قلولي بن ساعد
فاتحة القراءة لجسد الأهزوجة
تحاول هذه الورقة النقدية الولوج إلى ماوراء الأنساق الثقافية المضمرة في المتن الشعري النسوي لمجموعة شعرية هي “جسد الأهزوجة” للشاعرة الجزائرية خيرة بلقصير.
ليس فقط من خلال الأنساق الداخلية لنصوص “جسد الأهزوجة” وما يتوارى خلفها من إسنادات لغوية ومجازية ومفراداتية بما تحيل إليه من تيمات وموضوعات وموجودات وأشكال رمزية تشكل مجتمعة ما يسميه جيرار جينيت “النص الجامع”.
النص الذي لم يكن في مقدور النص الشعري النسوي السائد أو المتطابق مع الرؤية الذكورية كتابته حتى ولو كتب من طرف إمرأة من عالمنا المعاصر بسبب من غموض الكتابة النسوية ذاتها وحلولها ضمن الرؤية الذكورية على ما يؤكد عليه ناقد مهم هو الدكتور عبد الله إبراهيم عندما نبه إلى عدم الخلط بين كتابة النساء والكتابة والنسوية “عندما تتم بمنأي عن فرضية الرؤية الأنثوية وإعتبار الجسد مكونا ثقافيا ” (01) وهو ماكانت الشاعرة خيرة بلقصير واعية به كل الوعي.
فوضعت أمام القارئ نصوصا شعرية جعلت من الجسد والجسد الأنثوي مكونا نصيا وثقافيا تمهيدا منها لجر القارئ نحو “الجسد الجواني” ببعديه الشعري والأنثوي الجسد الذي قال سيغموند فرويد أنه “قارة سوداء” لا أحد يعلم عنه شيئا من الداخل.
خاصة وأن الجسد لم يعد جسد واحد بل هو جسد متعدد فهو أولا جسد الأنا الشاعرة ثم جسد أنثى أخرى هي الأهزوجة وفي الحالتين نحن أمام جسد تتجلى فيه الأنوثة معلنة عن شجرة إنتسابها الشعري لذاتها الذات الذي غيبها نقد ذكوري اتخذ من الأحكام المجانية الأخلاقية والاجتماعية والسياسية مرجعا نقديا.
والأمر لا يقتصر فقط على الخطاب النقدي السياقي أو التقليدي، بل إنه يطال أحيانا بعض سرديات النقد الحداثي وما بعد الحداثي
الجسد والجسد الثقافي الإشكال والتجلي
في البدء يمكن القول أننا أمام جسد آخر هو الجسد الثقافي تمييزا له عن “الجسد البراني” بمفهوم الدكتور الأخضر بن السائح لكن هذا لا يعني أن هذا الجسد البراني لا يشكل حضورا في مدونة الشاعرة حتى ولوكان حضورا فيزيقيا أو باهتا مختلفا تمام الإختلاف عن الجسد بوصفه نصا أو أفقا شعريا عندما يتعرض على يد الشاعرة لنوع من الشعرنة أو شعرنة الجسد بتعبير عبد الله الغذامي.
هذا ما يجعلني أتعرض لبعض أشكال تجليات الجسد الاخرى عندما تتناص مع الجسد الشعري أو تحاول التمثل أمام قارئ متوجس أو رقيب مشحون (بأفق إنتظار) لموقف جاهز أو معطى سلفا مرجعه الأنساق الثقافية المهيمنة الماضوية أو الأبوية التي نشأ عليها وميزت مساراته في التعامل مع النصوص الأخرى النصوص الخارجة عن “سلطة النموذج” بتعبير الدكتور جاسم عبد جاسم.
فليس المقصود هنا بالطيع الجسد البراني كما جاء في مستهل هذه الدراسة ولسنا نعني أيضا (الجسد المعطوب “ كما وقف عليه الناقد العراقي عبد الله إبراهيم عندما كان بصدد تفكيك “كتابة الجسد” فأتخذ من “الجسد المعطوب” جسد خالد بن طوبال كما يتجلى في رواية أحلام مستعانمي (ذاكرة الجسد” متكأ له بوصفه المعادل الموضوعي “للحداثة المعطوبة” حداثة إنسان الأطراف المقصية من حظوظ المركز بأبلغ ما عبر عنه السوسيولوجي الجزائري عمار بلحسن في بحثه القيم “الحداثة المعطوبة”.
ولسنا نعني كذلك الجسد الشهواني أو جسد الرغبة الذي ورد إلينا عبر خطابات الحداثة المتوحشة والخطاب الإستشراقي الغربي الذي إنشغل بموضعة الذات الأنثوية الشرقية وتسويقها كأحد أشكال الحريم الشرقي المنظور إليه بوصفه حريما مقموعا وأن الفاتحون الغربيون هم الذين جاءوا من أجل تخليصه من هيمنة “الهمج” من الذكور العرب والأفارقة والأسياويين غير المتحضرين ولا حتى الجسد الرقمي ” الجسد المنفصل عن الجسد جسد الأشياء أو الحضور الظاهراتي للجسد ” (02).
طالما أن ” الواجهة الرقمية لا تحرمنا من أجسادنا لكنها تجعلنا نهتم أكثر بالتمثلات التي تقمدمها عن أجسادنا ” (03).
الجسد الذي شيأته العولمة مثلما شيأته قبل ذلك الحضارة الغربية إذ جاز لنا أن نستخدم مصطلح “التشيؤ” الوارد في كتاب المفكر الماركسي جورج لوكاتش (التاريخ والوعي الطبقي” في الفصل الذي سماه “التشيؤ والوعي الطبقي” وتحول الإنسان في ظل الحضارة الغربية المتوحشة إلى مجرد شئ وليس ذاتا لها كينونة عملت لاحقا العولمة الغربية على محو إنسيتها وإستبدال كينونتها بكينونة أخرى هي الكينونة الرقمية.
الكينونة التي ناهضتها المفكرة الأمريكية شيري توركل عندما إعتبرت أن الحواسيب لا تقدم لنا الأشياء فقط وإنما تجعل منا شيئا ما ” (04).
الأمر الذي حتم على مفكر فرنسي بارز هو ستيفان فيال أن يفتتح كتابه “الكينونة والشاشة كيف يغير الرقمي الإدراك” بما ورد على لسان شري توركل من أن الحواسيب لا تقدم لنا الأشياء فقط وإنما تجعل منا شيئا ما.
الجسد الثقافي الحمولة الثقافية والحمولة الشعرية
عندما يتضمن الجسد والجسد الثقافي حمولة ثقافية تسكن المخيال الثقافي للشاعرة فإن هذه الحمولة تنبثق من الذات الحاملة لها حمولة أخرى هي الحمولة الشعرية التي تكتنف أعماق النصوص ضمن المواد الثقافية الثاوية داخل الكينونة الشعرية بالمعنى الهايدغري و كما تتجلى عبر نصوص المجموعة الشعرية “أهزوجة الجسد” على إختلاف مضامين النصوص وتيماتها وهي المضامين التي لا تنفصل تمام الإنفضال عن ” بويطيقا الأنوثة ” بوصفه بويطيقا الأنوثة ” شكلا تخصيصيا للكتابة الإبداعية النسوية للإقرار بتملكها لمخيالية مستقلة ” (05).
البويطيقا التي تتناص مع بويطيقا الثقافة كما ترسبت في مخيال الشاعرة كذات ثقافية و أنثوية وقع عليها فعل الإقصاء ولا عحب إذ لجأت الشاعرة خيرة بلقصير إلى تأنيث نصية عنوان مجموعتها الشعرية “جسد الأهزوجة” بوصفها (العتبة النصية” بمفهوم جيرار جينيت الحاملة لنصوصها الشعرية.
فالجسد هو جسد الأنثى والأنا الناثرة لهذا الجسد الشعري هي أنثى ثم هناك أنثى أخرى وهي الأهزوجة ضمن جنس أدبي هو القصيدة النثرية بمواضعاتها التجنيسية الخارجة عن المعيار الثقافي لقصيدة الفحولة الشعرية كقصيدة تحاكي “إرادة القوة” بالمفهوم النيتشوي وهذا لا يعني بالطبع إستقلالية الجسد والجسد الأنثوي على وجه الخصوص على الواقع البراني فالجسد أي جسد كان ” ليس ملكية خاصة فمهما حاول الإنفلات من قبضة الآخرين فإن الطقس الإجتماعي يعمل على على تلجيمه وتعويمه بما تقتضيه أفعال التنشئة الإجتماعية ومفعولاتها منذ المراحل الأولى للطفولة ” (06).
مما يعني في النهاية أن الجسد حتى ولوكان جسد الآخر الذي لا نعرفه حق المعرفة سيتحول مع وعي القارئ أو المتأمل في تضاريس الكتابة الإبداعية التي تتخذ من الجسد متكأ لها إلى “ملكية مشتركة يتقاسمها المخيال الجمعي بما يسبغ عليها من قيم تدخل في صرح المثل الضامنة للتماسك الإجتماعي مهما حاول إحاطتها بمقاومتها الدائمة للظفر بعزلته الأنطولوجية الدافئة ” (07).
مع الأخذ بعين الإعتبار أن المعنى ينصرف هنا إلى الجسد التخييلي بوصفها نصا ثقافيا موضوعا للتحليل الثقافي ضمن فضاء أكبر هو النص بوصف النص ” المسكن التخييلي للجسد وفيه يتجسد ويتحقق وجوده المتخيل ” (08).
وفي نصوص “جسد الأهزوجة” لا يتوقف حضور متخيل الجسد على العتبة النصية لعنوان مجموعتها الشعرية “جسد الأهزوجة” بمعناها الفيزيقي فحضور متخيل الجسد يكاد يغطي مساحة واسعة من فضاءات نصوصها والمعجم الثقافي الحامل لها وهو ما يتجلى في إعتراف الشاعرة نفسها أنها ” أرهقت أجسادا عارية على بياض يرفض الرقابة والمقص ” (09).
فيما لا يبدوا على الشاعرة أي ميل أو إستعداد للتخلى على إشتراطات “بويطيقا الأنوثة”
عندما تستدعي إلى نصها إحدى رائدات النسوية الغربية وهي فرجيينا وولف في نص يحمل الإسم ذاته “فرجيينا وولف” وهي توشوش في مسمعها :
أغرقي ففي الغرق متعة لا يعرفها إلا أولو التبصر / ضعي حجرا في ميزان العشق وأقسطي في الذوبان (10).
ثم تجر معها عددا من الأسئلة المبحوحة الحاملة لمفردات الدفء والبوح والظلمة والثدي والضرع والسوسنة والشمس والبنفسح وهي كلها صيغ لغوية تشكل معجما لغويا يستقي دلالاته من جراحات الذات الأنثوية وأوجاعها الأوجاع التي تنكرت لها نصوص “التمثيل الثقافي للجسد” المكتوبة من طرف الآخر الذكر الذي تجرأ على الإحتفاظ بكتابة تاريخ واحد للجسد هو من وجهة نظر ثقافة النظام الشعري العربي الذكوري ” ثقافة واحدة تتجرأ مع ذلك على تقديم النسخة الصحيحة والوحيدة للتاريخ ” (11).
التاريخ الذي كان يريده تاريخ التمثيل للرغبة وللجسد الأنثوي الشهواني كنوع من المركزية الذكورية الموروثة من الحقبة الإستعمارية عن مركزية الإستشراق الغربي في التعامل رمزيا ودلاليا مع تضاريس الجسد الأنثوي الشرقي جسد الحريم أو “الجسد الطيع” بمفهوم فوكو القابل لعنف الرغبة بوصف الأنوثة صفحة بيضاء على ما نرى ذلك عند عبد الله الغذامي في تعريته لثنائية المرأة واللغة والتمثيلات اللغوية التي رسختها الثقافتين العربية والغربية وكرستها كأمر واقع حتى ” صارت الصفحة البيضاء ذاتها مصدرا لنقل الرسالة ثم جرى تثبيتها ” (12).
وهو تثبيت لم يكن في إستطاعة الشاعرة التصدي له وحدها أو ممارسة نوع من المحو أو (المحو الممنهج” بتعبير بختي بن عودة وأقصى ما فعلته الشاعرة هو أنها عمدت إلى التخفيف من وطء الذكورة على متخيل الجسد المؤنث فأتخذت من الأثر الدلالي لصوت الأهزوجة مثالا ثقافيا لها كنوع من “الكتابة بالرد” وفقا لشكل من أشكال المقاربة النقدية للنقد ما بعد الكولونيالي وهي لم تستكمل بعد شحن وعي القارئ بما تشكل في مخيالها الثقافي من فائض شعريتها والتعبير عنها وعن ذاتها التواقة إلى التحرر من التمثيل الثقافي (لجسد الأهزوجة”.
النوسطالجيا الثقافية والمكان الشعري وشعرية الثقافة
يلاحظ القارئ “لجسد الأهزوجة” والنصوص الحاملة لها أن هناك نوع من القرب الأنطولوجي مابين الأنوثة والمكان والجسد والأرض الأرض التي وقع عليها فعل العدوان الذي يجد تجذره الإبستمولوجي في ما أصبح يسمى في الدراسات الثقافية بالإيكولوجيا النسوية وبإعتبار الجسد (مفعول المرأة” مثلما تقول كريستيفا ولهذا المفعول ” وظيفة أمومية ما قبل أوديبية تستعاد في الفعل الجمالي الإستطيقي ” (13).
وبإعتبار المكان الذي تحن إليه الشاعرة ووتفرد له عددا مهما من نصوص مجموعتها الشعرية “جسد الأهزوجة” هو مكان ثقافي وليس المكان الفيزيائي في بعده البراني.
ولكن هذا المكان “وهران” قد جرى عزله عن ذاته الذات الأنثوية الناثرة لخطاب “الشعرنة” بمفهوم الغذامي لظلال المكان الثقافي الذي غادرته تحت سيطرة ظروف قاهرة أجبرتها على النأي عنه للأقامة في بلد عربي هو الأردن.
علما أن الشاعرة عندما تحن إلى وهران فهي لا تحن إلى وهران الكولونيالية ولا إلى وهران المدينة الكوسموبولتية كما يفعل علماء الأثنولوجيا الكولونيالية الذين نشأوا وتشكل مخيالهم الكولونيالي في “الجزائر الفرنسية”.
وفق تصور ريناتو روزالدوا الذي ينقل عنه الباحث الجزائري توفيق شابو قوله ” أن المجتمعات الإستعمارية البيضاء تظهر مزينة ومنظمة فتلميحات من هذه المجتمعات تصور أنهم لا يخلقون أي سخط أخلاقي مما يعكس مزاج الحنين إلى الماضي في صورة أن الهيمنة العنصرية بريئة ونقية ” (14)
بل تحن إلى وهران أخرى هي وهران الثقافية التي تفتقت موهبتها الشعرية فيها وبين أجواءها الثقافية منذ أن كانت طالبة بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة السانية بوهران وهاهي تستعيد وهرانها التي تركتها وراءها عندما غادرتها قبل سنوات دون أن تنجح في نسيانها أو تتخلى عن نص المكان الذي يستوطن مخيالها الثقافي المخيال الجسدي لنص المكان بوصف الشعر كما الفلسفة “سياسة مكان” بتعبير فتحي المسكيني وهذه السياسة يقول المسكيني ” لا يمكن لأي دولة أن تؤقلمها في المعنى الذي إفترعه دولوز ” (15) المعنى الذي يمكن العثور في قول شهير لأدونيس “بأن المكان جرة الأنوثة”
فهل كان للمنفى دور في إنتاج هذه النصوص الشعرية نصوص النوسطالجيا الثقافية كما تتبدى لنا من خلال عتباتها النصية “وهران شوق ومسغبة –وهران كامو تدير ظهرها لي – بلبل في الأعالي حسني” وغيرها… ؟ .
لا أجيب بالنفي ولا أجيب “بنعم” لكون منطق النقد الثقافي الذي نعتمده في هذه المعالجة النقدية ليس من أولوياته الإنحياز إلى روح العقل الوثوقي الذي يعتقد أنه يملك الإجابات القطعية في مسائل نقدية تتطلب الكثير من النسبية والإختلاف.
وعندما يتعلق الأمر بنصوص المنفى والنصوص النسوية على وجه الخصوص المنفية من دائرة التداول النقدي الذكوري فإن الأمر يطرح إشكالية مضاعفة وهو ما يتجلى نصيا في عنوان نص من نصوص المجموعة الشعرية “جسد الأهزوجة”.
النص الحامل لعتبة نصية هي “وهران كامو تدير ظهرها لي” رغم أن الأمر يتعلق بذات ثقافية أو “شخصية مفهومية” بتعبير دولوز وهي ذات تجمع بين الغيرية والهجنة بوصف هذا الأخير كامو هو في النهاية شخصية مركبة من ذاتين الذات الغيرية والذات العصية على الإنتماء وهي نتاج فعل الهجنة والشاعرة عندما تعبر في نصها “وهران كامو تدير ظهرها لي” فهي تتخذ من ليل وهران البعيد منصة للبكاء والنحيب ولا عزاء لها سوى إستعادة أصوات حسني وخالد لتبرأ من وهران العلة التي تخرب عنها أنسها البعيد بقهوة عواد أو التسكع في مرشي ميشلي.
هذه وهران كامو التي تدير ظهرها للشاعرة وهي وهران أخرى غير التي عرفتها الشاعرة وهران مرشي مرشي وسنتا كروز وصخرة العجوز وهران “الألبوم الكونيالي” أو وهران كامو كما عبر عنها الناقد الجزائري الدكتور رابحي عبد القادر وهو يعني الألبوم الكامن في ” ما كتبه كامو عن وهران لإجل إستدعاء وهران الماضي ” (16).
وحتى عندما تعثر على وهرانها التي خبأ مفاتيحها الجني المارد تحت قدمي الإله كما تقول وتحاول إستعادتها فهي لا تتردد في مناجاة وهرانها بتلك اللغة الشعرية الحنينية الطافحة بأوجاع أنثى مجروحة تريد أن ” تستريح على أهبة من ضباب القلق لترى سموم الروح تخرج سربا سربا ” (17)
طالبة من “هيدور” أن يربت على كتف البحر وهي لا تفتأ إستحضار أصوات وهران التي ألفتها.
ففي مقابل المنظورية التي عبر عنها الدكتور رابحي عبد القادر في (الألبوم الكولونيالي والحنينية الجديدة” تميط الشاعرة خيرة بلقصير اللثام عن ألبومية أخرى هي ألبومية وهران ما بعد الكولونيالية وهران بختي بن عودة وعلولة عبد القادر ومحمود بوزيد وأحمد وهبي وأمين الزاوي وحسني وخالد وغيرهم في قراءة شعرية هي أشبه (بالقراءة الطباقية” التي قدمها إدوارد سعيد في كتابه “الثقافة والإمبريالية” عندما كان بصدد وضع الرواية الغربية رواية الأمبريالية الثقافية المسكونة بسياسة الحذف الإجتماعي مثلما يقول هومي بابا للآخر الغيري أمام رواية أخرى هي رواية الأطراف المسكوت عنها في الخطاب النقدي الغربي خطاب المركزية الغربية فتحضر في متن الشاعرة شعرية أخرى هي الشعرية الثقافية كما تتجلى في ذلك المذهب النقدي من مذاهب النقد الثقافي الذي أسس له الناقد الأمريكي ستيفن غرينبلات في جامعة بريكلي بالولايات المتحدة الأمريكية وأطلق عليه مسمى الشعرية الثقافية الرامية إلى إعتبار الأثر الفني ” نتاج تفاوض بين مبدع وطبقة من المبدعين مجهزين بذخيرة أعراف مركبة ومشتركة جماعيا ومؤسسات المجتمع وممارساته لتبادل ذي معنى لا يتضمن الإمتلاك ولكن التبادل ” (18).
التفاوض الذي قاد الشاعرة خيرة بلقصير إلى إمتحان قدرتها التفاوضية على مضاعفة منسوب النزق لديها وهي تقاوم إكراهات اللغو الأدبي والنصوص الهشة والفراغ الثقافي والنباح الشعري وبرجوازية البياض وإستعراض عضلات اللغة وغيرها من أفانين الدرس الثقافي الأسلوبي الإستعراض المناوئ للشعر المؤنسن الذي تقدمة الشاعرة كنوع من الشعرية المضادة لتجارب الهيمنة باللغة غير عابئة بثقل الإسم أو “إمضاء الإسم” فيما النص فهو :
“مجرد إعتذار للحياة يخدش اللحظة بحياء القلم ” (19)
وهي في عزلتها البعيدة بمدينة أربد الأردنية في زمن جديد هو الزمن الكوروني الزمن الذي فرض عليها مقاومة مزدوجة المقاومة الأولى :
هي مقاومة رهاب جائحة كورونا وإنعكاساته النفسية على ذات الشاعرة وهو الذي أثمر (إنتاجية نصية” بمفهوم كريستيفا تمثل في إحدى قصائد المجموعة الشعرية “جسد الأهزوجة” وهي “هكذا تحدثت الكورونا / مائة عام من الحجر” في تناص على مستوى العتبة النصية / العنوان مع عنوان لرواية شهيرة هي رواية “مائة عام من العزلة” للروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز في مواجهة صريحة هي مواجهة القارئ الذي سيضع على محك التساؤل النقدي نصها الشعري ضمن أفق للتلقي النقدي بما يتناغم مع ما يسمى بنصوص الحجر والعزلة النصوص التي تحكمها آفاق ما بعد كورونا “كمفصلية ثقافية للذات العربية” المفصلية التي حدد أطرها الناظمة باحث مصري هو الدكتور حاتم الجوهري في دراسة راهنة له تتخذ من مضاعفات كورونا / التي أربكت العقل الأوربي ومعه العقل الأمريكي وجعلته عاجزا أمام رعب الجائحة وتناسل تداعياتها النفسية على الذات الغربية المفكرة الذات التي جرى تقديسها من طرف الذوات الأخرى المسيطر عليها في العالم الثالث العالم المستهلك لمنتجاتها العلمية والطبية مثالا لها.
هذا ما جعل الدكتور حاتم الجوهري يؤشر لإنبثاق مفصلية ثقافية للذات العربية في مرحلة ما بعد المسألة الأوربية ” كمفصلية ثقافية جديدة تثور على المفصلية الأوربية وتسعى إلى إزاحتها من المقدس التي رفعها البعض إليه ” (20).
ودليله في ذلك ” أفول النموذج الغربي وتراجع متلازماته الثقافية في المتن والهامش بما سيمكن الذات العربية من لعب دور في ظهور مفصلية ثقافية إلى جانب النمط الحضاري والتجاري للصين التي شنت عليها أمريكا حربا تجارية تصاعدت في ظل الجائحة ” (21).
غير أن خيرة بلقصير وحتى وهي في عزلتها البعيدة في أربد توثق لنص “محنة الجائحة” في نص العزلة بما يعني مقاومة الآثار النفسية والشعورية لذاتها الذات الشعرية القادرة على تجاوز رعب اللحظة في ظل تفشي الوباء وباء كورونا في محيطها الإجتماعي بأربد فهي تخترع لحظة أخرى هي اللحظة الإبداعية كلحظة مفصلية تعبر عن مفصلية أخرى هي المفصلية الشعرية المفصلية الكامنة في كتابة نص شعري يجمع بين معطيين المعطى الأول :
هو المعطى المتعلق بنص العزلة والعزلة عموما هي خيار الكاتب والميدع عندما يكون بعيدا عن ضجيج العالم.
فيما المعطى الثاني : فهو المعطى المتعلق بأنسنة النص الشعري الأنسنة القائمة في بعد الشاعرة عن مرايا اللغة والجماليات المتجاهلة للوجع الإنساني المعبر عنها بلغة الناقد العراقي فوزي كريم “بمرايا الحداثة الخادعة” الأنسنة التي قادت خيرة بلقصير لتقديم نصوص هي نصوص الشعرية الثقافية تقاوم فضائع الأمبريالية الطبية العائدة ككمامة ليعود أمد الخرسان أكثر وهي ترى أن ذمم البياض ستباع أكثر فلا ” الثلج ولا الأكفان ستصحح نوايا تجار الظلام والإنسانية ” (22)
فيما المقاومة الثانية : فهي مقاومة النفي والبعد عن مرابع طفولتها وعن المكان الثقافي الذي تركته هناك في وهران وهران ما بعد كامو والوجود الإستعماري مع العلم أن الشاعرة خيرة بلقصير عندما تميط اللثام عن ألبومية أخرى هي ألبومية وهران ما بعد الكولونيالية وهران بختي بن عودة وعلولة عبد القادر ومحمود بوزيد وحسني وخالد وعبد الله الهامل وغيرهم كسردية مضادة للسردية الكولونيالية التي تحدث عنها الشاعر والأكاديمي الدكتور رابحي عبد القادر في (الألبوم الكولونيالي والحنينية الجديدة” فهي لا تتعامل مع الإسم المفهومي لكامو كروائي إشكالي إرتبط في وهران بنوع من الحنيننية أو النوسطالجيا الكولونيالية تعاملا هو أشبه (بشيطنة الآخر) على الرغم من أنها تعبر في منجزها الشعري عن رفضها لماضي وهران الإستعماري أي ” تحويل الآخر إلى رمز للشر المطلق ” (23)
إذ تشيد ببعض نصوصه خاصة نص “الطاعون” الطاعون الذي ترى أنه مكنى بالمكان الخطأ ولا تترد في إختبار قدررتها التفاوضية لإستجلاء شعرية أخرى هي شعرية المثاقفة فيحضر في نصها الشعري إستدعاء للآخر ممثلا في الإسم المفهومي لرموز ثقافية غيرية بوصفها “ذواتا عالمة) بمفهوم محمد عابد الجابري أو”شخصيات مفهومية” بحسب المعنى الذي يعطيه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز للذوات الثقافية والفكرية عندما تحضر داخل نص إبداعي أو فلسفي على غرار كامو وأرسطو وفرجيينا وولف ورامبو ولوركا وأرسطو وغيرهم وجها لوجه أمام (شحصيات مفهومية” أخرى تنتمي إلى وهران ما بعد الكولونيالية وهران رنين الحداثة اليافعة لبختي بن عودة وهو يمسح أزيز المرجاجو باليقين وهران المضمخة بعطر عبد القادر علولة وعواء الركح بأجواده الغائبين وهران محمود أبوزيد وهو يجفف عتبات المبنى العظيم كلما غادره عاشق مهزوم وهران عبد الله الهامل الصعلوك الغامض التواشيح وهران البحة في حنجرة أحمد وهبي سائلة عن حال الأحبة هناك وعن حال قبة سيدي الهواري وحالة لالة مريم في أعالي الصمت الصمت الذي كلفها كثيرا قبل أن تعثر على ضالتها لدى النفري وهو يوصيها:
“خذي مني لساني السليط وطواسين الحلاج”
ما بعد القصيدة / وصية الشاعرة
لا أدري إن كانت الشاعرة منفتحة بما يكفي كقارئة على بعض أنساق خطاب البعديات والمشروعات النقدية المنبثقة منها مع أني لا أعتبرها ضرورية وليس شرطا أن يكون الشاعر قارئا للفلسفة وللفكر المعاصر ولا يمكن التعامل مع صفة المابعد بنوع من المعيارية أو الميكانيكية المرحلية كما يتجلى ذلك في عدد من المعالجات النقدية المتسرعة فالمابعد تشكل ” معقولية ما يعلن التحول عنها وعن مشروعية القول في المابعد ” (24)
ولا أطرح مابعد القصيدة كمفهوم يحيل إلى مذهب ما بعد القصيدة كما تكرس في سرديات النقد ما بعد الحداثي لشعريات ما بعد القصيدة التي ضاقت بها القصيدة ولم تعد قادرة على لملمة ” تبعات الولادة وأول ما يواجه المولود أو المنجز التجريبي المتمرد على سلطة النظم الشعرية وأعرافها المتأصلة في أعماق الوعي الشعري العربي (25).
ولا يحيل المفهوم ما بعد القصيدة أيضا إلى تيار ما بعد القصيدة النثر على إعتبار أن المنجز الشعري لخيرة بلقصير من خلال “جسد الأهزوجة” يرتبط بمواضعات القصيدة النثرية على صعيدي الشكل والبناء كما أسس له نقديا وتنظيريا نافد مهم هو الناقد المصري سيد عبد الله السيسي عبر كتابه “مابعد قصيدة النثر نحو خطاب جديد للشعرية العربية” رابطا فيه بين مفهوم الجمهور ومفهوم الشعر والجمهور الذي يعنيه هو الجمهور الشبكي الذي أفرزته الثقافة الرقمية في عصر ما بعد الحداثة الشعرية وفي نظره ” أن ما يعتبره الجمهور الشبكي شعرا لا يتطابق بالضرورة مع مفهوم قصيدة النثر كما تطرحه المؤسسة النقدية الأكاديمية ” (26).
ويعلل ذلك بأن ” الشعر الأكثر تداولا يجيئ معظمه من خارج الخريطة التي رسمت حدودها المؤسسة النقدية والأكاديمية ” (27) داعيا إلى تجديد الخطاب النقدي في أفق ما بعد قصيدة النثر.
بقدر ما أريد أن أنبه بان الوصية الواردة في نصها الشعري “كامو وهران تدير ظهرها لي” يمكن أن تقرأ منفصلة عن القصيدة الواردة فيها بإعتبارها نصا آخر يمثل مفصلية أخرى هي مفصلية ما يعد القصيدة كوصية آخيرة يمكن الإشتغال عليها في نص قادم أكثر حجما وعمقا وأكثر سعة من حيث الفضاء الشعري الحامل لنص الوصية بوصفه نص مابعد (جسد الأهزوجة” وقد تجيء على هيئة سيرة شعرية أو سيرة روائية مع العلم الشاعرة نفسها تعلن أنها تؤجل بكاءها عن وهران وتؤجل عذب النحيب بما يعني أن في الأفق شيئا لم يقل أو أن القصيدة لم تسعه وبهذا المعنى تتوسل خيرة بلقصير بالوصية كرغبة اخيرة من وهرانها “.
وهران أوصيك بجثماني خيرا إن تعذر اللقاء / أوصيك بأن لا تذهبي خسارة كما قالت الأغنيات / أوصيك بالوهرانيين الرابضين في مدخل الآه وبحنجرة أحمد وهبي / أوصيك بالنعوش التي تصلك من الإغتراب وقلبي وهو يشحذ ما تبقى من أنفاسي ” (28) .
………………………..
إحالات
01” السرد النسوي الثقافة الأبوية الهوية الأنثوية والجسد – عبد الله إبراهيم ص 05 المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت الطبعة الأولى 2011
02” الكينونة والشاشة كيف يغير الرقمي الإدراك – ستيفان فيال ص 221 ترجمة إدريس كثير – هيئة البحرين للثقافة والآثار المنامة الطبعة الأولى 2018
03” نفس المصدر ص 220
04” نفس المصدر ص 07
05” سادنات القمر سردانية النص الشعري الأنثوي – محمد العباس ص 57 / 58 دار الإنتشار العربي – الطبعة الأولى بيروت 2003
06” مقدمة في سوسيولوجيا الجسد تقاطع الثقافات وتنازع الهويات – محمد الحامدي مجلة إضافات / المجلة العربية لعلم الإجتماع ص 112 العدد 40 أكتوبر 2017 / منشورات مركز دراسات الوحدة العربية
07” نفس المصدر ص 112
08” النص والجسد والتأويل – فريد الزاهي – ص 25 دار إفريقيا الشرق الدار البيضاء 2003
09” جسد الأهزوجة – خيرة بلقصير ص 05 مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع محافظة بابل العراق – الطبعة الأولى 2020
10” نفس المصدر ص 117
11” التاريخانية الجديدة والنقد الثقافي لويس تايسن – ترجمة لحسن أحمامة ضمن كتاب التاريخانية الجديدة والأدب المكز الثقافي للكتاب الدار البيضاء 2018 ص 143
12) ثقافة الوهم مقاربات حول المرأة والجسد واللغة – عبد الله محمد الغذامي ص 72 المركزالثقافي العربي بيروت / الدار البيضاء الطبعة الثانية 2000
13” نساء يصيغة المفرد – جوليا كريستيفا – ترجمة فؤاد أعراب – مؤسسة مؤمنون بلا حدود قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية 18 يوليو 2018 ص 10
14) النوسطالجيا الكولونيالية وأعطاب الذاكرة في رواية “فضل الليل على النهار” توفيق شابو – مجلة اللغة الوظيفية العدد 02 المجلد 05 ص 41/ 42 / جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف / الجزائر
15) الهجرة إلى الإنسانية – فتحي المسكيني ص 15 منشورات ضفاف ودار الأمان ومنشورات الإختلاف الجزائر / الرباط / بيروت الطبعة الأولى 2016
16” الألبوم الكولونيالي والحنينية الجديدة – عبد القادر رابحي جريدة النصر الجزائرية 29 / 09 / 2020
17” جسد الأهزوجة ص 36
18) نحو شعرية للثقافة – ستيفن غرينبلات – ص 40 ضمن كتاب التاريخانية الجديدة والأدب ترجمة لحسن حمامة المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء الطبعة الأولى 2018
19” جسد الأهزوجة ص 06
20) ما بعد المسألة الأوربية كورونا كمفصلية ثقافية للذات العربية – حاتم الجوهري المجلة العربية للثقافة العدد 26 تونس 2020 ص 186
21) نفس المصدر ص 187
22) جسد الأهزوجة ص 124
23” المختلف والمؤتلف تمثيلات المركز الغربي والهامش العربي وشيطنة الآخر خلدون الشمعة ص 254 دار المتوسط ميلانو إيطاليا 2019
24” ما بعد الإنسان – عائشة الحضيري ضمن كتاب جماعي خطاب الما بعد في إستنفاذ أو تعديل المشروعات الفلسفية ص 25 إعداد الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة منشورات ضفاف والإختلاف ودار الأمان الجزائر والرباط وبيروت الطبعة الأولى 2018
25” شعرية ما بعد القصيدة بين إشكالية التسمية وإشكالية القراءة زهيرة بولفوس مجلة علوم اللغة العربية وآدابها جامعة الوادي ص 40/ 41 العدد الخامس 2013
26” مابعد قصيدة النثر نحو خطاب جديد للشعرية العربية سيد عبد الله السيسي ص 273 المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت الطبعة الأولى 2016
27” نفس المصدر ص 273
28” جسد الأهزوجة ص 41