حسين عبد الرحيم
ـ صباح الخير يا صومالي.
كأنها المرة الأولى التى أسمع فيها اسمي هكذا، وكانت هي المرة الأولي أيضاً الذي رأيت فيها العم محمد شاهين الفطاطري وهو يقف أمام الفرن الكبير الذي يملأ نصف محل الحلويات وقد امتلأ وجهه بالبهجة والحبور وأنا قادم من دورة المياه بشارع الحميدي.
فطاطري شاهين يتوسط ناصية الحميدي وطولون، وأنا أنظر إلى السماء الكابية في أول فصل الشتاء وسقوط قطرات مطر قليلة على بورسعيد، دقائق وزادت الأمطار، بحثت عن مكان يأويني، لا أعي قِبلة ولا وجهة.
من أنا؟!!
أين أبي.
من هو أبي.
أطل على شوارع المدينة في أول العرب، بداية من مقهى الضاحي، صورة الجد ضاحي سلطان رشوان وهو يسلم على الملك فاروق وقد نهض من فوق كرسيه مرتديا العباءة الجوخ وعمامة سوداء تدور حول رأسه النحيلة وعينيه الثاقبتين وطوله الفارع وحذائه الكرب الأسود الهاف بوت، ينظر إلى فاروق بهيبة وخشية في الصورة الأبيض × أسود المعلقة على الجدران، البرواز كتب أسفله بخط كوفي بارز “ديسمبر 1950”.
أمشي في أول العرب بامتداد شارع الحميدي واصلا لشارع محمد علي، كان صوت الوشيش القادم من اتجاه مقهى الشكربالي يمنح شعورا بالدفء، يدفعني للمشي وأنا أنظر إلى السماء الملبدة بالغيوم.
قبل الفجر بدقائق قليلة، كانت الكنائس ساكنة ومباني ثكنات العاملين بهيئة قناة السويس، الجو ساكن إلا من صفير رياح، عربات قليلة تمر مسرعة في الدقائق الأخيرة قبل طلوع النهار، جسدي يرتعش مرتديا بلوفر وتربروف على فانلة قطنية، أرمق المقهي وأحلم بالنوم وأنا أتحسس شعري المبتل، شعري الأكرت كما تقول الحاجة عواطف زوجة العربي الضاحي، الذي أرسل جلال الجاولي خلفي ليبحث عني بعدما طفت بالشوارع القريبة من أول العرب وبعدما أتوا له بكرسيه الخوص والطقطوقة النحاسية ليجلس أمام مدخل المقهى من ناحية طولون مستطلعا الشارع، في الخامسة والنصف كان قد أمر صالح بتشغيل القرآن الكريم بعدما أبرز له شريطا جديدا وقال لصالح:
ـ دي كانت تلاوة في أمريكا أو في حلب، مش فاكر، أحضرها لي العمدة أبو إسماعيل بالأمس.
ـ شغل ياصالح.
لحقني جلال الجاولي بعد ركضه خلفي لأكثر من نصف ساعة، آمراً إياي بالحضور لملاقاة المعلم ضاحي الصغير عربي،
زادت الأمطار فعدت أرتجف، وأنا المنصت لصوت عم محمد الفطاطري،
ـ يا حسين، اجمد يا فتى.
ويضحك فأهرش شعري، ليضيف:
ـ هاهي خصلات شعرك المفلفل قد استوت وبات شعرك يلمع.
ضحكنا سويا وصرت أنظر إلى أكوام البطيخ المتراصة في أشكال هرمية بواجهة مقهى الراحل الضاحي سلطان رشوان، سبعة أهرامات عالية بطول المتر ونصف، ثلاثة طولية بواجهة الحميدي، واثنتان على الأطراف حتى بانت فرشة البطيخ كخن عتيق يتوسط فضاءات الأهرامات السبعة، فرشة من القش، كليم بني من صوف الماعز، المطر يهطل غزيرا وأنا أنتظر عم عربي الذي قال لصالح:
ـ حضر له شاي بالحليب.
كان شاهين قد وضع أمامي فطيرة صغيرة بالسكر، ربت على كتفي وأنا أجلس أمام ترابيزة خشبية كبيرة، تتوسط صحن المقهي، بدت ملامحه مكسوه بالسماحة حتى وهو يتفحصني ناظرا هيئتي بملابسي، يرقب حركاتي وإيماءاتي.
كدت أنتهي من التهام الفطيرة، راقبني، كوب الشاي باللبن فى يدي اليسرى آكل وارتجف فيقول لي:
ـ تناول فطارك بمهل وتعال.
انتهيت من أكل الفطيرة الكبيرة، أحسست بدفء ما يسري في جسدي، جلت ببصري استطلع المكان من حولي، الفئران تخرج مسرعة من جربين المعلم عبد الغني سلطان، الكابتن أحمد عمار يجلس على كرسيه البامبو، يمسك برشاش بورسعيد، صوب فوهة السلاح لرأس الفأر، تنطلق الطلقة وتصيبه في رأسه فيرقد كسيحا، يضحك ضاحي ويناديني للجلوس بجانبه، وضع صالح كوب الشاي بالحليب على الطقطوقة النحاس أمام عربي، وسألني ابن الضاحي في جدية
ـ هل تجيد القراءة؟!
أصمت للحظات، أقول:
ـ نعم يا معلم.
أروح لأيام بعيدة، لا أذكر منها إلا أطيافا، أحداث ماضية تناوش ذاكرتي ليل نهار، قلت:
ـ ذهبت للمدرسة لأكثر من اثني عشر عاما، وضاعت شهادتي.
صمت، بدأ يتأمل ملامحي، هيئتي، كتفي العريض، طولي الفارع، صدري العريض اللحيم، حدق في بدقة، رمق وجهي الاسمر، تلاقت نظراتنا في صمت وراحة أحسستهما وهو يقول لصالح
ـ شاي سادة ليفيق.
صمت لحظة ثم أكمل:
ـ ذكرتني الحاجة عواطف بالأمس بأنك ذهبت لشراء احتياجات البيت وحدك، هل تعرف المكان جيدا،
ضحكت وشعرت بدفء ما وود فقلت:
ـ تؤمرني يا معلم ضاحي.
قال:
ـ أبلغني الجد عبد الرحيم بأنك من بلدنا، صعيدي ياض، ولا منياوي من مطاي، أم هارب أنت من ثأر قديم ولهذا هربت من بلادك وجئت إلينا للحماية كما سمعت من بعض رواد المقهي.
خرست فضحكت وبكيت بلا دموع، عاد شرودي مع صباح يوم جديد لأجتر الذكريات، كدت أن أبوح بكل ما أحس وأعرف وأجهل فلا أعرف ولم أتبين حقيقتي.
من أنا؟!
وما كل هذا الركام من الغضب والجنون والصمت والطيبة والشفافية والفجور والنار المستعرة تعتليني فأكبح جماح نفسي وهواي وقت أن نظرت إليّ المرأة اللعوب المغناجة، بفجر وشهوة، طافحة كالجمر، تأملت ظهرها المنتصب بشموخ، وركيها، إليتها تحت الكلوت الأسود، تجلى غنج توحة، شهوتها الطليقة، المحجوبة خلف عباءة الشموازيت السماوي
من أين جئت؟
أقولها لنفسي، لا مجيب، تتعدد أهوائي، شياطيني السبعة، لنفس لوامة.
شيطان أنت أم ملاك.
من أبي
من هو الصومالي الحبشي
من جاء بي لهذا المكان ومن هؤلاء،
من جديد، قلت في نفسي.
كل ما أذكره بعض النداءات من غرباء، سكان أول العرب، زبائن المقهي، أولاد الجيار ذوي الوجوه الشقراء، الذين يحبونني كثيرا ونادرا ما يسألونني عن أصلي ومكان أبي، فالأغلبية هاهنا ينعتونني بالصومالي.
ترتج ذاكرتي فأتذكرني، أتذكر وقفتي صوب شمس بيضاء باردة وقد أمسك رجل أسمر يدي، تخايلني هالته كطيف شبحي يراود عقلي الواعي، عقلي الباطن، عقلي السارح في الغد والبارحة،
طويلا كان، يمر يوميا بهذه الشوارع،
في الصبح والمساء، يقال له: عابد الصومالي الحبشي.
أظن أنه كان يشبه الجد محمد عبد الرحيم كثيرا إلا أن الفارق هو الظاهر في لون العينين لكلا منهما، فأبي الغائب أو كما يقولون، المختفي، الهارب، كان أسود البشرة بعيون زرقاء تشبه عينيّ كثيرا ولكنه أكثر طولا من الجد محمد عبد الرحيم والذي رغم ضيق بؤبؤ عينيه إلا أنه كان يرى جيدا كل ما يدور حوله وهذا رغم كبر سنه، دائما ما يخايلني طيفه وهالته وسمرة بشرته في حلم تكرر مرارا لأستيقظ على صوت قطار بعربة واحدة يفارق المحطة فأبقى أنا وحدي.
أطوي عملات ورقية قليلة وأتلفت في حسرة، يمنة ويسرة على صوت الرحيل، دخنة تصعد للسماء في بلاد بعيدة وقت غروب الشمس.
أتى الجد عبد الرحيم والقى التحية على الضاحي وتأملني قائلا:
ـ لماذا لم تأخذ السويتر الجوخ الذي تركته لك بالأمس مع حسن الصعيدي؟
صمتّ وضحك المعلم ضاحي، كان المطر قد توقف وبدت شوارع أول العرب ممتلئة بالماء لابدا في حفر وأخاديد تظهر في نقر وهوات موازية لأرصفة البازلت التي تمتد بفضاءات شارعي الحميدي وطولون والعدل حتى مدخل مقهى “الشكربالي” المطل على ناصية محمد علي.
خرجت من شرودي وأنا أنصت للجد وهو يقول:
ـ ستكون محظوظا برؤية السادات الذي سيأتي بعد أيام كما تخبرنا الإذاعة.
بدأ يتحدث للضاحي مؤكدا أن السادات يحب بورسعيد كثيرا ويضيف:
ـ السادات أمضي شهورا عديدة بالمدينة وقت الاربعينيات واختبأ بأحد البيوت القديمة في نبيل منصور، وهو يعرف ما ضحينا به وما فقدناه من أعمارنا وأعراضنا، ستنعم بورسعيد بالرخاء والعمل الوفير والحياة الهانئة الرغدة.
عدت لشرودي أستعيد ما قاله ضاحي، أتذكر طفلا ما يشبهني يخرج في السادسة صباحا ممسكا بشنطة من الدبلان ومريلة صفراء كالحة، ينظر إلى قطارات مجهولة ذاهبة لبلاد بعيدة طوتها الذاكرة، لم يبق إلا الأصوات في رأسي، صفير وزعيق ودوي سرائن وأنا الواقف وحدي أتذكر مسيو عبد العاطي شعير وأبلة نادية ومس ماجدة السكندرية، يتوقف شريط الصوت وقت أن عبرت جيهان ابنة طنط نازك التي تعودت على مرافقة زينب ودنيا بنت الضاحي ليذهبن سويا لمدرسة بورسعيد الإعدادية.
أرمق ملامحها الفاتنة ونظراتها الحانية وقصة الكاريه ببدلتها الرمادية وحذائها البينك، رمت بالحقيبة السوداء خلف ظهرها وألقت بتحية الصباح على المعلم عربي، نظرت إليّ بروية وخطت، واصلت الخطو تجاه بيت الضاحي، صرت أتذكر ملامح مس ماجدة السكندرية الجميلة وخصلات الكاريه الصفراء وقامتها القصيرة بعض الشيء ووجهها المشرق بطلة العيون الزرقاء وفتنة البشرة الشقراء والخطو بتأن وروية وغنج وثقة وهي تمسك بعصى الخيزران وتردد في الفصل المتسع في صباح شتوي دافئ:
good morning
تقولها بغنج وصوت يجمع مابين الطلاوة والصرامة فنرد عليها بثقة:
good morning miss
أنظر إليها في هيام، في صمت، في وله، أتلصص، أرمق الجوب الأسود اللاميه المفارق للركبة الملساء الضاوية في نهار ساطع، أعاود النظر في خجل، بكثير من الجرأة، وهي تروح وتجيء بين الديسكات في ثبات وبيدها العصا الخيزران تضرب بها على الإستيدج أسفل السبورة وتعاود الكرة، من مقدمة الفصل للخلف قليلا لتتوقف عند الصف الثاني وتنظر إليّ بمكر نسوي، تلصص هي الأخرى، ضاحكة، استدارت تنتصب بقامة شامخة، بهية، عينين نجلاوين، تقف بجانبي فأشتم.
رائحتها، جسدها، عرقها، أرقب نحرها، ذقنها، فمها الصغير المطلي بالروج البينك، أتنفس عطرها، قصتها الكاريه حذائها الأسود اللامع بالإبزين المذهب، تقترب بخفة، تلامس درجي بردائه، تخرج كراسة الإنجليزى، بفرح طفولي، تنظر إلى ما كتبت، تضع كفها الأيمن على رأسي فيصيبني الخرس، تغمرني النشوة والدفء من أصابع قدمى حتى كتفي الذي صار يرتعش، قلبي خرج من جسدى بالهوى، أشتم الجسد الفائر بروية، تلمستها حواسي، روحها، ملامحها، إيقاع الحروف الإنجليزية وهي تخرج من مقدمة لسان أحمر ناري، أهفو لرائحة عطرها، استدارة ساقيها، من فوق الركبة حتى أعلى الخصر، عجيزة مدورة، شامخة، تضرب التزجة بعنف، تمشى الهوينا، لاح ظهرها المرمر، عجيني، تمايل، تأرجح في ثقة وفتنة.
خرجت من شرودي على صوت المعلم ضاحي وهو يقول للجد عبد الرحيم:
ـ جدي، ليتك توصي حسن الصعيدي بتوفير مكان يصلح كمبيت للصومالى.
بت أنصت في صمت وقد ربت الجد على كتفي وقال.
ـ قم خذ هذه،
رماني بشنطة بلاستيكية:
ـ بدل ملابسك، وستعمل من اليوم مع حسن، كيفما يكون الحال، وإذا أردت النوم وسط فرشة الفاكهة فليكن، نم وإذا لم يلائمك المكان…
وقتها أضاف الضاحي الصغير،
ـ الجربين موجود يا جد.
عدت لشرودي وصمتي أسأل نفسي في حزن وحيرة:
من أبي وأين هو هذا الأب؟! من أتي بي إلى هذا المكان،
أقولها في نفسي.
كل ما أذكره عن أبي طوله الفارع وعينيه الثاقبتين وسواد بشرته إلا أن عينيه الزرقاوين هما من لاحتا لي وأمامي في صورة دقيقة، تخايلني، يتوقف بي الزمن، محطات وأحداث، حوادث بعيدة، أمسك بيديه عنوة، على الدوام أرقب نظراته النارية وهي تنطق بشرر مخبوء، لا أعلم متى يخرج، أرقب نفساً متقلبة لا تلين، يعبر بي شارع محمد على، في غبطة مفاجئة يردد في أذني
ـ سأطوف بك في كل الاماكن التي تحب،
يسحبني من يدي كالأعمى لنمشي في شارع محمد علي، نقصد البحر والسفن وطيور النورس وتخوم بلاد لا ترى، غارقة خلف الضباب، أرمق الرمل ورحابة سماء ربنا.
سرت معه في طريق طويل تتلاشى معالمه، سرت أودع أمكنة أحببتها.
نمر بمدرسة الوصفية ومسجد العباسي ومبني المحافظة وساحة الشهداء، خروج الطلبة من بورسعيد الثانوية العسكرية، طالبات في زي كحلي ورمادي، بهجة ومرح وضحكات تزغرد خارجة من أفواه نونو ترمي ببخار أبيض وقت دخول الفصول فينزاح التثاؤب، يتجلى بوجوه وملامح ملائكية وشفايف وردي بلا روج دون طلاء، شعر هائش وخصلات مسترسلة يطيرها هوى البحر القادم من مسارات أشتوم الجميل.
وحدي كنت أنظر للبشر في ذهول وخوف، أتحسس قبضة كفه، فوق أصابعي قابضا بقوة فلا أعرف ولا أتبين الزمان، من هو هذا الرجل وكيف كانت تلك الأيام، في أي زمن كان، وكنا، ولماذا كان كل هذا الخوف وأنا أنظر إلى معصمه القوي القابض على رسغي بعنف آمرا إياي بالنهوض وقت الفجر في بيت ما أو بيوت لم يبقى منها إلا صور وهالات تخايل ذاكرتي بأطياف ذكريات لا تغيب عني، في صحو ومنام، حتى في وجودي الآني وسط الجد والمعلم عربي في أول العرب والذي انتشر فيه نور الله يغمر الشوارع لأحدق لبيت ما وشرفة تعتلي الدور الاخير ببرج سكنى يصل للسماء، أسفله معصرة القصب ملك الجد عبد الرحيم والذي ناداني لأكثر من مرة، برؤى غائمة شردت في دنياي الغريبة أستعيد ما عرفت وما هو مجهول.