغة المصري القديم فحدّث ولا حرج. على سبيل المثال، عندما تريد الاعتذار فإنك تقول، “تي أووام إهثي” ومعناها حرفيا “أنا قلبي بياكلني”، ولعل هذه الصورة تطورت مع الأيام فصارت تعني “القلق” عوضاً عن الأسف. أما لو كنت تريد أن تنصح أحدهم بالصبر فإنك تقول له “أوؤه إن هيت” والمعنى الحرفي “مجّد القلب” أي أن المصري القديم كان يرى في الصبر وطول الأناة مجدًا وعلامة على رفعة قلب هذا الإنسان وقوته!
أما لو أردت أن تحث أحدهم على الاتكال والثقة والإيمان بالإله أو بأمر ما فما عليك إلا تقول له “كا هيت” أو “كا إهثي” ومعناه “ضع قلبك على” أي لا يكن قلبك هيابًا بل ثابتًا فيما ترجوه. الأمثلة لا حصر لها والقلب حاضر في لغة ووجدان المصري حتى يومنا الحاضر.
وإن أردت الاستزادة عزيزي القارئ، فما عليك سوى الرجوع إلى أي من المعاجم القبطية مثل “قاموس قبطي عربي” الصادر عن دير القديس أنبا مقار ببرية “شيهيت”، وبالمناسبة تقع هذه البرية في منطقة وادي النطرون ويعني اسمها “ميزان القلوب”!
والآن ماذا تبقى من رصيد القلب في خزان كلام المصريين المحدثين؟ ربما لا تكون كلمة “هيت” حاضرة كلفظة في حديث المصريين اليومي لكن مركزية القلب في كلامهم وتعبيراتهم لا تخطئه الأذن. فتعبيرات “قلبي معك” للعزاء، أو “قلبي عليك” للشفقة، أو “من القلب للقلب” للمودة الأخوية، منحوتة من نفس السياق الثقافي والحضاري الذي يرى في القلب محور الكون الحسي وغير الحسي.
يبقى أن نقول في هذا الصدد إن كتاب “التحليل العام للغة العوام” من جمع وشرح “أيوب فرج إبراهيم” والصادر في 1978 يزخر بالمئات من تعبيرات وألفاظ الحياة اليومية التي تضرب جذورها عميقًا في لغة المصريين القدماء.
احفظ قلبك
وأخيرًا تأتي الأديان لتثبت مكانة القلب في خلاص الإنسان وعلاقته بخالقه والتي تنبه لها قلب المصري قبل تنزيلها عن البشر. على سبيل المثال، في متون الأهرام التي عثر عليها العالم الفرنسي ماسبيرو في أهرامات أوناس وبيبي الأول ومري إن رع وبيبي الثاني في سقارة وتحكي عن رحلة المتوفين- لا سيما الملوك- إلى العالم الآخر، يصلي المصري القديم في النشيد رقم 208:
“لن يعطش الملك، ولن يجوع
ولن يحزن قلب الملك
لأن ذراعي “حا” هي التي تأخذ بجوعه
قل: الممتلئين
قل: ممتلئي القلوب”.
وفي النشيد 217، يخاطب المصلّي الإله “جحوتي” الذي يُرسم في صورتي طائر أبو منجل أو قرد بابون يجلس في وضع القرفصاء. وكان الإله جحوتي يُعبد في مصر منذ بداية عصر الأسرات وحتى العصر الروماني، فكان سيد الكتبة. وبُجِّل جحوتي أيضًا كإله للقمر، والحكمة، والطب، والعلوم المختلفة. كما كان لجحوتي دور بارز في العالم الآخ، كما يكشف باب الآثار المصرية القديمة على موقع “مكتبة الإسكندرية” على الإنترنت. وتقول كلمات النشيد:
“يا جحوتي اذهب وحدّث آلهة الغرب وأرواحهم
هذا الملك يأتي حقًا روحًا – “آخ” خالدة
بيده القلوب، له سلطة على النفوس
من يرغب أن يعيش سيعيش، ومن يرغب أن يموت سيموت”.
وفي الأديان الإبراهيمية- التي اعتنقها المصريون قدماء ومحدثون- نجد مثلًا “سليمان” الحكيم يقول في سفر الأمثال الأصحاح الرابع والآية 23: “فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ، لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ.” وفي القرآن الكريم سورة “ق” وعد بالجنة لمن “خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ” أي قلب تائب.
وفي النهاية يحدد المسيح البوصلة للإنسان في عظته على الجبل حيث يقول، “لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا.”