محمود قرني
الشعر غامض وهذه طبيعته. غامض ولو كان بسيطا. وكم من شاعر عايش خساراته بينما يرفض أن يكون جزءا من أسئلة زمنه مثلما فعل ” هولدرلين ” الذي رفض العالم الحديث كله، ومثل صعاليك العرب الذين أدمنوا حياة الاختطاف وقدموها على نمط الاستقرار النسبي الذي رسخت من وجوده طرق التجارة وقوافلها وكأنهم ينتصرون للـ ” لا نظام “. ولعل الهواجس والتطوحات التي حفظها لنا تراث الشعر تشير إلى أن الشاعر بئر من التناقضات. فالشعراء العقائديون امتدحوا الدين لكنهم سبُّوا رسلَهم، وعندما كان ” أبو تمام ” في خراسان لاحظ مضيفه أنه لا يصلي وعندما سأله عن الأسباب قال له : لو كانت صلواتكم نفعتني ما تركتها، بينما كانت تمتلئ قصائده بالتثنية والتسليم ومدائح آل البيت. وكان ” أندرو مارفيل ” ساخطا على كل شيء بما في ذلك الكنيسة رغم أنه كان سكرتيرا خاصا لـ “جون ملتون ” المتدين الفظ صاحب الفردوس المفقود. وفي فرنسا تحمس الشعراء للثورة وكتبوا عشرات القصائد في امتداحها لكنهم عندما وجدوا أصواتهم ضائعة بين غفلة الجماهير وأكاذيب الساسة قرورا العودة إلى البارات والسهر إلي جوار حبيباتهم ثم شتموا الثورة وثوارها.
الشعراء يحبون الدين ويكرهونه في الوقت نفسه، هو بالنسبة لهم سردية كبرى أعادت الاعتبار للأبنية الروحية لملايين البشر، لكنه من ناحية أخرى يبدو منافسا لا يمكن مقاومته في مواجهة شعراء يؤمنون بأنهم يعيدون خلق العالم عبر ذات الأداة، أي عبر الكلام. الشعراء متهوسون بالقيم الكبرى ” العدل، الحرية، والمساواة ” لذلك عندما يبدأون الكلام يتم تصنيفهم على الفور على أنهم ضد الكهانة وضد رجال الدين بالضرورة، ضد الفاشية وضد حكامها وضد ممثليها، ضد الإقطاع ورأس المال، ضد الحرب وضد كل تجار فوائض القوة.
الشعر لم يتغير والشعراء لم يتغيروا. تغيرت أزمنتهم وتغيرت قيمها لكنهم ظلوا كأنهم محصنين ضد المستقبل. العصر الصناعي كان يحتاج رواة وساردين يُسلُّون وحدة ملايين العمال ويخفضون، بمشاهدهم الساحرة، من سقف حالة التشيوء في المخيمات والملاجيء. الساردون الجدد أكثر طواعية لحاجات زمنهم لأنهم أكثر قدرة على التكيف ومن ثم أكثر قدرة على تبادل المواقع مع السلطة، أو على الأقل القيام بأدوارها إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
بقي الشعر بعيدا ساخطا بتلك الأنفة المعهودة. وقد أدهشني أن أقرأ شعرا قبل أكثر من عشر سنوات، ضمن أمسية عربية فرنسية، إلى جوار شاعر فرنسي كبير هو ” ليونيل راي ” ثم أعلم بعد الأمسية أن أعماله لا توزع أكثر من ثمانمائة نسخة. إن الصعوبة التي تثيرها أسئلة من هذا النوع ليست صعوبة مرتبطة بطبيعة النص أو طبيعة لغته أو درجات تركيبه المعرفي، لكنها صعوبة أظنها ناتجة عن الخصام الذي يتسع بين المؤسسات التي ترعى النظام في هذا العالم وبين ما يطلبه الشاعر منها. لقد تعمقت تلك المسافة بتنامي الاعتقاد بأن واقعنا ليس إلا مجموعة ” تتألف من أغلظ وأحط الأجزاء في هذا العالم “على ما يقول” جون ويلكنز “. يتعزز هذا التصور لدى شعراء لا يمكن إحصاؤهم، فـ ” المتنبي ” يقول : ” أذم إلى هذا الزمان أهيله.. فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد “، ويقول ” أبو العلاء ” : ” ولو نطق الزمان هجا أهله كأنه الروميُّ أو دِعبِلُ “.ويقول ” كلبتشوك ” : لماذا أبدعت الكون، أيها الأوَّل، وقد كنتَ مكتفيا بذاتك ؟.
إن مساحات السخط المتزايدة في خطابات الشعراء منذ القدم أُخِّذَت مأخذا مناهضا للناس، كأن الشاعر يعمل على تقويض الوجود في جملته، وهو تفسير ساهمت في ترويجه المؤسسات التقليدية في العالم انتصارا لتفوق القدماء حسب اعتقادهم، غير أن القراءة المنصفة هنا لا تعني أكثر من أن احتجاج الشاعر هو البديل عن صمت الطبيعة باعتبارها عنصرا لا يمكنه إلا أن يكون إلا محايدا.
وبطبيعة الحال فقد تعاظمت عزلة الشاعر مع المذاهب الحديثة وتعقيداتها، وهي جميعها نتاج حروب وصراعات مروعة تمثل ما هو أكبر من العار في تاريخ الإنسانية. الرومانتيكية كانت أول طريق العزلة المنظمة. عزلة النص وعزلة الشاعر. أما النص فقد حاول هدم النظرة التوحيدية للعالم بقصد إحلال النظرة المتعددة محلها. وأما الشاعر فلم يعد مطالبا بأن يكون مثالا أرضيا للصانع الأكبر، لذلك بدأ رحلة البحث عن ذاته وسط ذوات متنافرة في أغلب الأحايين. من هنا سقطت أقانيم الوظيفة الشعرية وأصبح هناك من يؤلف المجلدات ويعد الأسفار عن الفن باعتباره لعبا، وتعاظم الاحتفاء بفكرة تشوش الحواس، كأن ” تشوش الحواس ” هو الإرث الوحيد الذي تركه رامبو لأحفاده في منتجعاتهم الاستشفائية. كذلك أصبح فرويد محررا للشعراء بدلا من أن يكون سجينا لما أسماه ” أوقيانوس اللاشعور “. سقوط الوظيفة الشعرية كان يعني إسقاط القارئ تحت شعارات أكثر من مجردة، وإن شئنا الدقة، أكثر من صفيقة. وبطبيعة الحال يضاف إلى تلك التعقيدات المزمنة موقف المؤسسات التقليدية بطبيعة تكوينها الذي يناهض كل جديد، وهو أخطر ما يواجه العالم اعتقادا بتفوق القدماء أيا كان موقعهم. وكما يقول ” صامويل كلارك ” : فإن ما ليس معروفا لدى جميع الناس فليس مما يفتقر إليه أي منهم. يعني أن الناس صنائع معارفهم، وإذا سلمنا بأن وظيفة الشعر هي تحقيق اللذة وليس تحقيق الوضوح فإننا نعني بذلك أن الشعر ليس فنا من فنون البرهان، أي ليس فنا للتصديق قدر ما هو فن للتخييل، لكن التخييل عندما انغلق على ذوات هرمسية الطابع وتطهرية التوجه أنتج نصا معزولا، لأن ذات الشاعر بدلا من أن تختصر الذاتيات الجمعية في ذات واحدة كما فعل شاعر الديمقراطية الأمريكية ” والت ويتمان ” قامت بإقصاء لا متناه. وعندما تحولت رهانات الشعر وخصومته مع البرهان أو العقل إلى صراع حول تصورهما للزمن ذهب البرهانيون إلى أن العقل ابن الزمن المتصل الذي يسير في خط مستقيم ومن ثم يبدو أعلى تعبيرات التحولات الإنسانية، أما الشعر فلازال معتقدا في سلامة الزمن الدائري الذي يعني أن التاريخ يعيد نفسه رغم أنه تصور طوبوي لم يقم عليه دليل تاريخي واحد، وهو ما أشار إليه القديس ” أوغسطين ” عندما قال إن الحقائق جميعها غير قابلة للتكرار، مثلها مثل الميلاد والموت. هذا يعني أنه لن يتسنى للشاعر، أي شاعر، أن يعيد خلق الحقيقة مرة أخرى إلا خارج الزمن.
طبعا ليس من مهمة أحد في هذا الكون جعل الشعر مفهوما، أو جعل تلك الإشكاليات موضع احتفاء لدى القارئ الذي تنتصر له. فالشعر كما أنه ليس ذاكرة للبساطة فهو في المقابل ليس ذاكرة للكثافة أو احتقار الحقيقة، وفي كلا الحالين ثمة ما يمنحنا مبررا معقولا لإعادة طرح السؤال : لماذا يخذل الشعر محبيه ؟!
……………..
*مقدمة كتاب ” لماذا يخذل الشعرُ مُحبيِه ؟!” الصادر أخيراً عن دار الأدهم بالقاهرة