حاوره: عاطف محمد عبد المجيد
بعيدًا عن الأرقام والتواريخ، وعدد كتبه وأسمائها، التي يمكن الوصول إليها بضغة زر على مؤشر البحث جوجل، التقيته في الجامعة في العقد الأخير من القرن العشرين، انحزت أنا للشعر، وآثر هو الرواية والقصة.أقمت أنا في القاهرة، وبقي هو هناك في الصعيد حيث الفراغ المتسع، والأرض الخصبة بكيمياء الإبداع، ومن هناك بدأ رحلته مع الكتابة والنشر، فتحول إلى راقص في حلقة ذِكر، ينهل من عالمها بعين المحب، خاصة وهو يرى أن الكتابة كالحب تأتي بلا استئذان، مؤمنًا بالإنسان الذي يحتاج دائمًا إلى مَن يحس به، ويعرف كيف يوجده من خلال عين تعرف، وروح تتقن التأمل.
إنه الروائي والقاص المصري مصطفى البلكي الذي يحمل بداخله كمًّا لا نهائيًّا من الحكايات، مستفيدًا من قضاء سنوات طفولته على “حِجْر” جدته لأمه، التي كانت تحفظ الكثير من تاريخ البلدة، وتحوي ذاكرتها الأغاني الشعبية والعدّيد وأغاني الحجيج، وهي التي جعلته يعشق الحكاية ويقع أسيرًا لها بعد ذلك.
عن مصطفى البلكي وإبداعاته، عن جدته، وعن بقائه في صعيد مصر، يحدثنا في هذا الحوار.
** في روايتك ” سيدة الوشم ” اتكأت على تيمة الحب بين مسلم ومسيحية، ألم تخشَ ردة الفعل، خاصة وأنت تعيش في أسيوط،، المدينة التي بها أعداد غفيرة من المسيحيين؟
* الخوف لو وجد، لهربت الكتابة، وأنا أقول إن من لا يملك الجرأة لا يستحق الحياة.الكتابة فعل وضوح، ومجازفة بوضع كل شيء تحت أعين الناس، وإذا ما تعلمنا هذا ومارسناه، سندرك أن في حياتنا أشياء كثيرة ليست خارج دائرة التفكير، وتحتمل الحياة، متى أردنا لها أن توجد.ولا يتحقق هذا إلا في الوقت الذي يكسرفيه المرء الجدار العازل الذي شيده الخوف.هذا الجدار من صنع الخائف، خلفه يسجن كل ما لا يتفق مع نظرة المجموع، ويرونه لا يمت بأي صلة للإنسان، رغم أن كل فريق يمارسه ويقبله في نطاق جماعته.أما لو حدث بين فردين من جماعتين مختلفتين، وقتها سيكون محرمًا، يقبلون به وفي نفس اللحظة يحرمونه.تناقض غريب وكأن الإنسان ليس هو الذي يمارسه هنا ويمارسه هناك.في حين لو تجرد الجميع من آفة الأنا، لعرف قيمة الآخر، وأنه لا يختلف عنه، بل هو يكمله.والحب في سيرته يوجد هذا الاكتمال، وسيدرك أن الحب هو الدين الواقعي للمرء.
** هل هي صرخة؟
* ولمَ لا تقول إنها بارقة أمل لكل من ملّ من هذه الحياة، التي تكيل بمكيالين.تعال لنبتعد عن الصرخة، رغم أنني لا أنكرها، لكنني سأضع كل ما وجد بين أفروديت وضياء، تحت قوة السؤال: هل هذا التلاقي يتاح وبهدوء ومن دون ضجيج؟ هذا هو السؤال، ما بعده حيرة أو صرخة.وفي تتبع مصير أفروديت ومصير ضياء سنعرف أن لكل خطوة نظنها متاحة لنا ثمن سندفعه، سنكون على علم مسبقًا به، كي يكون الاختيار قويًّا، وصالحًا لبناء حياة.
الحب دولة كاملة
** لقد وضعت حدًّا لحياة أفروديت، فكيف جعلتها حاضرة في حياة أماني / ابنتها وحياة ضياء/ الحبيب؟
* فكرة الحدود غير موجودة في الحب، هو دولة كاملة، حدودها ترسم في المدار الذي يجمع الحبيبين، وأنا أشبهه بالشعاع، ستجد له بداية، أما نهايته فتلك يحددها مدى إيمان كل طرف بما يعتنق.وحضور أفروديت بعد موتها في حياة الابنة والحبيب هو أمر طبيعي.الحياة تقول لنا بأن الماضي هو الحريق، والحاضر دخان انفلت منه، والغد ابن شرعي لليوم.
** بدأت حياتك الإبداعية في أواخر التسعينيات، أي ما يقرب من عشرين عامًا، حين تُعيد النظر إلى الوراء عائدًا إلى الآن، ماذا ترى؟
* أرى ما قبل هذه الفترة الزمنية.في الحياة شيء مهم جدًّا، ألا وهو الصلة، من خلالها ستعرف أين أنت، وإلى أين سوف تذهب.وإذا وجدت من خلال الصلة علاقة ود قوية، سترى العالم جميلًا، رغم عوامل القبح التي قد تكون منتشرة حولك.وأنا بدأت رحلتي مع هذا الطفل الذي كنته، الذي مازال يرافقني، كان يسعده أن يجلس في مجالس الكبار، الرجال والنساء، وسعادته يوجدها الحديث الذي ينصت له، فتعمقت نظرتي للحياة، وأدركت أنه هناك ما يربطني بها.ولولا ما وصلني منهم ربما انتهيت كشيء مهمل في جانب ما في الحياة.لذلك وأنا هنا، عيني على هناك، مع هؤلاء الذين يتحررون من أسرارهم وأفعالهم الصغيرة بالكلام، حتى لا تقتلهم تلك المفردات بهدوء وصمت.هذا جانب، والجانب الأهم هو وجودي في منطقة لا يسكنها الكثير من البشر، ويتوزع فيها عدد قليل من البيوت، وضع جعل التأمل رفيقًا لي، فكنت طفلًا دائم الحركة بين الخضرة، يقضي وقتًا كبيرًا في صناعة التماثيل من الطين، وحينما تجف، كنت أتكلم مع تلك الوجوه التي أصنعها، كنت وبعناد منى، أصنع الوجوه التي أحبها، تعلمت كيف أوجد من أحب، وفيما بعد وأثناء المرحلة الثانوية، لما تراجعت جلساتي، ونفضت يدي من الطين، عرفت الطريق للكتابة، خزانة لا تنضب من الكلام، والآن أقول لك كل طريق يعرف من بدايته، وإذا ما قطع في مرحلة ما سيعود بقوة خفية هي السبب الوحيد في حركتنا لمحطة الوصول.
** كثيرًا ما تتحدث عن جدتك وتأثيرها فيك كروائي..هل لك أن تفسر لنا هذا؟
* أقول دائمًا إنني صنيعة النساء، مقولة أعيد فيها الفضل لمن ساهمن في تكويني، وفي رسم معالم حياة في حياة الصغير الذي كنته، شاءت الأقدار أن تمر أمي بعد شهرين من ولادتي بوعكة صحية، ألزمها الفراش لشهور، فتكفلت جدتي برعايتي، ثم أصبحت ملازمًا لها، وحياتها لم تكن حياة عادية، فالحياة العادية لا ينالها إلا الكسالى، كانت رحمة الله عليها شجرة يركن تحت ظلها كل القريبين منها، فعشت حياة يغلب عليها الحب، والمحب بطبعه هو مدرسة، بمقدوره أن يهب للعالم حفنة من المتفائلين الذين يدركون الغرض من وجودهم في الحياة.
** على صفحة الفيس بوك الخاصة بك، تحرص بشكل يومي على كتابة ومضات تشي بفلسفتك ورؤيتك للحياة والكتابة، ألم تفكر في جمع هذه الومضات في كتاب؟
* لا أخفيك القول بأن الوجود بين بشر لا تحكمهم إلا الحكمة مهم ومفيد، هم ذاتهم من جعلوا مني شخصًا ينظر إلى الأمور نظرة تخصه، فوجدت قناعاتي وفلسفتي اتجاه كل شيء أمر به وأعيشه، وأكون على نفس دربهم، جاعلًا الرضا نورًا أتبعه، وحده من يوجد أثره بهدوء وبتؤدة على كل تصرفاتي.وتلك النظرة بكل ما تعمل تتسرب في الكتابة من دون أن أشعر، لذلك هي تُوجِد لها حياة متى أرادت ذلك.
امتيازات الموهبة
** آثر مصطفى البلكي البقاء في مسقط رأسه، ولم يفكر في الانتقال إلى العاصمة، كما فعل كثيرون..هل تشعر أحيانًا بالندم على هذا؟
* لم أفكر في ترك قريتي، بالاختيار والإجبار معًا بقيت.أنا الابن الأكبر لوالد انتقل لجوار ربه مبكرًا، وأنا مازلت في بداية تعليمي الجامعي، والابن الأكبر يحل محل والده، وعقب تخرجي عملت في هيئة التأمين الصحي، ومضت بي الحياة.وطوال تلك السنوات لم أندم على وجودي هنا.أنا أرى أن البعد عن المركز لا يسلب امتيازات الموهبة، والفعل الجاد وحده هو القادر على جعلنا ندرك الأشياء، والهدوء محرّض رئيس في الإبداع.هنا الحياة في سيرها هادئة، وأنا دائمًا يهمني الجانب الروحي الذي أستند عليه، والحياة هنا توفره، والجانب الأهم، أن أسيوط وفرت لي ارتباطًا بحركة ثقافية تكاد تكون هي أم لكل حركات الصعيد الثقافية، ابتداءً من نادي أدب الجامعة في تسعينيات القرن الماضي، وانتهاءً بنادي أدب أسيوط.
** يكتب مصطفى البلكي الرواية والقصة القصيرة، بأيهما بدأت؟ وأيهما الأقرب إليك؟ ولماذا؟
* البداية كانت قصة، من خلال مجموعتي الأولى الجمل هام للنبي، لكن سرعان ما شدتني الرواية، لأنها تناسب ما أقوله.من عاش الحياة بصدق هو الأقدر على نقلها في رواية، لكن القصة تظل معي، فهي حاضرة في الرواية وبقوة.
** متحدثًا عن أعمالك، يقول د. محمود فرغلي إنها لا يعلو فيها صوت الراوي بقدر ما تعلو أنّات المحرومين وصرخات المقهورين..هل لك أن تحدثنا عن أبطال رواياتك، وبيئتك التي تستقي منها أفكارك؟
* الحياة هنا في الجنوب، تجعلك جزءًا من بناء هائل، لا تملك قدرة الابتعاد، وهناك فئة من البشر لا تجد نفسها إلا بين الناس، تعيش أفراحهم وأتراحهم، ثم يكونون في وقت لاحق، على مدار التأمل، الذي يفضي بهم إلى المعرفة، ومن عرف كان مستعدًّا لدفع الثمن، والثمن في الكتابة، وجع أحيانًا، لأنه لن يعبّر عن هذا العالم بصدق إلا من خلال الحفر تحت الجلد.
رحلة لا مسيرة
** إذا طلب منك أحدهم أن تُقيّم مسيرتك الإبداعية، ماذا تقول عنها؟
* كلمة مسيرة لها دلالة لدي، هي تعني إغلاق الخط، قطعة مستقيمة، وأنا أحب لفظة رحلة، بدأت ومستمرة ومرتبطة بنهاية سوف تأتي، لا ترتبط بالعمر، بل بنضوب المعين.وكما قال مركيز، ينال الكبر الكاتب حينما يكف عن الإبداع، وأنا بمنطق من يعيش الحياة أقول أنا بدأت رحلة وكل كلمة كتبتها أسعدتني، وربما أسعدت غيري، أو ساهمت في تلوين وقته بلون يحبه،
** ما هي المناطق التي لم يطأها مصطفى البلكي بعد، ويأمل في الكتابة عنها؟
* نَفْسي، هي المنطقة التي لم أقترب منها بعد، كلما اقتربت منها تراجعت، لم أملك بعد قدرة الحفر تحت الجلد.
** يقول الروائي محسن يونس إن كتابتك تستحق القراءة والاحتفاء..مَن مِن الكتاب استحقوا أن يقرأ لهم مصطفى البلكي؟
* ﺍلقراءة ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟحقيقي للوعي، والكاتب الذي ألمس فيه صدق الطرح، سيكون رفيقي إلى أن أضع آخر كلمة لي ، والجمال يعرف به صاحبه، والكتابة الجميلة هي تلك الذراع الممدودة دائمًا بالجمال، وهي في نفس الوقت بوابة الغد التي يجب ألا تغلق، ومن خلال تلك الرؤية أقرأ لكل من يوفر لي هذه الحياة.
** كيف يرى مصطفى البلكي نفسه في مرآة النقد؟
* رغم ما يقال عن تراجع الحركة النقدية الجادة، إلا أنه هناك فئة من النقاد لا يعنيهم إلا العمل، ومدى جودته.وأنا أرى نفسي محظوظًا في هذا الجانب، فقد كُتبت الكثير من الدراسات والمقالات عن أعمالي.وربما هناك جانب مهم في العملية الإبداعية ألا وهو القارئ، المستقبِل للمنتج.لو أعرف أن هناك قارئًا واحدًا ينتظر كتابتي، سأكتب من أجله، فدائمًا هناك شيء ما ينتظر.
** الكاتب ابن بيئته وأنت غردت كثيرًا خارج هذه المقولة، وكتبت روايات تاريخية كـ “طوق من مسد”، و “نفيسة البيضة”، وروايات في سلسلة روايات الهلال التاريخية..فكيف تعاملت مع التاريخ؟
* لم أخرج كثيرًا عن البيئة التي أنتمي إليها، فالمبدع يكون صادقًا حينما يكتب عما يعرف.وأنا، من خلال الموروث ومفردات المحيط الذي يحيط بي، أتعامل مع الماضي بنفس تلك المفردات، فحركة التغير في نمط المعيشة لم يطلها الكثير من التغيير، وكذلك الموروث بقي لوجود حراس عليه.