عبلة الرويني
هدوء الغاضب
صوته الجهوري العالي، أفزع المارة رغم كل محاولاته من أجلهم.. وغضبه الممتد من القصيدة إلي القصيدة، دفع البعض لاختصاره في الشعار (شاعر العدالة الاجتماعية)، (شاعر الواقعية الاشتراكية)، (الشاعر الحنجوري) ….!
ربما (بيانه الشخصي) المنشور في ديوانه الثالث (ظل شجرة في المقابر) وموقفه العصبي الحاد ومفرداته الغليظة، حيث قصيدة النثر في رأيه ضربت القصيدة العربية (قلما علي قفاها)! وحيث القصيدة العربية (أقل انسانية) من قصيدة النثر المسكونة بمشهد الأسي والوجع الانساني!
احتكار النقاء هذا، واحتكار الألم والعذوبة، فعل يتجاوز الغضب إلي العصبية. لكن محمود خيرالله ليس ذلك تماما، أو ليس ذلك فقط.. هو شاعر مختلف.. مختلف عن (بيانه الشخصي) أو انضج، ومختلف عن شعراء قصيدة النثر أو أعمق.
صوت مختلف.. لايزال مشغولا بالسياسة والايدلوجيا والقضايا الكبري (حين تخفف شعراء النثر من أعبائها).. يكتب ـ لايزال ـ عن الفقراء والبسطاء وأصحاب الجلاليب الزرقاء (رغم ان الجلاليب لم تعد زرقاء، أو ربما لم تكن يوما).
لايزال يؤمن بجدوي الصرخة.. فحين ينهار البنيان وحدهم الفنانون من يطلقون الصرخة، تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل.
محمود خيرالله ليس غاضبا تماما (رغم بيانه الشخصي) هذا تناقضه ومراوحته بين القصيدة والشعار.
في ديوانه الجديد (كل ما صنع الحداد) الصادر عن دار (صفصافة) تطل المراوحة.
فجأة يتذكر خطابه السياسي وايدلوجيته الزاعقة فيهتف في القصيدة (يامن رأيتم العجوز ينزف، فهربت سيارتكم بسرعة.. يامن بيننا وبينكم، كل ما صنع الحداد).
مشهد أبيض وأسود، لا يليق بقصيدة حداثية.. هذه الميلودرامية السياسية أفسدت القصيدة.. علي حين تطل العذوبة في قصائد خيرالله المشغولة بقيمها الجمالية.. (فهذا الرأس الممتليء بالحكايات، والذي تبيت فوقه العصافير منذ سبعة وثلاثين خريفا دون ان تتذمر)..
هذا الرأس يكتب لمتعة الحكي وفرحة القصيدة.. أكثر من قصيدة بالديوان يشير خلالها إلي فعل الكتابة بمحبة فهو يكتب قصيدة عن نفسه (كأنه يصالحها).. (كل هذا العمر فقط من أجل أن يكتب القصيدة).
هذا الفعل الجمالي هو منتهي الطموح، ومنتهي الفرح، ومنتهي الحرية أيضا..
اعترف الآن اني سعيد
رسمت سحابة لأمي، لكنها لم تصل
زرعت شجرا في قلبي
لكنه لم يثمر بعد
اليوم، فعلت ما يحلو لي
محمود خيرالله ليس غاضبا تماما، أو ليس غاضبا فقط ليس لأن رسم السحابة أكثر أهمية من وصولها ولكن لأن أبطاله عاجزون وموتي.. جميعهم صامتون ليس ثمة أصوات أو حركة أو انفعال وغضب، مشهدية صامتة تؤكد عجز الجميع.
(الرأس ثقيلة كمن يذهب للحرب بمفرده) رغم ان الغاضب الحقيقي علي استعداد لأن يذهب للحرب بمفرده لكن المشهد داخل الديوان مثقل بالهزيمة والأسي.. هزيمة تغرق في شقائها دون طاقة علي الفعل أو الغضب.
……………..
*جريدة الأخبار 11 فبراير 2010
