قراءة في رواية “العجوزان” الجميلة المؤثرة

العجوزان
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ميّا قاسم

المرةُ الأولى التي سمعتُ بها اسم “جار النبي الحلو” كان بحلقة تلفاز مع رفيق عمره “محمد المنسي قنديل”، حين استمعت للاسم وقعت في حبه فعلاً، وحين رأيت وجهه العجوز الدافئ أحببت الاسم أكثر، وحين استمعت لحكاياته الدافئة مع صديق عمره.. علمتُ أن اسمه سيعلقُ بذهني للأبد.. في تلك الليلة اكتفيت بالاستماع للحلقة وأحاديثهم عن بدايتهم في الكتابة وما هو أبعد من ذلك بكثير.. عن بداية صداقتهم.

لا أعلم لماذا لم يخطر ببالي حينها أن أذهب وأبحث عن مؤلفاته مثلما أفعل في كل مرة أقع فيها على اسم كاتب من الأجيال الذهبية؛ ربما لأن شعور انتظار الأشياء الجميلة أكثر رِقة من شعور الاستمتاع بها، ربما أردت أن أخبئه لفترة صعبة بحياتي؛ بالتأكيد لن تكون كتاباته أقل رِقة من وجهه، ولن تكن حكاياته أقل دفئًا من حديثه، إذن نحن الآن عثرنا على كنز، يجب تحري الدقة في اختيار الوقت المناسب لفتحه.

-„أنا رفيق عمره، تعرفت عليه بالمدرسة الثانوية، كنت ألعب الكرة وكان يحفظ قصائد صلاح عبد الصبور، كنت أحب السينما وعبد الحليم حافظ وهند رستم، وكان يفكر كيف نشأ الكون؟! “.

ثم وقعت على هذه الرواية، “وقعتُ” هو التعبير الأكثر دقة فعلاً، وقعتُ من عليين وتلقفتني برقة وهشاشة رواية «العجوزان»، وبأعجوبة نجوت من رِقتها، خِلت أنني سأظل حبيسة هذه القصة للأبد.. أعظم القصص والحبكات الدامية -من وجهة نظري- تِلك التي تفصلك عن الواقع، وتأخذك من يديك لتجلس بجانب الكاتب وتشاهده وهو يقوم بالسحر، ويخلق على الورق شخصيات حيَّة نابضة بالحياة.

رواية العجوزان طُبعت للمرة الأولى عام ٢٠١٦ عن سلسلة دار الهلال. تحكي القصة عن صديقين قديمين، الأستاذ “فايز” ورفيقه “رفيق”، ولا شيء غير ذلك. لا شيء غير ذلك حقًا.

قد تبهرنا دائمًا الروايات ذات الأفكار العظيمة، التي تحمل وجهات نظر غير مُتخيلة في أمور قُتلت بحثًا أو تم معالجتها بأكثر من طريقة، في أكثر من عمل أدبي، فكرة آلة الزمن على سبيل المثال، حين كُتبت للمرة الأولى أثارت حالة من الفزع، رغب الجميع أن يكتب عنها من وجهة نظره، وطُرحت آلالاف المعالجات الدرامية والسينمائية لفكرة القدرة على التحكم بالزمن. دائمًا ما تثير الأفكار الجديدة رغبة القرّاء لمعرفة أحداث الحكاية، وهذا نوع من الإبداع، لكن الشيء أكثر إبهارًا وإبداعًا بالنسبة لي، أن تتناول فكرة بسيطة وغير جديدة، ولا تحاول حتى أن تتطرح بها وجهات نظر جديدة، فقط تعبر عن الشيء العادي الطبيعي الروتيني الممل للغاية، لكن… بطريقة غير عادية.. غير عادية بالمرة!

هذا ما قدمه لنا جار النبي الحلو في هذه الرواية، ليس ثمة صراع بهذه الرواية، ويُمكنني أن أتجرأ أكثر بقليل وأقول أنه ليس ثمة حبكة كذلك، ليس لأنها رواية سيئة أو ضعيفة، بل لأنها لا تتطلب وجود حبكة بالمعنى المتداول للحبكات، من وجود بداية لطرف الخيط وتصاعد في الأحداث مع السببية لكل مشهد يخرج أمامنا على الصفحات، وذروة الصراع ثم الهبوط مجددًا لنقطة الصفر، ربما يكون الصراع الأكثر وضوحًا في الرواية هو محاولة العم فايز للإمساك بالفرخة التي تسللت خلسة لمملكته الخاصة!

في الرواية يقوم جار النبي الحلو بأخذنا في رحلة عجوزين عفى عليهما الزمن ودار وترك أثاره على وجههما، يعرفنا على ما يدور في أذهان العجائز، ويكتب بخفة تصرفاتهم خفيفة الظل، ينقلنا بين الماضي والحاضر من دون ملاحظة حتى أن ثمة قطع في الأزمنة، هكذا تكون الكتابة الرشيقة، أخذنا عم الحلو وأجلسنا بجانبه يحكي لنا عن الأستاذ فايز الذي يحب الكتب، ويحب الحب كذلك، وظل يبحث عنه في ثلاث زيجات متتالية بائت ثلاثتهن بالفشل، وتركته وحيدًا، يحاول العثور على حب حياته من خلال الانترنت، إلا أنه يتعثر بالسن ياسمين صاحبة كشك السجائر والعصير والشيبسي فيقع في حبها.. وعن الأستاذ رفيق حبيب ابنته، وحبه للصيد، وحبه القديم التي زارته مرةً على فجأة، ذكرتني قصة حبهم البسيطة والصورة التي حكى عنها بقصة حب رضوى عاشور والعزيز مريد البرغوثي وصورتهم الشهيرة في مدرج الجامعة حيث تنظر هي للكاميرا و ينظر هو لها.

„لكن أكثر الأشياء التي وددت أن أهمس لك بها سرًا.. لم أهمس لك بها بعد“.

ورغم إن الرواية تبدو بسيطة حيث جائت في حوالي ١٠٥ صفحة فقط، إلا أنها تناقش وتسرد عدة وقائع حقيقية، حيث تحدث عم الحلو عن بعض تفاصيل ثورة الخامس والعشرين من يناير، نعم لم يتطرق إلى شرح أسباب واستراتجيات وربما هذا أكثر ما أسرني، لأنه تحدث عن جانب أخر لم يلتفت له أحد من قبل، تحدث بعيدًا عن الميدان، عن الشوارع والأهالي بالبيوت.. وعن اللجان الشعبية ولحظات الفرح الأخيرة.

هذه رواية مؤثرة.. رقيقة.. وجميلة جدًا. وأعتقد مهما حاول المرء تناول وصفها كاملة لن يستطيع… بالتأكيد هذا لن يكون اللقاء الأخير مع عم الحلو.

مقالات من نفس القسم