أحمد يحيى
يعتبر المخرج المصري “يوسف شاهين” من رواد صناعة السينما في مصر والوطن العربي، كما يعتبر من أوائل المخرجين الذين مثلوا مصر في المهرجانات العالمية أكثر من مرة، وترشحوا وحصدوا جوائز بها. ويكمن السر في سحر أفلام يوسف شاهين ليس فقط في مهارة صنعته كمخرج، ولكن في بيئته التي تربي ونشأ بها، وفي المدينة التي لها الفضل الأول عليه في تكوين ثقافته وحياته، ثم يأتي في المقام الثاني حبه وشغفه منذ الصغر في دراسة الفن: التمثيل والإخراج، منه على وجه الخصوص.
وما يثبت حبه لذلك الفن الساحر ليس فقط ما عرضه من خلال الأفلام التي حكي فيها سيرته الذاتية بشكل مبهر، ولكن أيضًا في لقاءاته الصحفية، والتليفزيونية التي تحدث فيها عن حبه للسينما، وللإسكندرية ولـ “السلام” بوجه عام، كما ذُكِر في أحد اللقاءات.
كما أن يوسف شاهين يعتبر –إن لم يكن الأوحد-من المخرجين الذين أدخلوا إلى عالم الصناعة المصرية بشكل عام فكرة السلسلة المترابطة للفيلم، والتي تعرض قصة واحدة بتطوراتها الزمنية دون التطرق لقصص أخرى، على أكثر من فيلم كرباعيته الشهيرة التي تحكي سيرته الذاتية حاملة داخلها اسم مستعار له “يحيى شكري مراد”، وحاملة اسم مدينته في ثلاثة منها. وفي هذا المقال سنرى كيف أجاب شاهين على السؤال الذي طرحه في بداية تلك الرباعية من خلال فيلمه الأول فيها “إسكندرية ليه…؟” والذي قد أصدر سنة 1979.
وباعتبار أن يوسف شاهين هو أشهر المخرجين الذين كسروا حواجز عدة، لم يتجرأ أحد على كسرها في الصناعة في مصر (كحرية الجنس مثلًا)، فقد ستطاع من خلال رباعيته أن يمهد لنفسه كسر تلك الحواجز أو المحظورات المجتمعية والإيديولوجية تدريجيًا (دون أن يعرضها مباشرة) ؟، مما جعله بتعرض للعديد من الانتقادات كونه خرج عن المألوف الذي كانت تقدمه السينما المصرية في هذه الآونة، لقد بدأ شاهين حرب التعبير عن هذه الحريات منذ رباعيته، كانت هي مفتاحه الذي ساعده على فك اقفال كل الابواب المغلقة من قبل الرقابة. لم تكن رباعية شاهين مجرد عالم سينمائي مختلفًا في الصنع ودقيقًا في التفاصيل، بل وكانت نوعًا مختلفًا كان شاهين يجرب فيه كل ما يريد بأريحية تامة.
ففي إسكندرية ليه شاهدنا كيف جمع بين الفيلم الدرامي والوثائقي في آن واحد، مستخدمًا كل ما استطاع من وثائقيات الحرب العالمية الثانية للإسكندرية ومزجها داخل قصة الفيلم ببراعة وكأنها جزء حقيقي منها.
وفي حدوتة مصرية قدم شاهين اختلافًا جديدًا حين جعل كل دراما الفيلم وصراعات شخصياتها تدور في قلب يحيى الذي تعرض لأزمة قلبية حادة جعلته يخضع لإجراء عملية في القلب، ومن هنا تنطلق الأحداث، تتفجر الذكريات في رأس يحيى ونراها في قلبه داخل تصميم كان جديدًا وغير مألوف -كطبيعة حال مخترعه- بالنسبة لما قد قدم في السينما حينها. في هذا الفيلم استطاع شاهين أن يثبت من خلال تجربته أن السينما ليس فقط صورة وحوار وصوت، بل عالم بأكلمه كله تفاصيل، وكل شيء به مرتبط ببعضه البعض ويصب في مصلحة فكرة السيناريو ودراماه بل ويثقلها أيضًا.
وفي إسكندرية كمان وكمان نرى من خلالها ثورية شاهين على ما كان يحدث في المجتمع الفني آنذاك، إنه الفيلم الذي صُنع لكي يرد شاهين على كل منتقديه، كما أنه كان المساحة الآمنة لشاهين ليجرب فيها الاستعراضات والغناء بعد مدة طويلة، فالفيلم يعتبر -في نظري- فيلم غنائي من الدرجة الأولى، به مزيج هائل بين الحوار التقليدي والحوار الغنائي وكليهما يوجه يصب في لهجة الفيلم الثورية ولغته الاعتراضية على كل ما كان يحدث للممثلين حينذاك. هذا بالإضافة إلى ما فعله شاهين في عرض جزئًا بسيطًا من تاريخ الإسكندرية بشكل رأيت فيه بعضًا من السوريالية، واتباع النهج البارودي كنوع من أنواع السخرية متقنة الصنع وذكية التوظيف.
وفي الإسكندرية نيويورك هنا ينهي شاهين رحلة يحيى، بيحيى آخر، ويتطرق بحرية في أبعاد ذاكرته لنرى كيف عاش في الولايات المتحدة الأمريكية، فهو عودة أو ربما نقول Sequel لأحداث إسكندرية ليه، وهذا اختلاف في حد ذاته لتطبيق هذه الخاصية في السرد القصصي للفيلمين وللرباعية ككل. حمل هذا الفيلم روح شاهين الثورية السياسية وظهر هذا بشكل واضح، فمن خلاله أخبر شاهين العالم كله وبوضوح وجه اعتراضه على سياسة أمريكا وعلى ما كانت تفعله في العراق آنذاك، كما حمل جزئًا من روحه الحالمة المحبة للفنون بشكل عام، كان غنيًا بذكرياته وبعضًا من أحلامه العاطفية -الغير محققه- في الولايات الأمريكية حينما كان يدرس في باسادينا.
لم يخلُ أي فيلم من الرباعية من الإسكندرية، إما اسمًا أو حتى رمزًا، فالبحر بالنسبة لشاهين هو الإسكندرية، ولهذا كان شاهين ذكيًا في توظيف استخدامه للبحر في صور مختلفة، تعبر كل منها عن حالة كل فيلم، وعن حالة بطله في كل مرحلة من مراحل عمره، فنجد البحر ينتقل من حالة السكون للهياج في إسكندرية ليه، وفي حالة هدوء ما قبل العاصفة في حدوتة مصرية، وفي حالة مضطربة في إسكندرية كمان وكمان، وفي إسكندرية نيويورك لم يُذكر البحر في صورة شاهين (يحيى شكري) وكأنه يريد الاعتراف بأن حالة الاغتراب الذي كان يشعر بها حين كان في أمريكا هي نفسها التي كانت تلازمه أثناء تذكره لقصته مع يحيى ابنه الغير شرعي حسب قصة الفيلم. كأنه يريد أن يقول للجمهور أنه أصبح لا يعرف من هو. ربما إن دققنا في تفاصيل أفلام شاهين كلها لاستطعنا تحليل شخصيته، ومعرفة من هو فعلاً!
فرباعية شاهين هي عالم منفرد بذاته، وتاريخ غني مليء بكل الأشكال الفنية، والأيدولوجيات الفكرية، وكذلك الطبقات المجتمعية، التي لم يكتفِ بعرضها لمصر فقط بل وللغرب أيضًا في فيلمين: إسكندرية ليه وإسكندرية نيويورك. وبما أنها هي أشهر سلسلة أفلام ثلاثية –إن استثنينا فيلم حدوته مصرية-تتحدث عن الإسكندرية بوجه عام وعن رحلة في عالم السينما والصناعة بشكل خاص، إذن فيجب علينا مقارنتها بأشكال أخرى تشبه لها في الصناعات الأجنبية مثل: ثلاثية (BRD) للمخرج الألماني راينر فاسبيندر، وثلاثية الألوان الشهيرة للمخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي.
وما يجمع تلك الثلاثيات بثلاثية شاهين هو التحدث عن المدينة نفسها، ففاسبيندر تحدث في الثلاثية الخاصة به عن ألمانيا المتحدة عن طريق قصص ثلاث نساء مختلفة، وكيشلوفسكي تحدث عن فرنسا وعن المُثل الثلاثة لشعارها (الحرية، المساواة، الأخوة). وشاهين تحدث في (إسكندرية ليه، كمان وكمان، نيويورك) –بخلاف الفن والسينما-عن المُثُل والحريات، وكذلك الطبقات، والآراء السياسية المختلفة، وكذلك عن المدينة نفسها! أي أنه جمع بين ثلاثية كل من فاسبيندر وكيشلوفسكي في عمله.
إذن فتلك الأعمال واجب مقارنتها ببعضها البعض كـ (عمل كُلي/ ثلاثية) لنعرف كم كان شاهين مخرجًا استثنائيًا، مختلفًا عن باقي مخرجين مصر والوطن العربي! ويستحق عن جدارة أن يكون “شاعر السينما المصرية” و”الأستاذ” كما لقبه الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق، و”هاملت الإسكندراني” كما لقبته المخرجة “منى غندور” في فيلمها الوثائقي الرابع عنه. فإن ما حصده من القاب وجوائز لم فقط لإبداعه الفني في تلك السلسلة وأفلامه عمومًا، بل ولأنه قد تطرق إلى نقاط هامة، لم يسبقه أحد فيها بأشكال عديدة، مستخدمًا فن السينما كما ينبغي أن يكون.
كما أن كل ثلاثية منهم تناقش موضوعًا ما وتعرض كل ما يدور حوله من نقاط وتساؤلات، وتجيب عنها أيضًا، أما الخاصة بشاهين فهي قد بدأت بالسؤال أولًا، ليتم الإجابة عليه من خلال كل فيلم على حِدَة، بأربع إجابات مختلفة:
إسكندرية ليه (لمَ)؟ 1979: لأنها مدينة الآمال، والسلام
حدوته مصرية 1982: لأنها مدينة الماضي، الطفولة والذكريات ورحلة صعود وتحول عاشق سينما إلى صانع
إسكندرية كمان وكمان 1990: لأنها مدينة الحرية، والصداقة، والاستقلال والفن
إسكندرية نيويورك 2004: لأنها هي الحب الذي لا تعوقه المسافات، والحنين الذي لا يترك القلب
فيوسف شاهين –اجتمعت أو اختلفت الآراء عليه-هو أحد الأيقونات الخالدة لصناعة السينما في مصر، وأحد أهم رموز الإسكندرية سواء في الفن بشكل خاص، أو في العموم؛ لذلك يستحق أن يتم تقديمه بطريقه مختلفة، في كل مقال سيكتب عنه، وفي كل عمل (درامي أو وثائقي) سيرثيه ويعرض فنه وجهده، وفي كل عمل أدبي سيتناول سيرته الفنية أو الشخصية.