مرسي يحيى
يتميز ديوان محمود خيرالله “فانتازيا الرجولة” بدرجةٍ عاليةٍ من الانحياز، وذلك في ضوء مقولة مابعد حداثية تقول إن الحياد محض وهم، إذن إلى أي شيء يتجه هذا الانحياز الواضح؟ لليومي المعاش والجزئي والذات الفردية والهم الخاص ..نعم، ـ وعلى مستويات عدة: سياسية واجتماعية وإبداعية أيضاً ـ ولكن هل أسقطه هذا الانحياز في المباشرة الفجَّة والمألوف الممل والتفاصيل الهشَّة، كما سقط غيره من المنحازين؟
الإجابة على هذا السؤال المهم والمحوري هي سر تميز هذا الديوان من وجهة نظري، “فهناك وظيفة يبدو أن الشعرية الحديثة تجعلها مناط التعبير الأولى في جملته، يُطلق عليها “وظيفة التحرير من الآلية”، يرى شلوفسكي أن التقابل بين اللغة الشعرية واللغة اليومية يصبح مقابلاً للتلقي المحرر من الآلية إزاء التلقي الآلي، فكما أن الناس الذين يعيشون على شواطيء البحار يعتادون دائماً على هدير الأمواج فلا يكادون يسمعونها، فإننا لنفس الأسباب لا نكاد نسمع الكلمات التي ننطق بها أو التي تعوّدنا أن تُقال، فأصبح تلقينا للعالم ـ بفعل العادة اليومية ـ يخبو ويتضاءل، حتى لا يكاد يبقى منه سوى ما يكفي للتعرف البسيط.
إن هذه الخاصية الآلية للغة اليومية هي التي يحاول الفنان مقاومتها والتصدي لها بأداة محددة هي “اللغة الشعرية” بكل ما تتضمنه من أشكال.
ومن ثم فإن اللغة الشعرية هي أداة التحرير من الآلية الي يتم بها تثبيت عملية التلقي لا على الأشياء، وإنما على الرسالة الناقلة ذاتها، فغاية الفن ـ كما يُقال ـ هي إعطاء انطباع عن الشيء يُمكن وصفه بأنه رؤية له، لا مجرد تعرف عليه.
هذا المبدأ الأساس في تحرير الآلية يقوم بدور مهم في تكوين ما يُطلق عليه “البلاغة المفتوحة” أي تلك التي لا تقتصر على الأنماط المتداولة المصنَّعة في الأشكال البلاغية، وإنما تتجاوز ذلك إلى الاعتداد بكل ما يتمثل في النص باعتباره شكلاً. “1”
“النصُ خليةٌ تتحرَّك من داخلها ـ بحسب تودوروف ـ “2” ومن هنا كان لابد من التأكيد على أن الشعرية الحديثة ـ المعاصرة تحديداً ـ برغم محاولات تحطيمها لمقولات البلاغة القديمة إلا أننا لا نجرؤ على تفريغها ـ تماماً ـ من الأشكال البلاغية، كما أننا لا نجزم بمفارقتها ـ تماماً ـ لأشكال البلاغة الكلاسيكية.
المؤكد ـ إذن ـ أن الشعرية المعاصرة رفضت كون الأشكال مجرد زخرف يضاف إلى القول لتحسينه، وانحازت إلى المقولة التي تعتبير الفن يعبر عن شيء لا يمكن قوله بطريقة أخرى.
انطلاقاً من هذا التأسيس الأولي نبدأ في فض غلاف “فانتازيا الرجولة” “3” لندخله مستكشفين جغرافيته، ثم نعطي مفاتيحه لـ “الدال المشع” الذي يزيح أستار النص، فيضيء جوانبه ويكشف عن مقتنياته الإبداعية.
1 ـ رفض المعتاد
رفضاً لما صار اعتيادياً ـ غير مؤثِّرـ كتب محمود خيرالله الشعر، وتأكيداً لهذا الرفض جاء نصه حاملاً أداته ـ الكلمة الصادمة ـ الكاسرة للمألوفات بدايةً من عنوان الغلاف “فانتازيا الرجولة” ثم صفحة الإهداء التي يعنونها هكذا ” عادةً ما يسمونه إهداء” ويبدأ هكذا: ” إليها رغم أنف هؤلاء” وهي تيمة غير مألوفة، ثم تأتي عناوين القصائد لتؤكد المعنى غير المألوف ذاته: ” لماذا ترفع الأحلامُ يديها وتنظر للحائط ـ مخاوف صغيرة تجرح الماضي ـ بضع أشجار شريرة ـ نمد الأيدي ونمسك الذاكرة من الخلف ـ للجيوب والأحذية لا أكثر ـ قبل الموت بدقائق ـ الحقد على صلاح حامد ـ فانتازيا الرجولة ـ يوم عادي ـ حفرتان من ضحك” مروراً بالمستويات العديدة لكسر المألوفات، ولو أعطى محمود خيرالله لديوانه اسما غير عنوان القصيدة ” فانتازيا الرجولة “لاتسق أكثر مع تقنياته ، فالمعتاد الشائع أن تتسمى الدواوين باسم إحدى القصائد، ولكان ذلك أكثر مظاهر هذه التقنية وأبرزها على كسر العادي.
وذلك العادي الراكد الذي يحاول الشاعر هزّه ـ بلطفٍ أو بعنف ـ تتعدد حقوله وسياقاته في الديوان ” اقتصادية ـ سياسية ـ اجتماعية ..إلخ” سواء تضافرت أو تنافرت أو توازت، يهزّه الشاعر ويحاول تحريكه من خلال تماسه بالذات وحركات التأثير والتأثر، بطريقة المونولوج الداخلي، كما سوف نرى.
وإذا كان المستوى الجمالي يتخفى وراء المستويات الأعلى في هذا الديوان فمرد ذلك إلى النوع الإبداعي الذي اختاره خيرالله ليكتب به، فقصائد الديوان ـ في ظل التجاوز لا الإزاحة والإحلال ـ تنتمي إلى نوع ” القصيدة النثرية” التي لا تعتمد جماليات اللفظ وبراعة التركيب أساساً لبنائها، وإنما تعتمد جمالياتها الخاصة في حياة كاملة وواقع متكامل بل وكون مترتب ومتعالق في كلٍ واحد.
إذن الجماليات ليست جزئية على الأقل.
أقول إن العادي الذي يحاول الشاعر هزّه وتحريكه تتعدد حقوله وسياقاته، وإن أظهر هذه السياقات في هذا الديوان هو السياق “الاجتماعي” ويتجلى في صورٍ ثلاث:
1 ـ عامة: ويمثلها بعمق قصيدة ” الحقد على صلاح حامد”
2 ـ أسرية: ويمثلها بعمق قصيدة “فانتازيا الرجولة”
3 ـ ذاتية : ونلحظها بكثافة في نهايات القصائد ، وسوف ألتقها هنا بسرعة، لتسليط الضوء عليها في هذا الموضع من القصائد، على الرغم من وجودها بوفرة أيضاً في فضاءات النصوص:
” وحينما أحسستُ بدمائي تسيلُ على البلاطات الباردة
قرَّرتُ أن أبني حزناً يمتد ثلاث محطات مترو
أو أزرع شجراً يُدمي قدمي السماء
حتى أستطيع أن أرفع عيني في وجه المترو ثانية” من قصيدة “كان يا ما كان”
“مرة واحدة أستطيع بها أن تصارع المكاتب من جديد
وتخرج عن جسدك أحزاناً لا تليق على غيرك” من قصيدة ” من أعلى مرة واحدة”
“فتعود لطموحك الصباحي بالقراءة
وتأخذ المخدات كل أحزانك
وتتركك عارياً” من قصيدة مخاوف صغيرة تجرح الماضي..
2 ـ الدال المُشع / ضميرالغائب
تلفتنا مباشرةً في الديوان بعامة تلك التقنية التي تمتد جذورها إلى فن المسرح والمعروفة بـ “المونولوج الداخلي” فقصائده تقوم كلها ـ ولا أقول تقريباً ـ على هذه التقنية الألصق بالذات والعالم الداخلي للشاعر، وإن كان من خلال هذا الداخل يتواصل ويناقش، بل ويرفض الخارج المحيط، وهذه الجدلية المستمرة بين الداخل / الخارج تستعين كثيراً بأداة تُعد أهم آلية من آليات تقنية المونولوج، ألا وهي توجيه الخطاب لمخاطب / آخر، وإن كان الخطاب داخلياً، فضمير المخاطب المتمثِّل في (الكاف) أو (أنت) نراه يتخلل هذه النصوص ويمارس إشعاعه فيها بطريقة ملفتة، كما لاحظناه في المقتطفات السابقة، فهناك دائما في نصوص الديوان آخر مخاطب تخاطبه الذات، وتأسيساً على ذلك سوف أعتبر هذا الضمير هو الدال المشع في الديوان كله، ولنقرأ قصيدة بعينها لنبين مدى إشعاعه وحيويته في إضاء النص.
3 ـ قصيدة “مخاوف صغيرة تجرح النص”
هذا العنوان ـ للقصيدة المختارة ـ يحمل في بساطته تلك المخاوف الصغيرة التي تعبث أو تجرح الماضي، الماضي كخلفية تأسيسية للوجود وللكينونة يحمل “الحلم” ويرعاه، ولولادة ذلك الحلم لابد من مخاض ودموية تتمثل في محاولات خروجه للحياة / الواقع، والوجع المصاحب، وتلك أشياء ربما تجرحه أو تشوِّهه.
أ ـ تعلن القصيدة منذ البداية عن محاولة إجرامية لجرح هذا الماضي / الحلم / القصائد حين يحاول التحقق بالواقع:
” كيف يفرك القصائد
تحت قدميه،
وكفي الطويل يحول بين الدمعة والموكيت“
وهي الحركة الأولى للنص وهي تمثل خروجاً مباشراً للحلم / الذات / القصيدة إلى الواقع، وتلقِّيها صدمة المواجهة الأولى، ثم العودة محمِّلةً بالجرح والدمعة، ولنبدأ منذ الآن في مراقبة الدالن فالنص برغم بساطة بنائه إلا أنه مع القراءة التالية يتكشَّف تشكله من حركاتٍ ثلاث:
ـ خروج من الذات إلى الواقع مباشرةً
ـ رجوع إلى الداخل مباشرةً
ـ عودة إلى الواقع مع بعض الحذر
ب ـ تبدأ الحركة الثانية “ب” بعد انكسار الذات على جدار الواقع وانشطارها داخلياً، فيبدأ ضمير المخاطب/ الدال المشع في فعالياته لتحريك النص:
“هكذا تهرول نحو بيتك”
ولنقرأه هكذا: ( أهكذا تهرول “أنت” نحو بيت “ك” لتأكيد سطوة هذا الضمير”أنت ـ ك” ودوره في تفعيل الحوار الداخليللذات بعد انشطارها وبدء الانكشاف ومحاولات إعادة الصياغة لعلاقات الذات بالآخر.
ثمة هرولة نحو البيت بعد الاصطدام بالواقع الخارجي، وهو ما يُعرف في علم النفس بالحنين إلى رحم الأم كحماية:
” أهكذا تهرول نحو بيتك،
وعلى خديك بقايا شجر يشبه السيول الأخيرة”
ثم يُحرِّك الدال المشع الوعي فيبدأ اكتشافات الأخطاء:
“كان عليك وأنت الفارع ( لاحظ الحس الساخر هنا وهو كثير في الديوان)
أن تختصر قليلاً من طموحك الصباحي بالقراءة
وأن تقلل من شراهة المخدات لأحزان رأسك”
ثم يكون التجهيز بالخطة والأدوات والميكانيزمات من خلال الحوار الثنائي للذات “مخاطب ومخاطِب” داخلياً:
ولكي تستطيع هذا فعلاً
لابد أن تمسك بيقين غريب
همومك المسائية
وتفك رويداً أزرار صدرها
وحين تصل إلى فخذيها
عليك أن تصب في جيبك ـ العاري أيضاً ـ
قليلاً من الدموع،
حتى لا تكون سعيداً طوال الوقت
فيحسدك الآخرون”
وهنا تنتهي الحركة الثانية للنص، وقبل الدخول في الحركة الثالثة أريد أن أمسك أولاً بسمات المونولوج عند محمود خيرالله، فالمونولوج الداخلي عنده يتميز بالشفافية، كما تعنيها الحداثة، من كون الدال معبر عن مدلوله تماماً، وأيضاً كما تعنيها الرومانسية من كونهاـ أي الشفافية ـ رقة وعذوبة وعتاب رقيق في غلافٍ من الشجن والأسى، ونلحظ ذلك من غيلب أفعال الأمر ـ الثائرة أو المنثورة ـ عن خطابه المنولوجي، حتى في أعلى حالات الثورة والاستعداد للمواجهة الآلية لم يأتِ بفعل الأمر، وإنما جاء بالمضارع المسبوق بـ “لابد أن”.
ج ـ الحركة الثالثة للنص تبدأ ـ استعداداً للعودة إلى الواقع مع بعض الحيطة ـ بالإعلان عن وهم أو خديعة “الشعارات الكبيرة” وبالتالي كان هذا الرجوع للواقع رجوعاً حذراً متأنِّياً خالياً من أية رعونة أو مواجهات مباشرة، الأمر الذي أثر غلى الذات، فتخلَّت عن كثير من نضخمها والتصريح برأيها ـ في رحلة عودتها الجديدة ـ احتماء من فؤوس كثيرة قد تقطع القلب:
“وإذا كانت الشعارات الكبيرة في الصحيفة تزعجك
فهناك فؤوس تقطع هذا النوع
لكنها قد تقطع قلبك أيضاً
فتعود إلى طموحك الصباخي بالقراءة
وتأخذ المخداتُ كل أحزانك
وتتركك عارياً”
خلال هذه الرحلة ثلاثية الحالات نلحظ التالي:
1 ـ خلو الحركة من ضمير المخاطب تماماًن فالذات هنا بريئة المطامح والنوايا لا تحمل من خبرات الحياة كثيراً ولا تزال ملتئمة.
2 ـ حيوية الدال المشع / ضمير المخاطب في الحركتين التاليتين: فليس ثمة سطر يخلو منه، بل يتعدد ويتكاثر ويملأ الفضاء في بعض الأسطر:
“عليك ” ك” أن تصب “أنت” في جيبك “ك” ..فتعود “أنت” لطموحك “ك” .. إلخ
فالذات هنا انشطرت ـ بعد الانكسار ـ إلى مخاطِب / مخاطَب ، ولعل هذا الانشطار وحضور ذلك الضمير الآخر هو ما أغنى النص وفجر من خلال ذلك المونولوج قضايا الواقع وعلاقة الذات به وجدلية الداخل / الخارج ، وبالتالي استشراف المستقبل ومحاولات العبور إليه بلمح الثابت والمتغير والاعتيادي والجديد.
يتفجّر من قلب الضمير المشع الذي أقام حواراً داخلياً بين الذات والذات فحرك سواكن الأشياء عن طريق الجدل الحواري لتتعدد الرؤية وتنطلق الارض بما عليها، لم يهدا ذلك الدال المشع خلال الحركتين الأخيرتين فكان المنشط الحقيقي لقلب التجربة وتفجير النص كما يتفجَّر قلب الذرة بفعل التنشيط، فجّر هذا الدال المشع النص فأثار في فضاءاته تلوثات كثيرة منها : كسر المألوفات الاعتيادية ـ السخرية المرة من الذات والآخر ـ إعلان الرغبة في تدمير الساكن ـ قلب الأشياء المقلوبة لتعتدل ـ إعلان القسوة أحياناً وقت الرفض ـ رؤية القبح بالتحاور والجدل ـ استحضار الموت والدقائق التي تسبقه ـ البوح بالمخاوف ـ فقء التورمات لخروج الصديد ..إلخ” ولولا ذلك الدال المشع / ضمير المخاطب ما أثيرت تلك الهموم بهذا الشكل، فالفن يعبر عن شيء لا يمكن أن يُقال بطريقة أخرى.