حاوره: أحمد الجمَّال
البيت الذي يعيشُ فيه الشاعر المصري محمود خيرالله ويضم مكتبته كان أوسع مما تصورتُ قليلاً، وأهدأ كثيراً من كل توقعاتي، فهو يعيش في واحدٍ من الأحياء البعيدة نسبياً عن منطقة وسط القاهرة “حي المقطم”، كانت الجبال نائمة حول البيت كأنها تحضنه في غفلة من صخب القاهرة المعتاد، وبعيداً عنه، سألته ونحن في السيارة نصعد الجبل الأخير الذي يرتفع بنا أعلى من برج القاهرة عن سبب اختياره العيش بعيداً عن صخب العاصمة التي يأتي إليها الناس من ثلاثة أرباع الأرض، فأجاب قائلاً: الشعراء يجب أن يكونوا قادرين على الرؤية من أعلى، وإن كان الشاعر يعيش يومه وسط الحياة القاسية فعلى الأقل يجب أن يكتب شقاءه بعدما يتخلّص من كل هذا الضجيج.
لم أشاركه الإحساس بأهمية الابتعاد عن الصخب إلا حينما جلست في صالة البيت المحاطة جدارنها بخشب المكتبة ورائحة الكتب، ليس سهلاً أن تكون شاعراً مثل محمود خيرالله تعمل في رأس أكبر مؤسسة إعلامية في مصر ” منصبه الحالي نائب رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون” دون أن تكون مقبلاً على الشهرة أو الأضواء التي يتقاتل عليها كثيرون جداً من شعراء قصيدة النثر المصرية..
حقول مختلفة
مكتبته أيضاً ليست صاخبة، بقدر ما فيها من كتبٍ مهمة ومتعددة المجالات بصورة يحسده عليها الآخرون، وأنا واحدٌ منهم، لاشك أن مكتبةً تضم مجموعة من أهم الروايات والأشعار العالمية في أفضل ترجماتها ومجموعات “قصة الحضارة” لويل ديورانت وموسوعات “وصف مصر” ترجمة زهير الشايب و”مصر القديمة” لسليم حسن في التاريخ كلها جديرة بالحسد، فضلاً عن اهتمام خاص بكتب الفلسفة من الوجودية إلى الإسلامية، واهتمام بمجموعة سلسلة عالم المعرفة كاملة وسلسلة المسرح العالمي، ومجموعات الكتب السياسية التي تبدأ من “صدام الحضارات” لصامويل هنتنجتون ولا تنتهي عند مؤلفات محمد حسنين هيكل وألفين توفلر وإدوارد سعيد، كان من اللافت أن مكتبته تضرب في حقول معرفية شتى، ركن السيرة الذاتية وحده كان عامراً بالاسماء: كزانتزاكس الذي دوّن سيرته تحت اسم “تقرير إلى جريكو”، رسول حمزاتوف سماها “بلدي” والهندي طاغور أطلق عليها اسم “ذكرياتي”.
حياة معقدة
خطر على بالي أن أسأله عن التنوع الكبير في الاهتمامات قبل أن ألحظ ركناً خاصاً بالدراسات الشعبية، أو الفولكلور، قلت: لا يحتاج الشعراء إلى كل هذه القراءات في زمن قصيدة النثر.. أليس كذلك؟
فقال خيرالله : في كل زمن يحتاج الشعر إلى هذا النوع من التنوع، المكتبة هي الأم التي يجب أن تجد عندها كل ما تريد، خصوصاً إذا كنت ممن يظنون مثلي أن العالم يصير أسوأ مما نظن، تجد أحلاماً في دواوين الشعر والروايات تحاول أن تفسِّرها بكتب السياسة، الحقيقة أن الحياة صارت مُعقَّدةً بما يكفي لتمضية نصف أعمارنا لتفسيرها، وربما ـ بكل أسف ـ لا تكفي، أشعر دائماً أنني بحاجة إلى اقتناء المزيد من الكتب، تخيل أن رواية “البحر البحر” للكاتبة البريطانية إريس مردوخ قرأتها بعد عشرة أعوام من اقتنائها، ووجدتُ فيها ما أظن أنه أجمل طاقة على الحكي، هذه ذخيرة الشاعر، عرق المكتبة التي أقتنيها لاشك يسيل في قصائدي.
وينتقل خيرالله بالحديث إلى أول كتاب اشتراه قائلاً:
ستندهش إذا قلت إن أول كتاب اقتنيته في حياتي كان سبباً لتوجيه أكبر صفعة على وجهي، حين كنت في الصف الثاني الإعدادي كان محمود درويش أصدر ديوانه “هي أغنية” وكان أبي أزهريّاً يحب القراءة، حصلت على العيدية اثنان من الجنيهات في عيد الأضحى، وذهبت إلى مكتبة تبيع ديوان محمود درويش لأكتشف أنه بثلاثة جنيهات ، فحصلت على النسخة شريطة أن أحضر ما تبقى فوراً وحين حكيت لأمي القصة طالباً أن تمنحني الجنيه صفعتني على وجهي كأنها تلومني، غضبتُ وأنا أدافع عن إعجابي بالكتاب لكنها كانت تكره أن أضيع أموالي على الكتب مثل أبي، منذ هذه اللحظة لم أتوقف عن شراء الكتب وعن الإحساس الدفين بصفعة جارحة كلما اشريت كتاباً، منذ العام 1985 وأنا أشتري الكتب دون أن أنسى أنها عالجتني من كثير من الصفعات فيما بعد، أشعر أحياناً أن صفعة واحدة تكفي لكي تحب القراءة للأبد.
الشعر لا وطن
حين اكتشفتُ ركن الشعر وجدتُه مهتماً بالغربي منه ويضع الشعر العربي بعيداً، ومن دون اهتمام، فتذكرت أن أغلب شعراء النثر يميلون إلى الشعر الغربي، ومحمود خيرالله أصدر قبل أيام ديوانه الرابع “كل ما صنع الحدَّاد” عن دار نشر مصرية جديدة هي صفصافة، وهو يحتفي بالإنسان وقضاياه ربما بشكل لم يعد مطروحاً على الشعرية العربية، هل هو نوع آخر من التأثر بالغرب،قطع عليَّ متابعتي في ركن الشعر بقوله: الشعر لا وطن له لأن عذابات البشر وآلامهم موجودة في كل مكان، طاغور كتب قصيدة ذات مرة عن أجمل قطرة ندى في العالم والتي ظل يبحث عنها في كل بقاع الأرض، وحين عاد إلى بلاده في الهند وجدها على الشجرة التي تقف أمام بيته، نعم الشعر يحتاج إلى التأمل، والكثير من شعراء العالم تركوا بصماتهم علينا نحن شعراء العالم العربي وهذا ليس عيباً.
قراءة من الشمال لليمين
لدى محمود اهتمام خاص بالفن التشكيلي والنقد الأدبي والثورات السياسية، ومكتبته عامرة بالمؤلفات المهمة في كل هذه المجالات، فضلاً عن التاريخ المصري، كنت أريد أن أسأل عن الفائدة التي يجنيها الشعراء من قراءة التاريخ، لكنني فوجئت بأن كتباً باللغة الانجليزية تحتل رفاً في مكتبته فسألته: لماذا يظل المثقفون العرب بحاجة إلى الاطلاع على الثقافة الغربية بلغاتها، هل تجيد القراءة بالانجليزية، لكي تحظى بالاطلاع على لغة أخرى فقط؟
أجابني خيرالله مباشرة أحاول أن أقرأ بالانجليزية، أساتذتنا علمونا أن عقولنا لن تتحرر إلا حينما نقرأ من الشمال إلى اليمين مثلما نقرأ من اليمين إلى الشمال، والحقيقة أنني أستمتع بقراءة الروايات الأجنبية بلغاتها، كأنك تشاهد فيلماً أجنبياً دون أن تكون بحاجة إلى الترجمة، البعض لا يقدر خطورة أن تقرأ بلغة أخرى تضيف إلى وعيك ومعارفك، ويبدو أنه قدر الشعراء أن يخطو دائماً إلى المجهول ليحصّلوا روعة اكتشافه.
بين الكمبيوتر والورق
تركت بيت محمود خيرالله حينما بدأ الليل يرخي سدوله على البيوت القليلة التي تتدفأ وسط الجبال في منطقة المقطم، دون أن أسأله عن أشياء كثيرة لفتت نظري في مكتبته العامرة بالمعرفة، نسيت أن أسأل عن أعداد مجلة الكرمل الفلسطينية التي أصدر منها محمود درويش تسعين عدداً قبل أن يلقى وجه ربه، نسيت أن أسأله عن مجلات الطريق اللبنانية وفصول المصرية والثقافة العالمية الكويتية، فضلت أن أختم حواري معه بسؤال أخير عن الميديا التي جعلت من الكتب الورقية موضوعاً قديماً، خصوصاً أن محمود خيرالله يمتلك في بيته جهاز كمبيوتر عادي ولاب توب خاص به، فقال:
ـ نعم أعشق الكتب رغم جلوسي بالساعات أمام الكمبيوتر، أكتب قصائدي الآن على اللاب توب مباشرة ومنها قصائد نُشرت في ديواني الأخير كل ما صنع الحداد، لكن بالله عليك كيف تستمتع بقراءة سيرة بابلو نيرودا “أشهد أنني قد عشت” دون أن تقرأها في الكتاب الورقي.
…………………
*جريدة المدينة السعودية الأربعاء :10 مارس 2010