أحلام

موقع الكتابة الثقافي art 33
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد جلال

منذ أن خرج الأستاذ محمد خير الى المعاش وأيامه صارت مثل لياليه، دوائر لانهائية من الملل والقلق واليأس، ما ‘ن ينتهي من صلاة الفجر حتى يتسلل الى خارج المسجد متحاشيا الاختلاط بأحد من المصلين، لم تكن هذه حاله من قبل، ولكنه منذ عاد من إعارته في الخليج وهو يشعر أنه يسير على رأسه، كل شيء تغير للأسوأ، سحابة سوداء من الفوضى والقبح والبذاءة تخيم على الكون، يسير في بطء الى جوار الحوائط الأسمنتية السمجة متفاديا جحافل التكاتك وقطعان الدراجات النارية التي ملأت سماء الصباح بالصراخ والصخب، خلطة عجائبية من الأصوات المنفرة تنفجر مع إشراقة كل يوم صانعة سيمفونية من العبث والجنون، أبو إسحاق الحويني وحمو بيكا ومحمد رمضان.

يفتح باب شقته بيده اليمني بينما يقبض باليسرى على طبق الفول وحزمة الجرجير الاخضر، يتسرب ضوء الصباح الذهبي الى داخل الشقة مصحوبا بصوت تحية العلم من المدرسة الابتدائية القريبة، في هذه الاثناء تكون الست “ـم سامي” قد انتهت من إعداد طبق البيض المهروس في السمن البلدي وتسخين الخبز الأسمر الذي أوصى به الطبيب للأستاذ “محمد” مهادنة لداء السكر.

تمضي الأيام هكذا دوما، لا جديد، وكأن المرء بخروجه إلى المعاش ما عليه سوى أن يقبع في بيته منتظرا ملاك الموت، خطر له ذات مرة أن يستأنف حلم الكتابة الذي داعبه لسنين طويلة، غير أنه تراجع عندما فوجئ باجتياح روايات الرعب والروايات الرومانسية للمكتبات ودور النشر.

عند المساء، يتخذ الأستاذ محمد مجلسه بجوار “أم سامي” على كنبته الإسطنبولي الاثيرة، يقزقزان اللب ويشربان الشاي أثناء مشاهدة الفيلم العربي، نجيب الريحاني يصيح بصوته المبحوح في وجه سليمان نجيب “أيوه ضليع في قواعد اللغة العربية زي ما انت ضليع في قواعد الشبت والجرجير والفجل الرومي”…تغرق ام سامي في نوبة من الضحك بينما يحدق الأستاذ “محمد” في التلفاز ذاهلا وكأنه يبحث عن شيء.

يرن جرس الباب، ترفع أم سامي طرحتها البيضاء على رأسها، يدخل أخوها الحاج “فضالي” تاجر الأجهزة الكهربائية في شارع عبد العزيز بعاصفة من الدعابة:

-انتو فين يا ناس يا أندال….كده ما تسألوش على حد.

تقوم “أم سامي” لتحضر الشاي بينما يجلس الحاج “فضالي” بجوار صهره الأستاذ “محمد خير”، يميل نحوه هامسا في ود:

– طمني عليك يا “أبو سامي”..أخبارك إيه وأخبار صحتك ايه؟

– والله يا “فضالي” هاموت من الملل..الأيام كلها بقت شبه بعضها.

تضع “أم سامي” الشاي على الطاولة فيما ترحب بأخيها الحاج “فضالي” وتستفسر عن صحة زوجته والأولاد.

يصمت الحاج “فضالي” لبرهة ثم يتهلل وجهه فجأة قائلا:

– طيب ايه رأيك تفتح الغرفة اللي على الشارع وتحولها لمحل أدوات كهربائية؟

-ولكني مبفهمش في الحاجات دي؟

-من الناحية دي ما تقلقش…اترك الموضوع علي أخوك “فضالي”.

يجلس الأستاذ “محمد خير” أمام المحل وقد تراصت خلفه اللمبات والمصابيح وخراطيم الكهرباء البرتقالية ومفاتيح الكهرباء بأنواعها، يشعر لوهلة وكأنه ينظر على نفسه من كاميرا مثبتة في مكان مجهول، يخيل إليه كما لو أن الجالس أمام المحل شخص آخر سواه.

يحدق في المارة ويراقب تحولات الزمن، يبدو كل شيء غريبا امامه، لا يدري ما سر هذه الحالة، هل هي بسبب سفره الطويل ام ان الزمن قد مسخ كل شيء.

بينما هو غارق في تأملاته، يلاحظ هذه المرأة التي رصت أمام محله أكواما من التفاح والبرتقال و الكرنب والقرنبيط والباذنجان الرومي، يحدق فيها مندهشا ويتساءل متى جاءت ومن أي مكان أتت.

تلاحظ المرأة تحديقه فيها فتهرول ناحيته على استحياء:

– معلش يا اخويا.. أنا عارفة إني عاملة لك أزمة برصة الخضار دي…بس إلهي ينوبك ثواب ما تكسر بخاطري.. أنا باجري على يتامى.

لا يدري سر هذه النشوة التي غمرته عندما اقتربت منه، شعر كما لو أنها “أودري هيبورن” متنكرة في دور بائعة للخضار، كيف لصاحبة العيون العسلية والصدر الناهد والغمازات الساحرة أن تكون بائعة للخضار.

مرت الأيام والأستاذ “محمد خير” يزداد تعلقا بتلك المرأة الغامضة، “أحلام”، يا له من اسم شاعري، كل ما فيها استحوذ على قلبه، قوة شخصيتها وحنانها البالغ وذلك النور الذي يشع من عينيها…، حتى انه كان يتابعها وهي تتحدث بلباقة مع الزبائن بغمازتيها الساحرتين ويخيل اليه كما لو انها كانت تعمل سابقا في السلك الدبلوماسي أو الحقل الاعلامي.

هل أحبها كما يحب الرجل المرأة؟ لا…هي تصغره بأعوام عديدة..علاوة على ذلك هو يحب زوجته الست “أم سامي” رفيقة مشواره..اذن ما هو سر ذلك الانجذاب؟

الاغرب من ذلك هو هذا الموقف الذي حدث ذات صباح شتوي بارد عندما كان يقرأ رواية ” دعاء الكروان “..كانت الشمس تطل بخجل من وراء الغيوم فيما جلس الأستاذ محمد مستغرقا في القراءة، تدخل “أحلام ” الى المحل لتناول بعض الماء البارد، بينما ترفع الكوب الى فمها لمحت الرواية في يده، مدت يدها بلطف لتتحسسها فلامست اصابعها أصابعه، ارتسمت على وجهها ابتسامة رقيقة وهي تسأله “تفتكر المهندس احب آمنة فعلا؟”

 ذات مساء، كان الأستاذ محمد كعادته يرقب حركة الشارع فيما يجيل عينيه بين المارة وبين “أحلام”…وبينما هو غائب تماما في مشاهداته وتأملاته، ظهر من العدم شابان على دراجة بخارية هيئتهما غير مريحة، يشبهان الى حد كبير هؤلاء الذي يظهرون في برامج الجريمة جالسين القرفصاء بجوار الحائط…مد احدهم يده بلمبة كهربية صائحا بنبرة ممطوطة:

– غير لنا اللمبة دي يا حجووووج علشان محروقة.

– يا ابني انا اول مرة اشوفكم وانا اصلا مش بابيع النوع ده.

هنا صاح الشابان بالاستاذ “محمد” واطلقا عليه وابلا من السباب والشتائم المقزعة حتى أنه قام مذعورا ليجلب لهم لمبة جديدة عوضا عن لمبتهم المحروقة…وبينما يمد يده باللمبة الجديدة لأحد الشابين فوجئ بشبشب نسائي ينقض مطرقعا على رأسي الشابين لاعنا آبائهم واسلاف اسلافهم مما اضطرهم للفرار كالجرذان.

أمسكت “أحلام” بيده التي كانت ترتعش واجلسته على الكرسي بينما وجهها يفيض بالدفء والحنان:

– يا سي محمد مش كل الناس تنفع معاها طيبتك دي…لازم تخشوشن شوية يا اخويا.

تبتسم “أحلام” بينما يجاهد الأستاذ “محمد” لإخفاء الدموع التي راحت تترقرق في عينيه.

كثر القيل والقال وتناقل أهل الحي سيرة “أحلام” مع الأستاذ “محمد ” حتى أن الست “ام سامي” قد تناهت اليها الاخبار واسرعت باكية لمنزل اخوها الحاج “فضالي”، كانت ترغي وتزبد وتتمتم بكلمات غير مفهومة عن رغبتها في الطلاق.

 يجلس الأستاذ “محمد” حزينا مهموما أمام المحل، يرفع كوب الشاي الى فمه في تثاقل ويفكر في حل للمعضلة التي ألمت به، فجأة يظهر الحاج “فضالي” على ناصية الشارع وحوله مجموعة من البلطجية والمشبوهين، كانوا يحثون الخطى صوب المحل والشرر يتطاير من أعينهم، هجموا على فرشة “أحلام ” وركلوا بأرجلهم اكوام الخضار والفاكهة لتتفتت في الشارع تحت اقدام المارة، جرجروا “أحلام ” من شعرها الأسود الفاحم على الأرض وسط تفاحاتها وبرتقالاتها، راح المارة يراقبون ما يحدث دون ان يرف لهم جفن،حتى أن بعضهم اخرج هاتفه المحمول ليصور ما يحدث، تصرخ “أحلام” مستنجدة بالأستاذ “محمد خير”، “الحقني يا استاذ محمد “، تتعالي صيحاتها، “يا أستاذ محمد الحقني “، تتكرر الاستغاثة الملتاعة، يدوي صدى التوسلات في سماء الحارة بلا مجيب، كل الاعين تبحث عن هذا الأستاذ “محمد” الذي سيهرع حتما لنجدة “أحلام “، الأستاذ “محمد” غير موجود في مكانه المعتاد، وكأن ثقبا اسودا قد انشق في الفضاء وأبتلعه، صوت أنين خافت راح يتصاعد من داخل المحل، في أحد الأركان المظلمة وبين كراتين اللمبات وأكوام الأسلاك والخراطيم، كان هناك رجل تسيل على وجنتيه الدموع بينما تفيض روحه الى السماء.

 

 

مقالات من نفس القسم