دفاتر جلال برجس: ما يحدث عندما تسقط قشرة الطلاء!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد سمير ندا 
استهلال
يقول الشاعر المجري اتيلا يوجيف في قصيدته “قلب نقي”، الـي أدت إلى طرده من الجامعة قبل قرن تقريبًا من اليوم:
ليس لي أب ولا أم …. ليس لي إله ولا وطن
لا مهد لي، ولا عذابات …. لا حبيب ولا قبلات.
ربما آثرت أن أستهل قراءتي حول هذه السردية الممتعة بهذه الأبيات لهذا الشاعر المجري تحديدًا، لسبب سوف أؤجل الإفصاح عنه إلى خاتمة القراءة، ولكن؛ دعونا أولاً نلج سوية إلى أوراق إبراهيم الوراق، وعوالمه المضطربة، وحكاياته المتداخلة.

طبقات، أصوات، ومحاور:
لدينا أربع طبقات سردية تتراكم مكونة بناءً روائيًا محكمًا، أو ربما يمكن تسمية هذه الطبقات بالمحاور التي تخلق نوعًا من القص الموازي لذات الحدث أو المكمل له من خلال تناوب الأصوات على السرد، وبغض النظر عن التوصيف الصحيح الذي أترك تحديده لدارسي النقد، قد يتوقف البعض أمام تشييد الحبكة على عنصر المصادفة المتكررة، ولكنني سوف أؤجل -أيضًا- مناقشة هذه الملاحظة التي قد يعتبرها البعض سلبية، إلى ختام الحديث.
إبراهيم الوراق، رجل فقد كل شيء، الأم والأب والأخ، والفقد هنا متنوع الأسباب ما بين المرض و(الانسحاب الطوعي) والهجرة، ولكن هذا الفقد بتنويعاته يشيد أركان وحدته المكتملة. يرث إبراهيم عن أبيه كشك الوراق، ولذلك فهو متمرس منذ الصغر على القراءة وعوالم الكتب، علاوة على أنه بارع في تقمص الشخصيات التي تتسلل إلى عقله الباطن. يفقد إبراهيم الكشك إثر تلاعب البلدية مع أحد الفاسدين من رجال الأعمال الذي يزيل مجموعة من الأكشاك القديمة ليقيم على أنقاضها محلات تجارية، فيجد نفسه وحيدًا بلا مصدر رزق، لتتبدل حياته، ربما منذ اللحظة التي أوى فيها إلى فراشه -في غرفة عششت في أركانها الرطوبة والغربة وسرحت فيها أطياف الراحلين- فسقطت على وجهه قشرة طلاء فرّت من السقف المتداعي! قشرة الطلاء كانت هي القشة التي أطلقت سراح الصوت المكتوم في عقل الوراق، ورسخت لديه شعورًا تأخر كثيرًا في إدراكه والإلمام به، إذا أن عالمه برمته، كانت يتهاوى ويتقوض بنسق متسارع.

“عندما سقطت قشرة الطلاء، عرفت الحقيقة” 

يتضح من الصفحات الأولى أننا أمام شخص مصاب بالفصام أو السكيزوفرينيا، إذ تبزغ في عقله الهلاوس السمعية والبصرية بطريقة جلية، فيتصور أن شخصًا ما يستقر في جوفه ويحدثه، ويدفعه إلى كسر أصفاد الخوف والاستسلام التي ورثها عن أبيه. هذه الشخصية الفارّة من رحم الفصام تمثل نقيض إبراهيم الوراق، فهذا القرين الصوتي هو ذلك الشخص الذي يدفعه إلى الانتقام من المجتمع، وتحقيق القصاص العادل للفقراء والمظلومين. وإذا أمعنا النظر في مظاهر الفساد والمحسوبية والقهر الأمني واستشراء الخوف، لوجدنا أن الحكاية التي جعل جلال برجس من عمّان مسرحًا مكانيًا لها، تصلح لأن تروى بذات المفردات في كل أوطان العرب.

حكاية مألوفة؟
إلى هنا تبدو الحكاية في ظاهرها مألوفة، شخص وحيد مضطهد مظلوم يصاب بالفصام فيسلط حقده شطر طبقات وفئات محددة من المجتمع، قصة صالحة لأن نستدعي أطيافها من روايات أخرى، ولكن؛ عندما يبرع السارد في رسم عوالمه، ويتقن صبَّ قالب الحكاية بطريقة مغايرة، يبرهن على تفرّد قلمه، وخصوصية منتجه الإبداعي. فإذا ما طلبنا من مائة رسام أن يرسموا لوحة لنجيب محفوظ لحظة قراءته لخبر فوزه بجائزة نوبل في جريدة الأهرام، لوجدنا بين اللوحات تسعة وتسعين لوحة متشابهة، أو لوجدنا على أقل تقدير الكثير من نقاط التماس، سيركز الأغلبية على العنوان والفونط ولوجو الأهرام والتاريخ وملامح محفوظ وشامته الشهيرة أسفل عينه اليسرى، ونظارته الداكنة، وسجائر كاميل التي لا تفارقه، بينما سنجد نسخة واحدة متفردة من اللوحة، تحمل روح خالقها، نسخة واحدة سوف تظهر لمعة عين محفوظ التي تعكس حالة من النشوة والانتصار جاهد وجه محفوظ كثيرًا ليواريها بعيدًا عن أعين المصورين.
وعليه؛ نحن هنا أمام النسخة المختلفة من اللوحة!

قضبان القطارات ومحطات التلاقي:
تتحرك بنا الأحداث والأصوات كقطارات تتحرك فوق قضبان تمضي في مسارات متعرجة، يمكن للقارئ أن يتوقع تصادمها أو تلاقيها في نقطة معينة، ولكنه سيشك كثيرًا كلما راحت القطارات تبتعد مبددة فرص الاشتباك، ولعلني هنا أحب أن أتناول هذه المحاور تباعًا:

١. إبراهيم الوراق: الراوي الأصلي؛ الشخصية الرئيسية في الرواية التي نقرأ فصولها، شخصية محكمة إلى حد الإتقان، يروي الأحداث مستخدمًا ضمير المتكلم، ثم يتوجه إلى ذاته بضمير المخاطِب، علاوة على المونولوج الدائم بينه وبين الصوت الصادر من جوفه. منحنا جلال برجس شخصية من لحم ودم، فالوراق له خلفية وتاريخ ودوافع واضحة، الخوف والوحدة والعزلة عناصر كانت تدفعه تدريجيًا نحو حافة الجنون، بحيث تتطور شخصيته تصاعديًا عبر تقنية محكمة برع الكاتب من خلالها في توصيف حالة الفصام كأفضل ما يكون. لم يستسلم الوراق للصوت الذي يحاول السيطرة عليه في البداية، فراح يقاومه بشتى السبل، إذ لجأ أولاً إلى الطبيب النفسي (سلطة العلم)، فالشرطة (سلطة القانون)، ثم أخيرًا إلى شيخ المسجد (سلطة رجل الدين وظل الخالق)، وحين عجز عن الفكاك من الصوت أو تغييبه ولو مرحليًا، قرر أن يضع حدًا لحياته كوسيلة مُثلى للتخلص من الصوت الشرير.
بعدما شهد على لحظة انتحار أبيه شنقًا في مطبخ منزلهم العامر بالفقد، ووقف شاهدًا على أم تموت بعدما عجزت عن إخفاء حقيقة مرضها العضال، وقف الوراق بدوره على حافة الموت على شاطئ العقبة، وبينما هو موشك على وهب جسده لأسماك الخليج، بزغت في سماء وحدته فتاة حزينة، برقت وخبت كشهاب عابر، لتترك فيه أثرًا يسترد من خلاله الرغبة في الحياة، تترك الفتاة خلفها دفترًا يحوي مذكراتها، وهو الدفتر الذي يحتفظ به الوراق في رحلته فيما بعد، حياة موازية يهرب بين أوراقها، تخص فتاة لم يعرف عنها سوى أن اسمها يبتدئ بحرف النون! يتلمس الوراق ملامح الفتاة في كلماتها، يستمع إلى صوت حكايتها خلال الفصول المتعاقبة، يتعرف على صحفها التي سطرت فيها الأقدار أن تمسي بغتة فتاة وحيدة يتيمة، بعد معاناة من أب متزمت وأخ متسلط مهووسين بالحفاظ على الشرف ولو عبر منعها عن الدراسة، كان جسد الأنثى وصمة عار وقنبلة موقوتة آثرت عائلتها دفنها والزج بها خلف جدران غرفة لا يسمح لها بمغادرتها، ولو إلى عوالم بديلة من خلال القراءة التي باتت محرمة. تشق الفتاة طريقها وتلتحق بالجامعة وتعمل في أحد المطاعم لتدبر مصاريف الدراسة، وهناك؛ ترتبط برجل عجوز صامت، تختلط مشاعرها تجاهه ما بين الحاجتين الأساسيتين إلى الأب والمعشوق، حتى تنتهي فصول حكايتهما بفراق آخر.
حكاية الوراق، تسقط الكثير من القشور المتداعية لحياة مطلية بشعارات ونظريات ومسميات خيالية ليتكشف زيفها.

٢. ليلى: فتاة يلفظها الملجأ بعدما لفظتها الحياة طفلة رضيعة على باب أحد المساجد، دون أب أو أم أو تاريخ خاص، تجابه ليلى واقعها الجديد بصلادة، ترفض أن تغدو عاهرة كحال أغلب رفيقاتها في الملجأ، تتحول إلى متسولة أو بائعة مناديل، ولكنها تكره جسدها الذي لم يسبب لها سوى محاولات التحرش من الجنسين، مشرفة الملجأ، والرجال في الشوارع، فتقص شعرها وترتدي ملابس الرجال، وتفضل حياة الشوارع على ترف كانت لتناله إذا قبلت الإتجار بجسد لم تحبه يومًا. تلتقي ليلى بإبراهيم الوراق بعدما أُجبر على ترك منزله ظلمًا، فصار مثلها مشردًا على حافة الإفلاس، ولكنه ينقذها، وينفق كل ما بقي معه في محاولة لإنقاذها ضمن مجموعة من المشردين الذين يقطنون البيوت المهجورة المنسية على هامش الحياة. يبذل الوراق جل طاقته لتحسين معيشة هؤلاء المشردين، ويتعالى صوت الشرير في أعماقه يطالبه بالثأر للجميع، حتى تحصل ليلى على وظيفة مناسبة، إذا يتم تعيينها كمرافقة لامرأة عجوز مقعدة صموتة تدعى إميلي، لتعتني بها وتعينها على قضاء حوائجها، ولكن؛ لا شيء يحرك مسارات الشخوص هنا دون هدف، إذ أننا لاحقًا، سنعرف أن انتقال ليلى إلى ذلك المنزل تحديدًا قد جاء ليكمل حكاية أخرى، أو حكايتين بالأحرى!
هذه الحكاية تكشف ضمنيًا الوجه العنصري القبيح للتعامل العربي مع خريجي الملاجئ واختزالهم في عبارة (أولاد الحرام)، وينزع ورقة التوت عن تلك المجتمعات الحريصة على التباهي بتدينها. حكاية تسقط بدورها قشرة أخرى، من طلاء زائف.

٣. الصحافية: نتعرف على شخصية الصحافية تحت هذا المسمى “الصحافية” في الثلث الثاني من الرواية، وهي صحافية وحيدة بدورها، تمتلك تاريخًا غامضًا من المعاناة، نعرف إنها كانت تعمل في أحد المطاعم حين عثرت على مفكرة رجل عجوز تركها خلفه ذات سهو عابر. في الفصول التي تعتلي فيها الصحافية منصة السرد، تخصص القسم الأعظم لقراءة مذكرات العجوز، الذي يروي بدوره حكاية عائلة الشموسي، البدوي الذي عاش يرعى غنم السادة، وقدم ولديه كأضحيتين لحروب العرب الخاسرة على الدوام، إذ فقد الأول في حرب ٤٨، والثاني في حرب ٦٧، ولكن الحكاية تتمحور حول سيرة حياة جاد الله، ابن الشموسي الأصغر والمختلف، الذي يشعر بغصة حيال إهدار أبيه سنواته على أعتاب خدمة الآخرين، ولا يستقيم عوده إلا حين يستقل الأب بمعيشة وزراعة ودار يخصون عائلته، يؤمن جاد الله الطالب بالشيوعية، ويرى فيها وجه العدالة وفريضتها الغائبة، يسافر في بعثة إلى موسكو حاملاً حلم الأب بعودته طبيبًا يداوي أهله وعشيرته الذين لا يجدون من يطببهم ويداويهم، لا يعرف جاد الله أن الشموسي قد رهن أرضه حتى يغطي نفقات معيشته التي لا تكفي منحة البعثة لتغطية كل مناحيها، ينمو جناحاه فيحلق في مهد الشيوعية، ويقرر دراسة الفلسفة ضاربًا بأمل قريته عرض الحائط، بيد أن الانكسارات والهزائم تتوالى، يموت شقيقه في ٦٧، تحتجزه السلطات الروسية إثر تحميله للروس وزر هزيمة العرب، بعدما ماتت حبيبته الروسية، فيعود إلى قريته حاملاً حقيبة متخمة بالهزائم والخسارات، يكاد الشموسي أن يقتل ولده حين يكشف حقيقة تراجعه عن دراسة الطب، ولكن جاد الله يقبل بالواقع، ويعمل معلمًا في أحد المدارس، ويتزوج وفق رغبة أبيه، دون أن يتوقف عن التبشير بالشيوعية، فيلقى القبض عليه في الأردن هذه المرة، ولكن لا فارق بين السجون والتنكيل بين بلد وآخر، الديمقراطية كلمة مطاطية تتشكل وفق أهواء السلطة، يخرج جاد الله من السجن قبل انتهاء عقوبته، وقد آثر أن يتنازل عن قسم غير يسير من مبادئه وشعاراته وأخلاقياته، ولكن من خرج من السجن كان شخصًا مغايرًا لمن قبض عليه قبل عام. بخلاف حكاية الشموسي، تمرر الصحافية شذرات ولقطات من حياتها، لا تشي بالكثير عن هويتها، حتى تجيء المكاشفة قرب الخواتيم. حكاية تسقط بدورها المزيد من طلاء الحياة الذي وضعناه ليواري قبحها ويخفي تشوهاتها، نحن هنا نتحدث عن العروبة والناصرية والشيوعية والحرية كعبارات خُطّت فوق حيطان آبائنا، شعارات زائفة تشقق طلاؤها حتى سقطت.

٤. يوسف السماك: شخصية تبدو هامشية للوهلة الأولى، ولكنها محورية راسخة الحضور رغم أن الكاتب لم يمنحها صوتًا مستقلاً كباقي الشخصيات، يوسف هو الطبيب النفسي الذي يلجأ له إبراهيم الوراق في مرحلة مبكرة أراد فيها التخلص من صوت قرينه قبل أن يستسلم له في النهاية، الطبيب بدوره لديه حكايته، فهو ابن لأم أنجبته من أب لم يعترف به، رغم أنه يعرف هويته ولكنه لا يجسر على الاقتراب من مداراته، يعجب الطبيب بشخصية الوراق منذ الزيارة الأولى والأخيرة، ويبهره كم المعلومات والخبرات القرائية لدى مريضه، فيصطفيه ويختصه برسائل يعترف فيها الطبيب للمريض بمعضلته الحياتية الكبرى، ويتلقى من إبراهيم الوراق، بصوتيه المتعارضين، ردودًا واقتراحات ونصائح.
تقشر حكاية السماك قشور العقد المجتمعي الأخلاقي وتكشف عن تشوهات شائعة الانتشار، وتظهر أقبح ما في الوجه الإنساني المتلون.

منعطف الحكاية:
عندما تخور قوى إبراهيم الوراق، وتنهار كل خطوطه الدفاعية في حضرة الجوع والظلم والقهر والإفلاس والخوف، ومع تنامي شعوره بالمسؤولية تجاه المشردين من رفاق ليلى، يقرر الإنصات إلى الصوت الذي يؤرق مضجعه، ولا يتوقف عن دفعه إلى تحقيق العدالة الغائبة، ولأن الوراق لا يمتلك الجرأة التي تؤهله لارتكاب أي فعل مخالف للقانون والعادات، خصوصًا وقد شتل أبوه الخوف فيه وفي أخيه منذ صغرهما، ولم يتوقف عن تحذيرهما من انتشار المخبرين في كل مكان وضرورة عدم الخوض في أمور السياسة أو حتى قراءة كتبها، لذلك يستجلب الصوت من وجدان الوراق شخوص الروايات التي يجد لديها القدرة على الإتيان بما يريد، يستعيد إبراهيم مهارة التقمص لديه، فينفذ المهام التي تحقق له الثراء السريع بعدما ارتدى قناعًا، يتقمص في البداية شخصية سعيد مهران بطل اللص والكلاب لنجيب محفوظ، ثم يكرر الأمر متقمصًا شخصية كوازيمودو أحدب نوتردام الخالد الذي صاغه فيكتور هوجو، ثم يعود في ثوب دكتور زيفاجو لباسترناك، بعد عبور سريع بشخصية ميشكين أبله دوستويفسكي، قبل أن يتحول إلى مصطفى سعيد بطل موسم هجرة الطيب صالح إلى الشمال، وأخيرًا؛ يعود إلى عوالم نجيب محفوظ متقمصًا شخصية أحمد عبد الجواد بطل الثلاثية الخالدة، ليختتم بها مغامراته.
هذه الفصول من الرواية كانت بمثابة استعراض بديع لمهارة الكاتب وقدرته على التحكم في الشخوص فوق مسرحه الروائي، كان برجس هنا أشبه بمحرك عرائس الماريونيت، فهو حين يحرك سعيد مهران، يصور له الآخرين في صورة نبوية وعليش سدرة حتى يحقق انتقامه، وفي ذات الحالة، وحيث أنه لم ينس يومًا السيدة نون التي ردته من فوق حافة الموت على خليج العقبة، تظهر له هنا في وجه نور، فتاة الليل التي أحبت مهران (محفوظ)، وحين يتقمص شخصية الأحدب، تظهر السيدة نون في وجه أزميرالدا، ويتحور وجه الشرير ليحمل ملامح كلود فورلو، وحين يتحول إلى ميشكين تتجسد نون في وجه إيفانوفنا، وبالتالي تكون هي لارا عندما يكون هو دكتور زيفاجو، وآن هاموند عندما يتلون وجهه بسمرة مصطفى سعيد، وهكذا دواليك.
شخصيًا؛ استمعت كثيرًا بقراءة هذه الفصول والمقاطع، ولعلها تستفز أي قارئ لم يقرأ أي من هذه الأعمال الخالدة فيضعها في قوائم قراءته القريبة والعاجلة.

ديوجين:
اختار الوراق لنفسه اسم ديوجين في حسابه على الفيسبوك، كذلك وردت عدة إشارات إلى ديوجين خلال محاورات إبراهيم مع صوته الكامن فيما وراء الوعي، أراد إبراهيم الوراق أن يكون مثل ديوجين، الذي زهد الدنيا فتقشف في ملبسه وطعامه وعاش بلا مأوى، وجال بين الناس يحمل مصباحًا خلال ساعات النهار بحثًا عن رجل نزيه، وإن كان إبراهيم الوراق، بصوتيه المتعارضين، قد فشل في العثور على ذلك الرجل النزيه، فقد حاد في النهاية عن منهج ديوجين، بعدما كفر بكل الكتب حد حرقها، متخلصًا من كل أوراق كونفشيوس وديكارت وابن سينا وغيرهم من الفلاسفة الذين آمن بأنهم ضللوه عبر تصوير حياة خيالية وأفكار لا يطبقها البشر، لذلك لم يلتزم الوراق باسم ديوجين، فتحول إلى هجين من كونت دي مونت كريستو وروبن هود، جمع ما يرتق به عباءة الفقر، ولكنه سقط قبل أن يمنحه للفقراء.

كوابيس:
في خواتيم الفصول التي يعتلي منصتها السردية صوت إبراهيم، وهي تشكل القسم الأكبر من الرواية، يدون الوراق كوابيس يرى نفسه خلالها فيما يرتكب جرائم في حق أشخاص يعرفهم بدرجات متفاوتة.

صحيفة الاتهام:
حين يقع الوراق مهزومًا أمام السلطات، يوجه إليه المحقق بخلاف اتهامات السرقة، اتهامات بقتل كل من؛ جاد الله الشموسي، عماد الأحمر، إياد نبيل، ورناد محمود!

ملتقى القضبان:
حقيقة، لا أود أن أفصح كليًا عن مسارات الشخوص، ونقطة التقاء بكرات الخيط التي ألقاها جلال برجس في بداية النص وتركنا لنلهث وراءها طيلة ٣٦٦ صفحة، ولكنني في ذات الوقت لا أود أن أترك هذه القراءة مشرعة على احتمالات قد توحي بالتفكك وعدم الترابط، لذلك سأكتفي بالإشارة إلى أن الاسم الكامل لوراقنا هو إبراهيم جاد الله الشموسي، وأن اسم الصحافية يبتدئ بحرف النون (ناردا)، وأن والدة الطبيب يوسف السماك تدعى إميلي، في حين ان اسم والده الحقيقي هو إياد نبيل، بينما كان عماد الأحمر شخصًا فاسدًا متنفذًا أزال بعض الأكشاك ليقيم فوق أنقاضها محلاته التجارية، وأن رناد محمود كانت تعمل مشرفة في إحدى دور الأيتام!

ختام أول:
هذا العمل يستعرض الوجه القبيح للعالم عبر تقشير طلاء الزيف الذي يكسو كل أرجائه، يكشف سوأة البشرية ويعري زيف الشعارات والنظريات الفلسفية والأخلاقية. عمل ملحمي فذ، يجمع بين كل عناصر الكتابة الجيدة، اللغة والحبكة والتشويق وتحقيق المتعة. كان الكاتب موفقًا في كتابة نصه الأساسي، في طبقته الظاهرة الأولى، في خط زمني تصاعدي، في حين اكتفى باستحضار تقنية الفلاش باك في طيات الطبقة التالية من السرد، وأعني هنا الحكايات التي يقرأها الشخوص والرسائل المتبادلة بينهم. برع الكاتب كذلك في تنويع الأصوات، وعلى قدر كثافة وشعرية اللغة، وتشابه الخطاب البلاغي على ألسنة الرواة، جاء التنوع جليا في طريقة التفكر والحالات النفسية التي يمر بها الشخوص.
فيما يخص المصادفات التي تتمثل في تكرار عثور شخص على مذكرات تحوي قبس من سيرة آخر، والتقاء هذا بذاك، وما قد يتوقف البعض أمامه بالآلات الحاسبة مستدعيًا نظريات الاحتمالات، فإنني أنأى بهذا النص عن هذه الفرضية، فإذا ما اتفقنا على أن كل النماذج التي قدمها برجس شخصيات حقيقية من لحم ودم، فإن كل ما فعله كاتبنا القدير كان جمع هؤلاء الشخوص في حجرة واحدة، وعندما يحقق النص للقارئ هذه الدرجة من المتعة، يحق للكاتب أن يشيد بنيانه القصصي كيفما تراءى له، ولو عبر تكثيف المصادفات، وقتل نظرية الاحتمالات.

جلال برجس، كاتب أردني قدير، أو أنه بالأحرى كاتب عربي بارع، من الإنصاف أن نكتب عن روايته هذه، وأن ندعو عموم القراء المحبين للكتابة الجادة المتميزة، داخل مصر وخارجها، إلى قراءة نصوص هذا الرجل، فصاحب “سيدات الحواس الخمس” يستحق المزيد والمزيد من المقروئية، بغض النظر عن ترشيحات البوكر.

ختام أخير:
يقول الشاعر المجري اتيلا يوجيف في قصيدته “قلب نقي” – ترجمة ثائر صالح
بقلب نقي سأسرق… وإذا كان يجب، سأقتل.
سيقبضون علي، وسيشنقونني… ويدفنونني في الأرض المباركة
وستنمو حشائش الموت… في قلبي رائع الجمال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وروائي مصري
الشاعر يوجيف صاحب الأبيات التي أوردتها في مستهل وختام المقال والذي ورد ذكره في الرواية، كان مصابًا بالفصام، وألقى بنفسه تحت عجلات القطار حين كان في الثانية والثلاثين من عمره، ربما لذلك استدعيته إلى هذه القراءة.

مقالات من نفس القسم