محمود بركة
تنصّل العقل من كابوس بداية يوم الصرخة، بتذكر قصيدة أمل دنقل “مقتل القمر” يسير الموت في موسم حصاده الحاضر والأسباب كثيرة “كوجع الحياة ” القمر الرحّالة هذا المدار الذي يختبئ في ظهيرة مخزن أسراره يبحث عن أبواب السيدة راء والطريق إلى دير غسانة حيث اشترطت عليه الجغرافيا السياسية (خرائط ) المسخرة القاسية فاَوتها الكتابة في سهوب الوطن المفقود بقوة “الإكراه” وعليه تقول الأم راء “لو كنت امرأة أو كنت رجلاً تعرف نبض الحياة وتحيط بها على طريق الأمهات لعرفت لماذا المقاومة، ولماذا الصمود، ولماذا الشعوب؟ ولماذا الأوطان تلك الأرحام الكبيرة التي تُخلّقُنا في حشاها”
في هذا التكعيب يجدف مريد البرغوثي ليكمل تلاؤم معنى رأيت رام الله ومتعَبة زهر الرمّان، حين استيقظ ليكمل الحٌلم، واطلق طائر الرمل بين المدن المرئية ليكتب وصايا الشعر ويلقيه في مذياع منفاه ويلتقي بالقراء الجدد أصدقاء محطات سفر الأماكن لا استقرار الغرباء والأرض المسلوبة، يهمس ما بعد قصيدته القصيرة “فضاءات” على مسرح البالون بالقاهرة (1990)، إلى فضاءات مسارات الأسلاك الإلكترونية “لمحاولة العيش في حدود وطن الكلمات وصليب يحصد الذكريات” خلق أجيالاً عليها أن تحب حبيباً مجهولاً، نائياً، محاطاً بالحرّاس والأسوار والرؤوس النووية والرعب الأملس منهجية وجدانية يضعها مريد لمحاولة محاورة الوعي في مجرى سوائل نهر المعرفة السريع والمشاعر الصناعي .
جاء مريد إلى مصر باحثاً قاصداً كلية الأداب – جامعة القاهرة ، وهناك رضوى الصبا والطريق والحجر الدافئ، وهناك نمّو الأصدقاء في بستان العمر الجميل وهنا الشهادة الجامعية وجائزة نجيب محفوظ على جدران مسافرة، يحمل في حقيبته الوقت والمكتبة والنباتات وذكرياته ويرحل إلى بيوت كثيرة ، ومدن تقرر إقامته وتوقيت المغادرة، في ساحات المطارات يستقبل ويودع الأصدقاء وفي يديه رضواه الكاتبة والعاشقة، الناشئة منذ الطفولة وعيناها على الطنطورية وغرناطة، في صيد ذاكرة مرحى الأصدقاء تقول الأم راء، جاء إدوارد سعيد من عالم المعذبين في الأرض إلى القاهرة للقاء مريد وعبد العظيم أنيس ومحمود العالم وإسماعيل صبري وجلال أمين وجمال الغيطاني وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم، واليوم مرثية الأصدقاء ترتفع كجبال الصحراء المهجورة في منفى اللقاءات.
وصل مريد إلى بودابست أواخر 1978 ليجتمع بمن ترك أتباعاً حسين البرغوثي لأول مرة، يتبع الشاعر الراحل أثر الضوء الأزرق ” كان على الموت ان لا يعم ويشع فينا إلى هذا الحد حتى يكون موتك واضحاً أيها الشاعر وحتى يسقط على غيابك ما يليق به من ضوء” هكذا تولد اللحظة لتصل لطرفَي بوصلة الميلاد والرحلة والموت “اللحظة الناري ” التي تنشق من أجساد الرفقاء لا تنتظر من يكتبها لأن المستحيل يأتي بقوة المنطق في اللامنطق لمواسم النهايات، بكاؤك جدار مشروخ لتراجيديات الغرق والصرخة، والشعر التّشَفّي بعد رحلة تخرج من بطون الأرض قسوة الحنين والفقد، يا سيد المنافي والقلب شطر مشتت يبحث بين الأوراق ليلمس ما تبقى منك هنا وهناك والاَن وبعد، اخرجت لنا “أجنحة المقهورين” لنفتح أوسع الأبواب لدخول السيدة، الكتاب الأخير كالوصية الثَكلى وأنت تغادر دون الحقيبة وتذكرة مرور السفر إلى الوطن في سجن نايات الزمن، وحجر العائلة يسأل والسؤال تهمة الوقت الممنوع من التداول، كيف رأيت رام الله في منام يومك الأول الطويل؟ كيف رأيت الحُلم؟ كيف رأيتنا؟ كيف سمعت وقرأت السيدة رضوى عاشور؟ أيتها الأسئلة لا تنكسري من الاستمرار مثلما كان انكسارُنا قبل الانبعاث قبل أن نفتح النوافذ ليدخل مريد وندخل معه نفق السرمد الأبدي لنستيقظ في امتلاء الجروح ونقرأ كما قرأ أهل الأجنحة الصاعدة سالف الأيام “ولم يكونوا خائفين”، ولمريد أجنحة من ثلاثون بيت للمرور بين الغابة والحديقة ووراء السماء والهواء ولمريد جناح الصعود والصرخة ، رحل مريد بلا وداع ورحلنا نتبع ما هوأثقل من مريد والشجرة راء.