كتابات النفَس القصير| شيء أكبر يكتب بدلا مني

أمل السعيدي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أمل السعيدي

المحاولة الأولى: اللمس (المدينة والكتابة)

النسخة الأولى التي قرأتها من الليالي كلها لـسعدي يوسف، الذي تعرفت عليه من خلالها، كانت مستعملة. عند بوابة كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الكويت بداية عام 2011، وأمام زاوية طباعة المذكرات الدراسية كانت طاولات العارضين تصطفُ بتوازٍ، قلبتُ الديوان، لاحظتُ توقيعة في الصفحة الأولى، يتضمنُ اسم مريم.

سررتُ بأن الكتب تمرُ بأجسامها، وأن النسخة حتى وإن لم تكن مقروءة فقد عبرت في مناخات مادية أخرى. يقوضُ هذا شيئًا من شهوة أريد كبحها باستمرار في الإحاطة بكل العالم في نظرة واحدة، حتى وإن كانت ضعيفة لكنها حنونة. وعندما أحول نظري الذي أعاقبه إن نظر على نحو أقل، أسأل نفسي: ما الذي يحدثُ هنا الآن؟

تحيط بنا الجبال من اتجاهات متعددة، وعلينا أن نبرز نوعًا من التعميم عن حياتنا هنا الآن، لكنني أريد الإمساك بالجسم. ولا أستطيع فعل ذلك أبدًا. هل هي حياة مستوية إذن، حادة الأطراف، ليس لها ذيل ولا هامش؟ وأشعرُ بوهن، كلما عرفتُ أن الكتابة هنا هي طرفٌ من ترسانة التعميم القاتلة تلك التي تردي أشياء متطايرة، لا جثثًا يمكن الإمساك بها في حرب غير عادلة.

الجبال إذن، هل نقول شيئًا عن الكهوف المظلمة كلما قلنا هنالك جبل وبحر، خطوط الطول والعرض، تظهرُ كمحاولات باردة في السرديات التي أحتاجُ بشدة للتقاطع معها. مرةَ أخرى لماذا لا نمررُ أجسامًا، تساعدنا على العودة لإلقاء نظرة أولى غير متعجلة.

الجبال مجددًا، مكتوبة كما لو أنها ظل، خلفية موسيقية بلغة أجنبية، تطغى على أصوات الجالسين على الطاولات، يتوددون بعضهم أو يعلنون الكراهية، أو يضمرون انتقامًا ما، يفكرون في قرض الإسكان، في ضريبة القيمة المضافة، في سعر الكحول الذي زاد بنسبة 100% ثم عاد بنسبة زيادة 50%، أو يفكرون في أموالهم التي يحولونها للخارج، في مصارف سويسرا أو في جدوى الهرب من البيت، بينما البيتُ هنا أيضًا في مدينة لم تخلع عنها بعد لون القرية.

أصابع مترددة، تخشى العالم في العادة، ومع ذلك تمسكُ بجسم الجبل بصخرة منه، وتفتته أو تضع الصخرة على الكوميدينو بجانب الوسادة، تحرسها وتنامان معًا. على أمل أن تعبر تلك الصخرة.

الجبال إذن، على هذا المكان أن يضبط جسدي، لكنه بالنسبة لي ليس مكانًا واضح المعالم، لا أستطيع المقاومة لأنه ما من شيء لأقاومه. وبهذا فإنني أعيش في حلقة مفرغة، ليست حلقة نار للأسف، بل حلقة حدودها الهواء، ومع ذلك فإنها حلقة صلبة. أكاد أجنُ، على المدينة أن تكون ملهية، ممتدة، عليها أن تشبه المتاهة، الأفعى، لكنها تابوت، مسقط المتجردة، دون أي دعوة للمينيماليزم، الفارغة، ربما ليس عليها أن تمتلك أكثر من ذلك، لتحكمني، ولتجعل أفواهنا تُقبلُ الهواء. ماذا سأكتبُ إذن؟ أية قصة لديّ؟ لا قصة لديّ، ولا عنوان.

الجبال إذن، أريدُ أن تُمرر الجبال إليّ في فناجين القهوة، في الكتابة التي يكتبها الأحياء هنا، لكن الأمر لا ينتهي هكذا، ففي معادلة الجسم هذه، جسدي يعبرُ، يعبرُ، يعبرُ، يعبرُ. نقول في لغتنا المحكية “يعبر” أي ينتهي. ولا أكتب.

رمل مكتنز بكل هذه الخطوات والجري المسعور، بينما حمامة تقرضُ أطراف نبتة ذاوية أو شيء ما عليها. إيقاعُ الموج المنتظم يرقق الصخب، ثمة حاجز من أحجار ضخمة يسور هذا المكان المفتوح، أجلس في مقهى زيل في كمبنسكي /الموج في مسقط، أعقدُ مع طيف الغروب صفقتي الخاسرة مع المدينة. هل يمكن أن ألحق بهم وهم يركضون، النساء يرتدين ثياب السباحة، تلوحُ الشمس أجسادهن الممطوطة اللامعة، وأنا لا أتذكر بأنني كشفت ساقي لأحد بعد. ولا أعرف تمامًا إذا ما كان ملحُ هذا البحر هو نفسه ملح الطعام قبل أن يُنقى.

لدي فستان صيفي، موضة هذا الصيف ملونة وربيعية، قماش بارد، مطبوع ببتلات لوتس تبدو كما لو أنها تطير، مع فتحة صدر واسعة، تخيلته لحظة وقوع عيني عليه في المتجر يهفهف كثيرًا. ها هو ذا يفعلُ داخل الكتابة.

ظلال الجبال تعطي مشهدية هذا المكان المحجوز لقلة من الناس، شعورًا بأن الحراسة يمكن أن تستيقظ، كما لو أنها مؤخرة دب ضخم ما زال نائمًا. لا ينبغي أن نأمن شيئًا كهذا. فخلف تلك التلميحات الجبلية الراسخة، حربٌ خامدة وقطيع فراش ملون، رفرفة الكثير منها، سيوقد الطوفان.

رجلان يرتديان بدلتي رياضة من أديداس يتمرنان على الشاطئ ثم يتوقفان للحديث، شجرة بيذام (لوز) بجانب سلم المقهى الذي يؤدي لهذا الشاطئ الخاص تذكرني بمنزل جدتي وموسم قطاف البيذام والخوف من الدود، مكانٌ جيد للمواعيد الغرامية، لن يوقف أحدٌ هنا أي قبلة لرجل وامرأة أتيا من قرية بعيدة، لن توقفَ القبلة هذا التطير في استغلال اليوم لحظة بلحظة في اللهو واللعب.

بلهجة قروية يقول لي النادل “تريدي شيء بعد” وأقول: شكرًا.

محاولة ثانية: البحث عن النبرة ( الصوت والإيقاع)

مسقط، مسقت، مسكد. يختلفُ الصوت الذي عُرف عن العاصمة، اليوم عندما يتندر البعض أو يظهرُ خفة الظل، يقول أنا ذاهب إلى مسكد، ثم يضحكُ كثيرًا، ويبتسم الآخرون لهذه الذكرى. في مسلسلات الخليج التاريخية التي تُظهر شخصيات قادمة من عُمان، تقول إنها جاءت من مسكد، وبينما نتحلق حول تلفاز واحد في بيتنا، يحفزنا لفظ العاصمة على هذا النحو، فنمطُ رؤوسنا حتى وإن لم نتكلم، اذ ننتقل لمستوى آخر من الصمت. عرفت لفظة مسقط أو مسقت بهذين الشكلين منذ أوائل القرن العشرين، وكتب المؤرخ العماني السالمي في تحفة الأعيان مسقط في تأريخه لسنة 1894، لكنه وفي تأريخه لـ1903 كتبها مسكد، بالكاف والدال، ويمكن القول إن سبب إبدال الكاف بالقاف في رواية السالمي، مرتبط بلفظ السالمي وتدوين اللفظة، إذ كان السالمي ضريرًا. [1]

عندما أكتب، أقرأ ما أكتبه بصوت عالٍ لأتبين مواقع النشاز، في بعض الأحيان أحبُ أن أكتب أنني زرعتُ سروة في البيت، لوقع كلمة سرو، لكنني أنتبه أن صوت الكلمة وحده ليس كافيًا للمضي قدمًا في هذه الخطة، إذ أن السرو لا ينمو في عُمان. بل إنني وللمفارقة عندما سافرت لم أميز السرو عن البلوط.

تضحك نوف كثيرًا عندما تقرأ بعض مسودات نصوصي قبل نشرها، إذ تميزُ الأماكن التي أفتعل فيها لفظة لصوتها، وتقول لي إن الحقيقة لا ترتبط بالصوت وحده، لكنني أصرُ بدوري على أن الإيقاع هو جزء من الحقيقة ولا يمكن أن يكون هنالك شيء حقيقي بالكامل. يغطي النخيل ما نسبته 42% من إجمالي الأراضي المزروعة في السلطنة [2]. سألتُ أبي ما قصة الخلاف على النخيل في القرى القديمة في الجبل، قال “قسمة المال” تتم بعد أن يجتمع أعيان القرية (البلاد)، ولا تعطى النساء من النخيل، ويأخذ الأخ الأكبر النصيب الأكبر لأعذار منها السبلة. وبسبب اختلاط الأملاك، وعند توسعة الُملك (الجيل/الرابة/الجلبة/الضاحية) تحدث المشاكل، وقد تصلُ أحيانًا للقتل، لكنه ليس شيئًا صادمًا، إن الناس تقتل بعضها لأسباب أتفه من ذلك.

كانت أصناف النخيل المنتشرة في مزرعة والد أبي: النغال، قسويح، خشكار، قش، تبق، التي تعد من الأصناف المتوفرة أكثر من غيرها. ويختلف المحصول في قرى الجبال عن قرانا الحديثة، من حيث كمية الحصاد وجودته وطعمه، ويقول أبي إن تمور الجبال أكثر حلاوةً، ويقول إن لهذا أسبابه، إذ أن التمر يحتاج لأماكن جافة، ويتحقق ذلك في الجبل.

أعيد قراءة الفقرة السابقة، وأتوقف عند تنويعات كلمة الضاحية. أتوقف كثيرًا، وأقررُ المواصلة في الكتابة، علني أصلُ لجبل أبي الذي هو أكثر حلاوة لا في نخيله فحسب. وأتذكرُ بينما تواصل عملية الكتابة سحرها، إذ تكشف لي ما لا أعرفه عن نفسي وعن العالم. تذكرت بيتًا أحبه لمحمد الثبيتي وإن كنتُ قد استخدمته في سياقات الرد على الكارهين أحيانًا، يقول الثبيتي:

يا أيها النخلُ، يغتابك الشجر الهزيل

ويذمك الوتد الذليل

وتظلُ تسمو في فضاء الله، ذا ثمر خرافي

وذا صبر جميل

وأعرفُ أنني أمضي بكتابتي إلى مكان آمن، وأن النخلة صوتُ لفظتها، سيوصلني إلى هنالك سالمةً من تقريعات الإيقاع، والنفور.

محاولة قبل أن أستسلم

لقد حاولتُ، وأنتم شاهدون عليّ، أن لا أجرد أفكاري، أن أنطلق من المكان الذي أعرفه/أجهله، نحو ما أنا عليه الآن، لكنني لستُ واثقة من قيمة ما فعلت. أشعرُ كما لو أن نسمة تنحسر عن صدغي، وبألم في الحلق؛ أبتلع فشلي، ضمور الكتابة، الذي يوجعني جدًا، لكنني لا أستطيع أن أجرب شيئًا، وهنالك هذا كله الذي يطوقني، ويشلُ من حركتي، والكتابة حركة أليس كذلك؟

يقول لي صديقي إنني أشبه البطريق، ويستخدم ملصقات بطريق في وضعيات استلقاء متعددة. أنا مستلقية، كيف لي أن أكتب إذن؟ أو أن أقول شيئًا عن الكتابة. قال آخرون لا يحببونني كثيرًا: كتابتها ذاتية. ولا أعرف إن كانت هذه تُهمة حقيقية، وعلى من ألقي اللوم، إذا أردت التنصل منها، فأنا لا أشعر بنفسي سوى معطى نهائي، لأرضي، لمدينتي، لبيتي، لعائلتي، إنني لا شيء مني أبدًا. ولهذا أقتبس جورج بيريك من فصائل الفضاءات في كل مناسبة، إذ أيضًا يربط الكتابة بالمدينة، بالمكان، بأسفل السرير، لا يهم، إنها الفضاءات التي ينطلق منها السرد، وربما في نهاية الأمر لا يريد سوى العودة إليها وملامستها، وترك علامات من الدعة عليها لترفق بنا قليلًا بعد كل ما حدث.

لاحظتُ في الأوان الأخير أنني أميل لقراءة الأعمال التي تتحدث عن الشتاء أو تدور في فصل الشتاء، عندما يغطي الثلج كل معالم البلدة، ويُدوّرُ شحوبها الجديد أحداثها القديمة. أتوق للبرد، وأريد بدوري أن أكتب عن صحراء صافية، بيضاء ممتدة على طول النظر، وعندما تصلُ لآخرها لا تسقط! لكنني لستُ في صحراء بيضاء، أنا هنا، محاطة بمكونات صخرية خاصة ببلدتي، وأتمنى ألا أكون رمحًا في الكتابة عندما تكون تعميمًا، فهامشي على كتفي للأبد.

الاستسلام

“من يعلم، ربما كانت بعض حالات الانتحار المحيرة نتيجة لإحدى المحاولات، التي بدأت بتفاؤل شديد، وكانت تبحث عن الخط المثالي لنجاح اليوم. ولكن ألا يفصح لي عدم نجاح اليوم عن شيء آخر؟ ربما كان بداخلي تصور خاطئ مثلا؟ إنني لم أخلق من أجل اليوم بالكامل، إنني ليس علي أن أبحث عن الصباح في المساء. أم هل عليّ أن أفعل”؟

بيتر هاندكه، عن يوم ناجح– ص 40.


[1] محمود محمد هملان، مدينة مسقط ( 1900-1913) – مؤتة للبحوث والدراسات، سلسلة العلوم الانسانية والاجتماعية 2017.

[2] أحمد المرشودي، صناعة التمور في سلطنة عمان: الإنتاج والتسويق والمعالجة التعاون الصناعي في الخليج العربي– منظمة الخليج للاستشارات الصناعية ص 13-26.

مقالات من نفس القسم