“دولاب الرسائل” للشاعرة عائشة أحمد.. رحلة البحث عن اكتمال الذات

دولاب الرسائل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسام معروف

“حين نعجز عن الكلام، يكون المعنى ملتصقا بداخلنا أكثر من اللازم”. تبدو هذه الحاسة الأخيرة التي يلجأ إليها الإنسان للتحقق من ذاته في صراعها مع المعنى والحدث، وبتراكمية الأحداث في يومياتنا، يكون من الصعب الحصول على معنى جديد في كل مرة، لكنها لحظة واحدة تمثل انقلابا في مسار المترو، بإعادة تركيب التروس بلمسات مغايرة، تعلن عن تغير في مكان وأفق وتركيب الوعي، لا يهم صعودا أو هبوطا، لكن هذا التغير قد حدث.

بهذا الإيقاع في المشي نحو لحظة الاستكشاف، عبر اختراق جدران ما تم تجاوزه، تذهب الشاعرة الإماراتية عائشة أحمد، إلى منطقة ممتلئة بالألغام، لتعيد تجريدها من تشابكاتها، وتقدمها من خلال “دولاب الرسائل” مجموعتها الشعرية الصادرة عن دار رواشن للنشر 2021.

حيث تتمكن عائشة أحمد من دمج ما يمكن نسيانه من دراج الماضي مع الحاضر، في لعبة كراسٕ موسيقية مع الزمن، مستعيدة الكثير من الذكريات، متبنية رؤية أن الماضي صور، يتم التقاطها وتخزينها في مكان ما في الذاكرة، كما رأى هيجل. لكن الحدث في الماضي يذبل إن لم يتم إشراكه في حوار يحدث الآن، هذه التنافسية بين اللحظتين، تجعل في مرات عدة، قيمة اللحظة المنتهية، أكبر بكثير من لحظة تصير في الحال.

وتمشي الشاعرة إلى مراكز الحس لدي الإنسان من خلال لغتها التلقائية المحفوفة بعاطفة الاشتياق والتذكر والعيش مع اللحظة القديمة، ويتحقق ذلك بتمرير حالة شعورية مكتنزة للطرف البعيد. وتكون تلك الحوارية الرسائلية الشعرية مثل معازف تعمل في لحن جميل.

حوار عبر الرسائل

إذ تقدم الشاعرة شعرا حواريا متراكبا، يعبر عن حالة شعورية ممتلئة بالتفاصيل والقطع الفنية المتعلقة بأصوات وأدوات الحب المختلفة. حيث تستعيد شخصية الإنسان في الماضي، إبان دوران المشهد الفانتازي، وهي تعرف جيدا بأن خاصية التقاط الأشياء دوما غير مكتملة لدى الوعي البشري، فلابد من عودة لمسح آخر، ولربما أكثر، حتى يعيش الإنسان المشهد كما يجب أن يكون .

فتقدم الشاعرة مجموعتها من خلال رسائل بين كيانين لكل منهما رؤيته الخاصة وقناعاته، محتفظة بأسلوبية المخاطبة الفارقة بين الرجل والمرأة، وتتحرك عائشة أحمد في المساحة ما بينهما، مقدمة طاقة شعرية قابلة للتناول والتأويل، وتفتح الباب من خلال ذلك التراسل الشاعري، بتلمس ما تصبو إليه المرأة في الحب، وما يرجوه الرجل من معشوقته.

مشهد مكتمل

ولا يمكن القول بأن عائشة أحمد تسترق جزءا من المشهد من الماضي وتهرب إلى هنا، بل تحمل كل ما يمكن حمله من تفاصيل، متلمسة دفء الموقف كما كان في لحظة حدوثه، كي لا تفقد منه أي إحساس. هذا الإتقان في جمع خبايا الصورة القديمة وتصديرها كرسالة موجهة للعالم، عن حبيبين كان في وقت ما، هي مهمة شعرية، تجعل من الشعر حافظ أسرار، ومواقف، وأحاسيس، بل حافظ حياة.

تكتب عائشة عن لحظة اكتمال في مشهد توصيف شاعري:

“لمَ لا نحظى بنزهة تحت هذه الأمطار!.

ولم قد أحتاج لنزهة في هذه الأجواء

ولدي ما يكفيني من عسل ومربى على شكل حروف وكلمات، ومحيط روحك يحتضنني

و..

دعني أفكر، هل أحتاج إلى منضدة ذات خطوط مقلمة بالأحمر والأبيض؟

آه، وجدتها؟

لكن بلون أحمر كامل!

هو قلبك”.

سند

وتركز الشاعرة في صورها الشعرية على جدار الحماية الذي يطلبه المرء حول ذاته، في مواجهة العالم، كي يتغلب على النزيف الناجم عن الوحدة والفقد، والخوف، والإحساس الدائم بالحزن، من خلال استخدام الحواس لاكتشاف الملجأ، وتربيط العوامل المساندة للذات وسط معارك الحياة. وتؤكد الشاعرة على البعد الصوتي في معرفة حاجة الذات، وإكسابها المتانة اللازمة للاستمرار.

تكتب عائشة أحمد، بطريقة الاختزال والتكثيف جملا دالة على هذا الشعور:

“عندما أسمع صوتك،

كأنما وردة تزهر،

وسط حرب دامية!”.

أدوات الحواس

كما وتعبر عن ذلك الأثر الوجودي للصوت الإنساني، من خلال أدوات حركية، يمكن للإنسان تمثيلها فانتازيا، عن طريق الخيال باللمس والإزاحة واللمس زغير ذلك من مقدرات الإنسان الروحية والجسدية، فتكتب: “أزيل الصدأ لأسمع ضحكتك”.

انقلاب

فيما تعبر الشاعرة عن النقيض لحالة السكينة وفقا لتقلبات اعتيادية أو مفاجئة تطال العلاقات البشرية، تلك حالات الانقطاع والعزلة، وفقدان السند الروحي والجسدي، فما يكون من المرء إلا البوح بطريقته الخاصة. ولطالما كانت الرسائل هي الطريقة الأكثر حميمية التي لجأ إليها الإنسان بفضل النزعة الحضارية التي هيمنت على الحياة. فكانت الرسالة هي الوسيلة لرتق ثقوب الروح، وإعفاء الجسد من التعب الملم به. لكن هذا السيل قد يصاب بالتكدس، في حال طال غياب النظر عنه، وتركه للغبار عبر الزمن رسائلي، عن هذا تكتب عائشة أحمد: “رسائلي، سئمت الغبار في الصندوق القديم”.

ما بعد الفراغ

واستكمالا لتلك الحاجة الإنسانية لنقل الإحساس للآخر، تعبر الشاعرة عن الميل الإنساني للمس والتحسس، بأي طريقة كانت، لشيء من الطرف الآخر البعيد، كتعويض عن الفراغ الذي تزرعه الوحدة داخل الإنسان. لربما هذا التلامس هو وسيلة للتأكد من الوجود، أو رغبة في الاكتمال ولو بجزء ضئيل، من الآخر. هذه الرحلة في البحث عن المعنى، معنى الصلابة والقوة في مواجهة أزمات العالم هي ملاذ الإنسان على الدوام.

تقول عائشة أحمد:

“ص.ب 9333،

هذا عنوان بريدي، لا تنس تضمين شعرك لي في رسائلك”.

 

مقالات من نفس القسم