محمود خيرالله
عادةً ما يسمونه إهداء
إليها رغم أنف هؤلاء:
مدخنو المالبورو، رجالُ الأمن في المؤسسات، شحاذو كورنيش النيل، عشرات السلالم إلى الدور السابع، آباؤنا الطبقوسطيون وأباؤهن البرجوازيون، بائعو الهامبورجر في الجامعة، العاطلون عن العمل في الحدائق العامة، مخططو الإسكان الفاخر، فمٌ ينصح وحوله لحية سوداء وفمٌ ينصح وفوقه شعرٌ أبيض..
إلى آمال شحاته
لماذا ترفع الأحلام يديها وتنظرُ للحائط؟
فوتوغرافيا
سوف أطلع مرة
هذه الأشجار المعلقة على الحائط،
وسوف أنتظرُ العصافير
التي تهبّ بين أوراقِها في الصباح،
والشمسُ الساطعةُ هذه
سوف أمشي تحتها
حينما يهز الشتاء ذيله للجميع،
ساعتها سيحلو النوم
والنهرُ بين فخذي الشجرة
سيغني لي..
إذن عرفتُ أين تختبئ السعادة
حيث ننسى الشجرَ والعصافير والسماءَ في الشوارع
ونعلّقها للضيوفِ على الحوائط.
الخرابة التي لا تنتهي
أمشي مع القصيدة حتى آخر الشارع
والتجريب ناعسٌ بين فخذي
يخلع كل دقيقة إيقاعاً
وحيث أنني لا أحمل شكسبير علناً على ظهري،
أمشي مع القصيدة حتى آخر الشارع
حيث تكون الخرابة هي المأوى الوحيد
لكل نبوءة تدك الحنين
أو تشطف الواقع من مساءاته.
كان ياما كان
يُحكى أنّ
قصراً يمتد ثلاث محطات مترو
وأن كدماتٍ وندوباً صارت تنمو في جسدي
ـ قدميْ تحديداً ـ
لأن قطع الأثاث في بيتي
مُتقاربة كشعرِ الرأس،
وحينما أحسستُ بدمائي تسيل على البلاطات الباردة،
قررتُ أن أبني حُزناً
يمتدُ ثلاث محطات مترو
أو أزرع شجراً
يُدمي قَدمي السماء،
حتى أستطيع أن أرفع عيني في وجه المترو ثانية.
من أعلى مرة واحدة
لابد أن تكون لك “بلكونة” صغيرة،
حتى تستطيع أن تدلل فيها أحزانك،
وتشطف فيها غضبك النهاري مع مكاتب العمل،
وإذا اخترت لها إضاءة
فلابد أن تكون خافتة،
حتى تشم رائحة الأحزان من ملابس العابرين تحتك
ولكي تكون مرة واحدة فوقهم،
مرة واحدة تستطيع بها أن تصارع المكاتب من جديد،
وتخرج من جسدك أحزاناً لا تليق على غيرك.
البطالة بوصفها حافظة نقود
حافظة نقود وحيدة
تستطيع أن تربط فيها أسرارَ حزنِك
بعيداً عن دموع الزوجة،
وتدفن قليلاً من متاعب العمل في قاعها الضيق
كما يُمكن أن تلوِّح بها في وجه صاحب العمل
كي يفهم
أن غضبَك البكر يخرج من بطالة الحافظة،
وأن دموعك المحبوسة بين جيوبها
قد تخرج فجأة
ليمسح بها الساعي مكتب صاحب العمل
بهمة لا تتوافر لسواه.
ربما شجر لدموعي
الهزيمة القديمة
ذات الثوب الفضفاض وقطرات العَرق على الجباه
سوف تعود غداً
بعيداً عن طموحاتك الحضارية
سوف تعود،
حاملةً حليباً صباحياً
لطفلك المدرسي
وأقمشة ناعمةً لزوجك الشابة
وجوارب غير مثقوبة الجنبين،
ورغبة أكيدة في رؤية الحدائق،
حتى تتذكر الأشجار
التي شربت من قبل دموع فقرك.
حسناً .. سوف أنتظر
البالوعة الجديدة
في آخر جنيه من مرتبي
الخنجر اللامع
في أول شعاع شمس
يدخل من النافذة
والمؤخرة الناعمة
على صفحات الجريدة كل صباح
ولا جديد في أي شيء.
اشتراك
لأنهم يملكون أرغفة أكثر نظافة
فهم ولاشك
يعطون لأطفالهم ضحكاً أكثر رنيناً
ولأننا بالتأكيد نبتسم
للفارق الصباحي ـ الذي يتأكد دائماً ـ
بين قطارنا وعرباتِهم
إلا أنهم متفائلون لغدهم أكثر
ويعلمون أطفالهم أن الياقة البيضاء
لا يعفِّرها تراب الفقر
ونحن هنا
سنعلم أطفالنا الشعر بالتأكيد
حتى لا تختل العلاقة الصباحية
بين القطارات المزدحمة
والعربات المارقة بظلٍ وحيد.
هنا
مثلما يذوبُ السكّر
في مؤخرةِ الكوب
يذوبُ في مؤخرة كل شهر
شاعر من مصر.
مخاوف صغيرة تجرح الماضي
كيف يفرُك القصائد
تحت قدميه
وكفي الطويل يحول بين الدمعة والموكيت
ورغيفا خبز ممنوعان من دخول بيتي منذ الصباح
أهكذا تهرول نحو بيتك
وعلى خدَّيك بقايا شجر يشبه “السيول الأخيرة”
كان عليك وأنت الفارع
أن تختصر قليلاً من طموحك الصباحي بالقراءة
وأن تقلل من شراهة المخدَّات لأحزان رأسك
ولكي تستطيع هذا فعلاً
لابد أن تمسك ـ بيقين غريب ـ
همومك المسائية
وتفك رويداً رويداً أزرار صدرها
وحين تصل لفخذيها
عليك أن تصب في جيبك
ـ العاري أيضاً ـ
قليلاً من الدموع
حتى لا تكون سعيداً طوال الوقت
فيحسدك الآخرون
وإذا كانت الشعارات الكبيرة في الصحيفة تزعجك
فهناك فؤوس تقطع هذا النوع
لكنها قد تقطع قلبك أيضاً
فتعود لطموحك الصباحي بالقراءة
وتأخذ المخدات كل أحزانك
وتتركك عارياً.
للجيوب والأحذية .. لا أكثر!!
بالموسيقى التي تفضح دموعي
أنظر لهذا الصيف الفاني
أي شتاء سيبقى المحطة الأخيرة
وأي صيف؟
سأبقى مع الدموع في قبرٍ واحد
وسأستريح مع ملابسي القديمة
كزوايا ناقصة الضلوع
الجيوب التي تهرَّأت في مطلع خريف ما
والأحذية التي لم تعد لامعة
والطبول التي تدق في الرأس
مسميات خرافية لصداع قديم
بدأت الضلوع في إصدار أصوات جديدة
ولم يعد فينا ما يصلح لشيء
هنا
في زوايانا الجديدة
سوف نكون مبتسمين للأصدقاء
وللأحباء الوحيدين
الذين يمنحون عيوننا ألواناً سعيدة
سوف نعلق الأجراس في عيوننا
حتى نسمع بوضوح صوت الموت
الذي يبتعد قليلاً لنفهمه حينما يأتي
بالجنيهات القليلة
سنحيي كل صباح وجه المترو
ونصفّق بالكتب القديمة
لأنَّ الصباح أتى ولم تأتِ أمراضٌ غامضة للطفل
نصفق إذن لهذا الخريف الجديد
لأنه لم يقل للأوراق أن تسقط
أو يسمح للحنين أن يختفي
فقط.
جاء حافياً بخلايا ودموع
وأشار للعصافير أن تمحو
قدر ما تستطيع
أي شعيرات سوداء في الرأس
وأي أذرع مفتولة في الجسد
الخمسة وعشرون عاماً التي خرّبتها في الكتب
لم تعد تسمح بوجود أجراس كافية
حيث لا ينمو فوق جسدي عشبٌ جديد
أنا أصلح لمن؟
لذباب أهشه كل صباح في العمل
أم لبقايا دموع في حضن أمي
أنا لا أصلح لأحد
ربما
بعد أن تنمو ضلوع جديدة
لطفلي الوحيد
أصلح.
الحقد على “صلاح حامد“
الشوارع الصغيرة بحجم الكف
لا تمنح أياً من المارين قطعة عملة واحدة
قد يعثرون
على جُثَثٍ تتحرَّك باتجاه الباص
ويظن الواحد منهم (المحصِّل) تنيناً
“ظنون!!!”
إن الله لم يترك المقاعد الأمامية
للسيدات والعجزة
فأين يجلس العاديون إذن
الدرّاجات مثلاً
لم تعُد حتى الآن
سوى متكآتٍ لإصلاح الواقع
كذا الفسادُ الإداري مُتكأ لانهيار الدول
رغم هذا
يعيش المرتشون عمراً أطول
ويستطيعون شراء أطعمة فوقها “المايونيز”
دون أن يختل نظامُ الله على الأرض
عرباتهم تجدِّدُ من نَفسها تلقائياً
وليس سواهم من يَستَصْلحُ الأرضَ
يتصالحون دوماً من أبنائهم
وقد يشربون أيضاً
يجلسون في الأماكن المخصصة للعبادة
حيث يسرعون لحفظ الآيات
فربما طولبوا بِتَسميعِها صباح يوم القيامة
وهي أبداً لا تقوم
كأنها تنتظر عدداً أكبر من أخطائنا
لتكون مبرراتُ تعذيبنا أقوى
قد ينهض الواحدُ منَّا
مُتصوِّراً أنها قامَتْ
رغم أن “البنك المركزي المصري”
يضن علينا كثيراً
العجلة الحربية الفرعونية
ومسجد “السلطان قايتباي”
لم يفعلا شيئا
لا شُفي الطفلُ العليلُ
ولا ظهرتُ زوجاً قوياً أمام الانكسارات،
تقرأ مثلاً:
“البنك المركزي المصري
جنيه واحد
المحافظ: صلاح حامد
مسجد السلطان قايتباي”
كُلٌ هذا
وعلبة سجائري التي نفَدتْ
لا أستطيع شراءَ غيرها
بالرموز العظيمةِ هذه.
نحنُ تسعدُنا السجائر
رغم أنها ضارة جداً
السعادةُ كبيرةٌ جداً في نظرنا
عودة البراز لمؤخرة طفلي
وعودة ابتسامته الجميلة
قطعتان من السعادة
لا أستطيع شراءهُما
بكل الرموز الجميلة
التي يفضحُها “البنك المركزي المصري”.
فانتازيا الرجولة
أقفُ طويلاً أمام النوافذة البعيدة
طويلاً
وأنا أستدعي أشباحي الخاصة
ليس لأنني هارب من يقظتي
لكنني أحذف سطوري الخائبة
قاصداً
أن أُعلِّم طفلي الاعتزاز اللعين
بنجومه الصغيرة
كأن يعلم طفلة الجيران أكل الحلوى
أو يغني مثلاً
فتهرب صيحاتٌ كبيرة من حنجرتي
أو يذكرني كثيراً
بصفعات أبي وهو يُلقنّني دَرْس “اللازم والمتعدِّي”
لم أتعود أن أُشعرَ الآخرين بالشبع
دائماً حينما أرى صغيري
يلعق حليب أمه
يبتسم لأنه يقوم شبعاناً
ويشير لي أن ألاعبه
مثلاً
ضربني صبي في مخبز
وأنا في طابور طويل منذ الصباح
وحينما عدتُ لإخوتي الكبار
حكيت لهم أنني صفعتُ صبياً قوياً
عشرين صفعة
كانوا بالطبع من خيالاتي المُحلِّقة
لكنني ظللت ألوح لهم دائماً
أنني أصفع الأقوياء
ـ فلترتعدوا ـ
هكذا
الجوعُ دائماً حكاية أرددها
الحبيبة مثلاً
تصورت أنني ذو “غيرة شرقية”
وعندما هاجمنا “قُطاعُ الحبِ”
في الحديقة العامة
وسبوني بأمي وأبي
أعطيت لهم نقودي الأخيرة
على أن يتركونا نرحل
وهكذا وقعتُ على حقيقة تحت جلدي
وصارت خيالاتي هي التي تدافع عن “الشرف”
لا أنا.
دائماً لم أكن شجاعاً
وأنا أشير لأمي أن فأراً يقفز فوق السرير
أحمل الجِريدة ذات الشعيرات الخشنة
وأبحث
حتى يقفز الفأر بين ضلوعي رعباً
ضربت ضلوعي
فخرج الفأر
ولم يخرج الرعب أبداً.
لأبي وجهٌ غليظ
وشفاه كذلك
وأنف أيضاً
وأبداً لم أكن أضحك
وهو يداعب الأخ الأصغر
ليس لأنه يدلـلّه
ولكن لأن الضحك ربما توقف
حينما جف صدر أمي
ولم يعد يدر الحليب المناسب لي
أنا بكيتُ كثيراً
حينما انطلقت من طفولتي صرخاتٌ
وأحرقت مراهقتي
نعم
النيرانُ الصغيرةُ أحرقت لسنواتٍ طويلة
مراهقتي
وظلت الفتاة
أي فتاة
تعني لي أشياء كثيرة
ـ نظرات أبي اللائمة
ـ ابتسامات أمي الغامزة لشاربي الذي خطَّ
وحينما صرتُ شاباً
يفهم جيداً تفاصيله الجميلة
وأخطاءه الكثيرة
لم يعُد يجدي معي
أن أنخرطَ في عملٍ جماعي
كنا قد اكتشفنا التوحد
كسبيل لحل أزماتي مع الجماعة
وكسبيل للخلاص من الفشل
الذي يمتد للُعابي
حينما آكل مع جماعة
ربما لأن أبي أحب أن يدرس لي على المائدة
المائدة التي كانت تشبه دائرةً صغيرة من الخشب
على قوائم قصيرة
بحيث يستطيع أن يمد يده ويلدغني
وسط أفراد الجماعة
وصرتُ أمثل له
مجموعة جراح لا تندمل
طويل.. محدودب جداً.. أتذكر أهداف الخطيب دائماً
وأنسى أبيات “امرؤ القيس”
وحينما فُقته طولاً
صرتُ: مُلحِداً، مُتسرّعاً، ذا عينين مائلتين للفتيات.
طفلي الصغير لم يزد على عدة سنتيمترات
أبي تحول بفعل التحلل إلى رماد
سوف تجرفه الأيام
ليصير ـ ربما ـ
حجراً في منزل رئيس الدولة
بعد عدة قرون
وأنا توّرمت تحت جلدي يقظةٌ صغيرة
أرجو أن أفقأها
ليخرجَ الصديد
أرجو.
حُفرتان مِن ضَحك
هزمتني سرادقاتٌ كثيرة، وضحكتُ في وجوه عابسةٍ، تتشقق الأنسجةُ بوجهي وتظهر حفرتان على جانبي الفم، تتوغلان عميقاً كلما كان الموقف مضحكاً أكثر، وباستثناء لحظاتِ الوداع لم أكن أتجهَّم.
المدينةُ الكبيرة اتسعت، ولم يعُد هناك مُتَّسعٌ للضحك، صرتُ عبوساً وخائفاً من صرخاتٍ تعْدو خلفي، صرخاتُ أبي كانت تفزعني حينما يناديني باسمي، وحينما يرفض رغباتي الصغيرة، كان دائماً مفزعاً بدرجة كافية لقشعريرة تمتد لسنوات دون أن تهزها ـ قِيد أنملة ـ خطابات الحبيبة.
لا تشبه الضحكات ارتطامي بالفاقةِ حينما طلبت فتاة قدحاً ولم يكن معي، كنتُ طالباً ولم أطلب سوى قَدحٍ رخيصٍ، نمشي كثيراً وحينما نتعب كنتُ أتحسس قروشي، صرنا حبيبين أجبرا على تنمية عضلات الساقين، في آخر الطريق ركبت سيارة أحدهم، مدعية أنه محض صديقٍ قديمٍ، قديم ومقرب جداً من الأسرة.
الكلابُ التي خطفت كثيراً من سعادتي، لم تكُن فقط أصدقاء قُدماء وقريبين جداً من أُسَر الحبيبات، بل كانت حيواناتٍ تأكل وتتثاءب وتظهر أسناناً طويلة ومخالبَ قاطعة، تتذمَر لأنني أمشي خفيفاً وأحياناً أغني، كانت الكلابُ تمشي خلفي تنتظر أن أتذكر أصدقاءهنَّ حتى تنْبُح، ربما تدافع عن غرماء لي سرقوني ومدوا أذْرُعَهم في قلبي.
سَرَق الأصدقاء القدامي للحبيباتِ القديمات فلول ابتسامتي زمناً، والكلابُ بقية ما تبقى من سعادة، فلماذا يتوحد بعضُهم بالحيوانات في قلوبنا، أحياناً نتصور “المحصِّل” قطة، ونرى دباً على هيئة رئيس العمل، الحقيقة أن أبناء الطبقة المتوسطة يضعون قططاً ملونة في حجرات منازلهم المميزة، قططاً صغيرة بحجم أحلامهم وانكساراتهم ووظائفهم الصغيرة.
كنتُ صغيراً حينما تلبّس الخوف أبناء ثلاثاً وأماً، كنت أقربهم إلى الأرض، وكلابٌ تعوي في الأمام والخلف وعلى الجانبين، بحيث ملأت رؤيتي المخالب وهي تقضم الهواء استعداداً لِقَضْمي، وحينما بدأ العدو يسري بيننا كشعارٍ أسيفْ، تركوني وسط نباحٍ وشخيرٍ وعَدوا جميعاً، عَدوا لدرجة أنهم سكنوا مدينةً وسكنت أخرى، وسط نباحٍ جديد وعَدوٍ مُختلف، وصاروا بعيدين عني في السياسة والنقود وأورام المعرفة.
***
كنتُ جندياً تعيساً، صفعتني رتبٌ ونياشين ونجومٌ صغيرة، وكان طبيعياً أن أكثر من بكاء مرير ودامع، وصار عليّ وحدي أن أنظف حذاء القيادة، وأغسل ملابسها الداخلية، وأنصح الفارين من سطوتها باحتمال المصير..
أسِفتُ لأنه لم يكن لي وطن أغسل في محبته حذاء القيادة، وأغسل ـ لعيونه السوداء ـ ملابسها الداخلية، أسفتُ لأنه لم يكن لي وطن يعلمني الهروب، وبكيت لأن أبي لم بفرط في عادته معي، عاداته التي أورثتني غباء وصموداً: (ألعبُ مرة كل أسبوع، أحفظُ آيات كل يوم، أغني بعيداً عنه، أبكي بعيداً عن الناس).. ولم أفرِّط في الكذب عليهما أبداً: أبي والوطن.
***
حينما مات أبي، كنتُ واضحاً جداً معه، فقدتُ كثيراً من سعادتي حينما اكتشفته بارداً وشاباً وممدداً فوق السرير، لم يكن فظاً ـ لأول مرة ـ صار وديعاً وخائفاً من مجهول بعيد، وهم يجهزون ملابس الموتى وضع قطناً نظيفاً في فتحات الجسد التي لم تخرج شيئا نظيفاً أبداً، ربما يعلن عن مرحلة جديدة في سياسة الجسد، انتظر الماء حتى يفتُر ثم تعرى أمامي للمرة الأولى، رشَّ معطراً رخيصاً، قم صعد لتوه فقو الأرض وبدأ يمشي.
حينما صعد أبي فوق الأرض بمترين وبدأ يمشي، لم يكن وحيداً، جاءت جموعٌ في “المواصلات” للموتى للمشي خلف الموتى الحقيقيين، الذين صاروا باردين فجأةً وشباناً ومُمدَّدين بوداعة.
دُسنا طيناً وروثاً ووصلنا للمقابر، تركناه في معمل تجريب ضيق، ووقف أحدهم يهتف للوداع الجميل وصرنا نسلم نحن الحشود بأيدٍ قوية، كأننا نقيم احتفالية لناجح في “الشهادة العليا”، وصار البعض يضع شروطاً قاسية لنجاح أبي.
ألقينا على هدايه الأخيرة، سلاماً مصحوباً بنوبات تشنج، وصار البكاء شَرْطاً للسعادة، لم أبكْ ولم أُفرط في حزنٍ عليه، فلابد أنه صار سعيداً أكثر حينما خلع كثيراً من لحمه الآن وصار خفيفاً كذبابة، ولابد أنه اختبر مقولاته عن “العدل” و”الله” و”عبدالناصر”:
(خطب عبدالناصر مرة في الأزهر وقال “الله أكبر”.. ودرس أبي سنوات في الأزهر ليعرف كيف يقول رجل أربعين عاماً “الله أكبر”)
لكنني أيضاً لم أضحك، بل توّرم أبي داخلي، يحضرُني فمُه في القطار وعيناه في المترو ولونه في الطائرة، فما المضحك ـ إذن ـ في رجلٍ توقف عن معاداتي وصار شاباً ووديعاً وشديدة البرودة أيضاً؟!.
…………..
*كُتبَت قصائد هذا الديوان بين عاميْ 1995 ـ 1997
*الطبعة الأولى، سلسلة “إبداعات”، الهيئة العامة لقصور الثقافة، عدد رقم 62 ـ شهر يونيو 1998