محمود قرني
“ظل شجرة في المقابر” هو الديوان الثالث للشاعر محمود خيرالله الصادر 2005عن دار البستاني، بعد ديوانيه “فانتازيا الرجولة” عن سلسلة إبداعات بالهيئة العامة لقصور الثقافة 1998، و”لعنة سقطت من النافذة” عن دار ميريت2001.
ومحمود خيرالله واحد من شعراء قصيدة النثر الطالعين على غير الهوى العمومي الذي أشاعته النثرية الجديدة، يناهضها ويشتمها ويكتبها ويتثبت في كل قصيدة من أنه يخالف النمطية المجانية، حسبما يتبين ذلك بجلاء من نصوص شجرته الجديدة، ومن البيان اللاذع والغاضب الذي ذيل به ديوانه.
يقتفي خيرالله أثراً أيديولوجياً عالقاً بأطراف أصابعه، يخامره حيناً ويطلقه إلى قلب الشعر في أحيان أخرى، وفي كل الأحيان فإن “وصفة” محمود خيرالله تستعصي أحياناً على الفهم، وتمارس جلداً عزيزاً للذات، بينما تثابر على جهرها بالألم ثم تفضحه، أو تجرحه إن شئنا الدقة، وكأن شفرات الشعر بمدلولاته الاجتماعية يجب أن تكون دائما نصلاً أكثر حدة من مسي حلاق الصحة ومن خطباء المنابر الجائلين، الذين جفَّت ألسنتهم من الإسراف في الكذب والرطانة، وسوف نعود إلى الأمر بشيء من التفصيل عندما نصل إلى البيان الذي تذيل به كتاب خيرالله الجديد.
في البدء ما من أحد يشك في أن قصيدة النثر قد أنجزت لنفسها عدداً من الملامح الراسخة التي ربطتها بهذا المنجز في صيغته العربية، وإن ظلت هناك العديد من الأفكار المشوشة المتداخلة حول هذه الكتابة، وما يجب عليها فعله وكأن الشعر يجب أن يكون فاعلاً دائماً، دون معرفة بنوعية الفعل، حتى يتحول الفعل نفسه بديلاً للشعر، التماهي ـ في كل الحالات ـ بين الفعل الذي يمثل التجربة، والشعر الذي يمثل نفسه عبر تاريخه الجمالي يقتل الاثنين معاً، لأن الأمر ينحسر في النهاية ليكشف عن قدمين هامدتين من الرخاوة والاستسلام، وهنا يحاول محمود خيرالله أن يفعل فعل الخروج على تاريخه وفاكهة ماضيه وعلى أقرانه الأقرب زمنياً وجمالياً.
وإن لم أكن متعاطفاً مع الملامح المجانية التي قصرت جمالية قصيدة النثر في عدد من الملامح التي منحتها بؤساً إضافياً، إلا انني لا أستطيع فهم الشعر الذي يجرح في خشونة ويقتل بينما يمشي في جلال، فالمناقشة هنا أو الرغبة الملحة في الخروج على النمط ليست كافية وحدها لتحقيق اختلاف جذري مدعوم بعدد من الجماليات الأكثر اتساقاً، وكما أن الأعمال ـ في الشعرـ ليست بالنيات فإن الفرادة التي ينشدها ـ بدورها ـ تحتاج إلى توطئة الأرض المالحة التي تنزلق عليها أقدام المارة دون مقدمات.
لذلك فإن التجربة الشعرية تحتاج إلى المزيد من التأمل والانضاج والقدرة على إعادة تشكيلها في إطار الصراع الوجودي المتصل والدائم والذي يحلو لمحمود خيرالله أن يقدمه باعتباره الصيغة الشعرية الأكثر راديكالية للصراع الطبقي في صيغته الماركسية، وأظن أن الماركسية نفسها التي كانت الاقل مثالية وطوباوية في فلسفاتنا المعاصرة في التعامل مع المنتج الإبداعي قد أعلت دائماً من شأن الحرية المجتمعية التي تنمو في غير انعزال عن المعطى الثقافي العام ضد التدشين الواسع للحرية الفردية كأعلى صيغة تجلت فيها ليبرالية الرأسمالية الأوربية، وربما كان التناقض البادي بين حرية المبدع وبين قيد النظرية وطوقها الحديدي هو الذي يحتاج إلى النظر المتأني، بينما الشاعر الذي ينأى دائماً عن الاستسلام لهذا الطوق يظل محاصراً بدوره التاريخي الذي تمثله جماليات النوع ومحاصراً في الوقت ذاته بولائه الأيديولوجي الذي يحتاج إلى صياغات بديلة في لحظتنا الراهنة.
والإشكالية في جملتها قديمة قدم الشعر نفسه، فالشعر العربي القديم كان محاصراً بأغراضه التي كانت أعلى تجليات الموقف، والشاعر المعاصر استعاض عن الأغراض بالموقف الذي يعني فلسفة وجوده وإطارها المعرفي والثقافي والمجتمعي، وعلى مر الزمان لم يقفد الشعر ـ لدى الشاعر “المطبوع” حسب التصنيف العربي ـ بريقه أو لمعانه أو خصوصيته، بينما ظل الموقف بين الطباعة والصناعة أو بين المطبوع والمصنوع موقفاً غائماً احتمى به الشعر الأقل بريقاً والشعراء الأقل لمعاناً.
في إطار هذا اللغط ينمو التقوُّل وليس القول وينمو شجار الضباع على الفرائس النافقة، وتتمدد رئة الخلافات لا الاختلافات، بينما تظل الشعرية نفسها ضحية مكرمة تسير بها النعوش المزركشة محلاةً بأناشيد ليست من صنعنا بالتأكيد. وكأنَّ “هولدرلن” الذي سار بالحرية إلى شعبه ملفوفةً في كفن من صنع الطغاة كان يبعث برسالة خفية إلى الشعر يريد أن يعترف فيها بأن أسلحة الشعر لا يمكنها حتى أن تدمي أصابع الأطفال، بينما يمكنها أن تحرِّك عيني “ميدوزا” المتحجِّرتين.
وفي ديوان محمود خيرالله الكثير مما يحرك هذه الأحجار التي صنعها الكلس الزماني لمدينتنا وأنظمتنا القاسية، وفيه أيضاً الكثير من الرطانات واللهج وراء أصوات النواقيس التي يقرعها الأطفال خلسةً في أفنية المدارس ثم يلوذون بالفرار، كأنهم فقط يريدون إحداث جلبة دائمة تعبر عن وجودهم.
في قصيدة “الختم” يصل الشاعر إلى أقصى مراحل المزج الواعي والمدرك بين المأساة الشخصية والصوغ الشعري عبر مفردات لصيقة وقريبة و متاحة من واقعه المعاش، بل من تجربته الذاتية التي تستقطر دموع “العمة” السوداء التي تزوجها أعمى قبل ثلاثين عاماً ولم يدخل بها، يقول الشاعر:
“عزيزة عبدالفضيل خيرالله
عمتي..
التي لم يفكر رجل مبصر أن يضمَّها إلى صدره
تزوجت كفيفاً منذ ثلاثين عاماً
ولم يدخل بها،
حضر أبناؤه وضربوه
رموا عمامته على الأرض
وأجبروه على الطلاق”
وهنا تأخذ القصيدة شعريتها من السرود الأقرب لحواس التحفِّزة للعمل تحت وطأة الظرف الإنساني الذي يبدو كقدرٍ أحمق أحاط هذه السيدة التي صارت عجوزاً بكراً فيما بعد، وتمضي القصيدة على نزولها المتأجج والفياض من نقطة ارتكاز أبعد ما تكون عن وعي شاعرها المدبب بالأزمة في صيغتها الأيديولوجية الغليظة، وعبر لغة أبعد ما تكون عن الزركشة تستمد الشعرية حضورها من التضافر المشهدي المتوالي والمتراتب في بناء تسيجه الأخيلة القليلة والشاحبة، يقول خيرالله:
” عمتي ـ تقريباً ـ
تزوَّجت العمامة
وخاصمت الرجال،
مات أبوها
ولم يترك سوى بيت قديم
وعادة قديمة
أن يُشعل النيران في القمامة
ولأنها مسكونة بالنار
كانت تجلس أمامها طوال الليل..”
هذه السيدة التي تحولت إلى أسطورة صغيرة وحميمة تقترب شيئا فشيئا من تجردها عبر الشعرية الشفيفة، فيتحول النقش القاسي على أيامها الطويلة إلى سيرة تحمل النيران التي قدستها إلى مصاف الآلهة البديلة أو الذكورة الضائعة مع رجالٍ لم ولن تراهم حتى يواريها الثرى.
كذلك تستمر نوافذ محمود خيرالله المُشْرعة في قصيدته “خشب ملون”، هناك حيث النوافذ التي صنعها أصحابها خصيصاَ للبكاء فيها، وفي قصيدة “نحن أصدقاء نعوش” حيث تستمر تلك البكائية على راحلين غير معلومين بالضرورة، فقط هم أصدقاء لم يلبثوا أن غادروا أماكنهم، هؤلاء الأصدقاء الذين تركوا بدلاً من محبَّاتهم مأساةً أخرى، وها هو الشاعر يحيا إلى جانب صداقة الفئران، مع ما تحمله مفردة الفئران البشرية من دلالة، يقول الشاعر:
” ثلاثون عاماً هنا
مع الفئران الخائفة
والفئران الهائلة
صادفتها دائما في المدارس والبيوت
وفي مكاتب العمل،
وحين صرت صحافياً
زاملتني الفئران واحتلَّت أدراجي”
غير أن شعرية الديوان لا تسلم نفسها طواعيةً لهذه المشاعر الشفيفة، بل تحقق انتقالات مختلفة إلى مستويات أخرى من الضجيج الشعري الذي يفسر بيان الشاعر القابع خلف الديوان، ففي قصيدته “قليوب” يتناول الشاعر نموذجاً لإنسان الفقر والعوز الذي باع كليته، والآخر الذي عينه والثالث الذي ينام على الرصيف، كذلك يبدو الأمر في قصيدته “في ذكرى الاستقلال” الذي يراه الشاعر وقد أصبح رديفاً للشركات العملاقة و”قاعة المؤتمرات المملوءة بالدببة” وأيضاً قصيدته الخبز وفي قصيدته المقطعية “مثل عمود إنارة في الشارع”يقول الشاعر في المقطع الرابع:
” عاد بلحية من بلاد المملكة
فداهمته الزوجة السمينة
وبقبلة وحضن
أمام عيون المارة”
وفي المقطع الخامس يستكمل الشاعر مشهدَه:
” في همسٍ بليغ
مشت مؤخرة الزوجة
إلى السوق،
طبخت
وفي منتصف الليل
أنَّت مفاصل الزوج
وهو يفتح الباب عائداً“
ولا أظن أن الشاعر محمود خيرالله المأخوذ ببيانه القوي الغاضب، كان يستطيع أن يشارك نفسه في تناقضاتها المشتعلة، بأن يترسَّم لها خطوطاً واضحةً تفصل بين ما هو شعري وما هو خطابي، أو بين ما هو شعري وما هو شعائري، بل يبدو في حالة انتشاء كامل بما حققه من محاولات التثوير الممكنة للمفردة الشعرية وللمعنى الشعري، ولا أستطيع الجزم بقيمة الحصاد الذي جناه الشاعر من وراء قناعته وكثافة بذوره، لكن المؤكد أنه كان في قصائده التي وقعت تحت هذه الوطأة الأبعد عن الشعر، بعكس قصائده الأكثر خفوتاً التي حققت شعرية ظافرة قدمت نفسها دون عناء.
لذلك سأجد نفسي في حال اختلاف مع الكثير المشوش الذي جاء في بيانه من مثل أمثولاته المتناثرة حول الموقف الذي دفعه ـ بثورية أحسده عليها ـ إلى سب التراث الشعري كله، قديمه وحديثه، فشوقي في نظره “التجسيد الأمثل للتكلف والاهتمام البالغ بجمال دون محصول” وكذلك تأكيده على أن القصيدة العربية “غابت زمناً عن الدفاع عن حقوق البشر وإنسانية المواطن العربي”.
وأظن أيضاً أن تأكيده على أن قصيدة النثر “ضربت الشعر العربي قلماً على قفاه” محل شك كبير، إذا لم يكن الشعر العربي ضرب قصيدة النثر قلماً على قفاها، وإن كنت أتعاطف مع الشاعر في كثير من غضبه على المؤسسة الفاسدة بحقن التي أقصت الشعر الجديد بقسوة منذ ما يقرب من عقد ونصف العقد، غير أن ثمة خلطاً بين الكثير من الشعر والكثير من الضجيج، الذي لا يحتمله الشعر بطبيعته.
………………
*القدس العربي11 يناير 2005