محمد الفخراني
الخيول مثل الريح.. ليست لأحد.
خيول عارية تجرى على شاطئ بحر، لا يمكنك إلا أن تحب النظر إليها، وتتمنى لو تجرى معهم، هم أرواح حُرَّة عارية، وأنت تتمنى لو تجرى معهم روحك الحُرَّة العارية.
تتفرَّج على الخيول وهى تجرى، فتتساءل أنت إلى أين؟ ماذا يدور فى رأسها؟ فى قلبها؟ إلى أين يا خيول؟
أشعر أن الخيول خُلِقَتْ من نور وجُموح، وشىء ثالث سِرِّى لا أريد أن أعرفه، ولا أريد لأحد أن يعرفه، وأنا مطمئن جدًا أن أحدًا لن يعرفه.
ربما يحدث هذا معك: تشعر أن الخيول تجرى داخل روحك، وفى اللحظة نفسها تجرى أنت داخل روحها، أنك والخيول فى اللحظة نفسها تجريان داخل روح العالم.
كأنها الحرية تجرى أمام عينيك بألوان متعدِّدة.
وكل كائن فى الدنيا، عندما يجرى فإنه يجرى لسببٍ ما، وغَرَضٍ ما، يمكنك بسهولة أن تتوقَّع هذا السبب، تعرفه من طريقة جرى هذا الكائن، ما يظهر فى ملامحه وجسده، رعشته، لهاثه، عينيه، تعرف إنْ كان يهرب من شىء أم يطارد شيئًا، إنْ كان صيَّادًا أم فريسة، دائمًا هناك غرض ما.
لكن الخيول، وحدها الخيول، تجرى لأجل الجرى، لا لشىء إلا الجرى، لذا، فهى تحمل فى تفاصيلها كل تفاصيل جمال الجرى، إنْسَ رشاقة الخطوة، الإيقاع، وغيره، فهذا تجده فى كائنات أخرى بدرجات، لكن الخيول، وحدها الخيول، تُجسِّد معنى الجرى، وأنت تشعر بهذا وتراه فيها على الفور، ولن تراه فى أىّ جرى آخَر مهما كان جماله.
تجرى الخيول فتشعر أنها لن تتوقف، تتمنى أنت ألا تتوقف.
أظَلُّ أفكر أن هناك خيول لن يستطيع أحد أن يلمسها، تَظَلُّ تجرى إلى الأبد، دون توقف، عَصِيَّة على الترويض، أو أيًّا كان اسمه، تجرى فوق الجبال، فى الغابات، على شواطئ البحار، فى أراض مفتوحة، وداخل أرواح حُرَّة.
الخيول أجمل مَنْ يجرى على الأرض، أجمل مَنْ يجرى فى العالم، لأنهم يجرون لأجل الجرى، بلا غرض، بلا رغبة فى صيد، أو مطاردة، أو هرب، ليس لتُثْبِتَ أنها الأسرع أو الأجمل، لا يعنيها غير الجرى.
يُهيَّأ لى أن فكرة الجَرْى، فِعْلَ الجَرْى سيختفى من العالم، ويضيع من ذاكرة الأرض والبشر أنفسهم، من ذاكرتهم الجسدية، لو توقفَتْ الخيول عن الجرى، أعتبر أن أىّ كائن فى أىّ مكان ما يزال قادرًا على الجرى فقط لأن حصانًا ما فى مكان ما يزال يجرى.
تجرى الخيول فتلتفِتُ إليها الأشجار والجبال والمياه والريح، وتتمنى أن تجرى معها.
لطالما تمَنَّيْتُ أن لو كانت الخيول غير قابلة للترويض، أن تظَلَّ حُرَّة للأبد، ولكن عزائى، ما أعتبره عزاء، أن ما يحدث بينها وبين البشر ليس ترويضًا أو.. لا أعرف، أيًّا ما كان اسمه، وإنما علاقة أراها بالأساس كَرَم شخصى من الخيول، وقبول لطلب صداقة يُقدِّمه لها الإنسان، الخيول هى مَنْ يوافق على هذه العلاقة.
عندما تجرى الخيول معًا فى صُحْبَة، حُرَّة، بمزاجها ورغبتها، يمكنك أن تلاحظ بسهولة أنها لا تتنافس، وإنما تُشَكِّل تكوينًا جماليًّا، هى واعية بذلك وتتعمُّده، نادرًا ما يتخطَّىَ أحدها الآخر، ويحدث هذا بشكل تدريجى، بتناغم وحساب، كأنه تغيير على مهل داخل هذا التشكيل الجمالى، كأنهم يجرون بقلب واحد، أو أن قلوبهم جميعًا تتصل ببعضها بعضًا، وهذا حقيقى، فى الجرى الحُرّ للخيول يحدث كل شىء لأجل الجمال، لأجل الجرى.
الحصان هو مَنْ يقبل طلب الصداقة الذى يُقدِّمه له البشرى، هو مَنْ يسمح بهذه المساحة، بأن يقترب البشرى لهذه الدرجة، لكنى ما زلتُ أتمنى لو لم تكن الخيول قابلة للترويض أبدًا، عزائى، ما أقول أنه عزاء، أن ما يحدث ليس ترويضًا.. أو أيًّا كان.. وإنما طلب صداقة (أعرف أنى تكلَّمْتُ عن هذا فى فقرة سابقة، أُكررها لتعرف أن الفكرة مهمة جدًا لى، وفيما يلى تفصيل أكثر).
الحصان لا يمكن كَسْبَ صداقته بإغوائه أو تخويفه، بتجويعه أو إطعامه، الحصان أرقى من هذا، وأكبر، لديه كبريائه، أنت البشرى عليك أن تُقدِّم طلب الصداقة للحصان، وتحتاج أن تُثبِتَ له أنك لستَ لئيمًا أو مخادعًا أو شرير القلب أو الضمير، لأنك حتى وإن خدَعْتَه فإنه قادر على أن ينهى العلاقة، ويلغى طلبك، ويسحب المساحة التى أعطاها لك، لا بد أن تُثْبِت للحصان فى كل وقت وطوال الوقت أنك جدير بصداقته.
يمكنك أن تتخيَّل حصانًا حُرًا، لم يُمَسّ، يجرى الآن فى مكان ما بالعالم، أقول لك أن قلب الأرض مُعَلَّق بخطوات هذا الحصان، وطالما قلب الأرض يسمع هذه الخطوات فإنه يستمر فى النبض، لا شىء يُفرِح قلب الأرض مثل حصان يجرى (والخطوات الأولى لطفل، لهذا قصة أخرى).
تَعرف الأرض أن وظيفتها الأولى، وأهميتها القصوى، هى أن تمشى فيها الكائنات، هذا أكثر أهمية للأرض، وأكثر جمالًا، من أن تَنْبُت فيها الأشجار، أو تجرى فيها الأنهار، أو غيره، ولو أن هذا يبدو غريبًا لك، فليس عليك إلا أن تتخيَّل الأرض فى أجمل صورة لها من أشجار وأنهار.. ومبانٍ مش عارف إيه.. كل ما يعجبك، تخيَّل فى الوقت نفسه، مع كل ما يعجبك، أن لا أحد يمشى فى الأرض، ولا كائن واحد، هل ترى جدوى أو جمال من كل ما تخيَّلته؟ قُلْها صريحة.. لا جدوى.
والآن.. الخيول، كما يمكننا أن نتوقَّع، وهذا مُؤكَّد، أحد أكثر الكائنات التى تمشى فى الأرض، ما يعنى أنها أحد أكثر الكائنات التى تمنح الأرض جمالها وفرحها وجدواها.
الخيول ليست لأحد، علاقتها مع البشر نِديَّة، لا أحد يمتلكها، وأنت، من المهم أن تعرف أنك مع أول خطأ لن تجد الحصان، مع أول خطأ، أنْ تجرح.. أقصد تخدش، تقترب، من كرامته، كبريائه، سيكون رَدّ فِعْله قويًا، هذا المخلوق الكريم العزيز الجميل، لا يمكن التعامل معه إلا من خلال هذه الثلاث: الكرم والجمال وعِزِّة النفس، لا بد أن يشعر باعتزازك به، هو أكبر من أىّ مقابل، لا يمكن التعامل معه على أنه بضاعة أو مِلْكِيَّة، ما بينكما صداقة، وأنت، الإنسان، البشرى، لا بد أن تكون فى أرقى وأذكى حالاتك الإنسانية معه، ولا تنسَ أنك مَنْ تقدَّمْتَ للحصان بطلب صداقة، ولا تنسَ أنه سيحتاج وقتًا كى يوافق على طلبك، وبعد أن يَقبل لا تنسَ أنك ستظلُّ طوال الوقت تحت الاختبار، لا تلمس أيًّا من هذه الخطوط الثلاثة: عِزَّة نفسه، كبريائه، كرامته، وفوق كل هذا: حريته.. طبعًا حريته.
لكن.. بعد التفكير للحظة، أعتقد أن هناك شىء تجرى الخيول لأجله، لكنه أعلى من الأسباب والغَرَض، شىء تعرفه الخيول وحدها، ويظَلُّ فوق السبب وفوق الغرض.
صوت وقْع أقدام الخيول أحد أجمل الأصوات فى العالم، وأكثرها حياة، يمكنك أن تنام على إيقاعها، صوتها، يمكنها أن تؤنسك، فتنام على سماعها، فى الوقت نفسه يمكنها أن تكون سبَبًا لحماسك وتَدَفُّق الحياة فيك وحواليك.
الحصان، هذا المخلوق الحُرّ المُسالم، الروح العَذْبَة الجَمُوح، الصديق المخلص، القنوع، غير المُتَطَلِّب، يعطيك لآخر قطرة فى روحه، لن يخذلك، لن يتخلَّى عنك.
أحد المخلوقات التى يتمنى الإنسان أن تفتح له طريقًا إلى روحها، أن يكون له طريق إلى هذه الروح الحُرَّة، المسالمة، الوَثَّابة.
إحساسى الشخصى تجاه الخيول أنها خَلْقٌ خاص، مملكة وحدها بين المخلوقات:Horse Kingdom .
والخيول، أىّ حصان، يتمنى أن يموت بينما يجرى، لا شىء يُسعده أكثر من أن يموت بالجرى، يتمنى الحصان أن تكون آخر صورة عنه لمن عرفوه أنه يجرى، وآخِر صورة له عن نفسه أنه يجرى، يتمنى أن يراه الآخرون وهو يدخل موته جريًا.
أُحب أن أجرى مع الخيول، حُرًا، أعطش معها المدى، أشرب معها الجُموح، أَعْبُرُ معها الماء والهواء والنور، أتبادل قلبى مع كل واحد منهم، ثم نجرى كلنا بقلب واحد، أجرى مع الخيول لأجل لا شىء، ولأجل شىء هو فوق السبب والغَرَض، أعرفه معها.. وأجرى.. نجرى معًا..