محمود فهمى
أقف أمام نوافذ العرض، نوافذ عرض الأحذية فقط، أنتقل من متجر إلى آخر دون نية للشراء بل دون قدرة على ذلك، أقف أمام أحد المحال تتنقل عينىّ بين الأحذية، أقول يعجبني هذا الحذاء الذى هناك في نهاية نافذة العرض.
يقف شاب وفتاة خلفي، تسأله:
-أتريد الحذاء برباط أم بدونه؟
يقول إنه يعجبه هذا، ويشير بإصبعه، تقول: أعتقد أن هذا أفضل، يمسك بيدها ويدخلان المحل للشراء، أما أنا فأواصل المشاهدة، المشاهدة فقط، أنظر إلى قدمىّ ثم أعاود النظر إلى النافذة وأنا أعرف أن لا متجرا في هذا العالم سيتوفر لديه مقاس قدمىّ الكبيرتين.
فى الماضي كنت أقفز فرحًا وأجري بخفة، الأن لا أستطيع أن أجري أو أمشي بشكل طبيعي، قدماي أصبحتا ثقيلتين أنقلهما ببطء، أمشي فوق الرصيف المكتظ بالمارة أدوس دون قصد مني قدم إحدى السيدات، تنظر إلىّ في غضب تقول: ألا ترى؟
أرد معتذرا: أنا آسف، لم أقصد.
أواصل السير إلى محل آخر محاولاً ألا أصدم أو أدوس قدم أحد حتى لا أشاهد مرة أخرى تلك النظرة الغاضبة أو أسمع عبارة كالتي قالتها لي تلك السيدة.
فى الماضي كانت قدمىّ عاديتين ألعب بهما الكرة مع أصدقائي، أجري، أقفز، أقود دراجتي، دراجتي التى ركنتها فى ركن المهملات في البيت حتى صدئت بعد ما حدث.
كان يومًا من أيام الشتاء حين استيقظت لأذهب إلى المدرسة، كنت فى السادسة عشر، لم ألحظ أن قدمىّ قد ازداد حجمهما إلا بعد أن انتهيت من ارتداء ملابسى، ووضعت قدمي اليمنى فى الحذاء فدخلت بصعوبة، قلتُ ربما البرد أثّر على حالتها، ولكن مع السير ستعود لحالتها الطبيعية، وضعت قدمي الأخرى لكنها دخلت أيضا بصعوبة، أتذكرُ هذا اليوم كان يومًا شاقًا سرت فيه بصعوبة وأنا أحس بألم رهيب وضغط على أصابع قدمىّ يعتصر روحي معه.
حين عدت وضعت أمي قدمىّ في ماء ساخن ودلكتهما وقالت: ستكون بخير إن شاء الله.
في اليوم التالي لم أستطع أن أدخل قدمى ّداخل الحذاء فقد ازداد حجمهما أكثر.
لم أذهب إلى المدرسة لعدة أيام، قدماي انتفختا بشكل كبير، قال الأطباء إن حالتى نادرة لا علاج لها وعليّ أن أتعايش مع هذا الوضع، ذهبت بي أمي إلى صانع أحذية حيث فصل لي حذاء يشبه الكيس الجلدى، تصير قدماي فيه على شكل كرتين كبيرتين، لا توجد إمكانية لتغيير شكل الحذاء هو فقط كيس جلدي تختفى بداخله قدمىّ الكبيرتين.
تقف إلى جواري سيدة ممسكة بيد ابنها الصغير، تمر عينيها فوق أحذية الأطفال المصفوفة فى جانب من نافذة العرض، تختار أرخص الاحذية سعرًا وتسأل البائع الذى يقف فى مدخل المحل:
هل يوجد منه مقاس 29؟
-لا.
يشير الطفل إلى حذاء آخر يقول: أنا عاوز ده.
تقول له أمه هذا غالي الثمن وتمسك بيده وتحاول جذبه فيسير معها وهو يقول: لا أنا عاوز ده.
أتذكرني طفلاً وديعًا ممسكًا بيد أمي، نتجول بين المحال لتشترى حذاء لي، نعم اشتريت من هذا المحل حذاء بني اللون اختارته لي أمي، كانت له لمعة مبهجة، كنت فى السادسة تقريبًا، ألبس الحذاء وأذهب إلى أمي وهي تعد الفطور لتربطه لي على شكل الفيونكة التي لا أجيد صنعها، تترك أمي ما في يدها وتمسحها بفوطة معلقة في أحد الأركان وتجلسنى فوق المقعد وتنحنى لتربط الحذاء لي وهي تبتسم.
نظرتُ إلى الحذاء الذى اختاره الولد كان لونه بنيًا له لمعة مبهجة يشبه كثيرًا ذلك الحذاء الذى اشترته لى أمى ذات يوم شتوى بعيد، نظرتُ إلى السيدة وطفلها، لم يكونا قد ابتعدا، دخلت مسرعا إلى المحل، طلبت مقاس 29، ارتفع صوت البائع بموديل الحذاء ومقاسه ليطلب من عامل المخزن إحضاره، تأخر قليلًاـ توترت أعصابي، خرجت لمتابعة السيدة وطفلها، رأيتهما يدخلان شارع جانبي، ارتفع صوتي مطالبًا البائع بإحضار الحذاء بسرعة، دفعت الثمن، وأمسكت بالشنطة البلاستيكية وسرت بأقصى ما استطعت من سرعة، على الرغم من الآلام التي أحس بها فى قدمىّ، وجدتهما يقفان أمام أحد المحال، تقدمت إلى الطفل أخرجت فردة حذاء وقلت له: هل هذا ما كنت تريده؟
علت وجهه ابتسامة فرح كبيرة، رفضت أمه أن يأخذه مني، لكنني رجوتها من أجله، أخذته مني وهي تشكرني.
حين عبرت الطريق إلى الجانب الآخر نظرت إلى قدمىّ، لم أرهما كبيرتين كما هما، بل رأيت قدمين صغيرتين تختفيان داخل حذاء بني له لمعة مبهجة.