البشير الأزمي
عندما اقترب مني وصاح بصوت كَحَمْحَمَةِ خيلٍ جامحة رقَقْتُ لحاله..
اعتراني لحظتئذ فُضولٌ عارمٌ. وددتُ لو أسأله عن سبب قلقه لكن وَجَدْتُنِي مضطراً أن أصمت، أعرف أن أسئلتي لن تمتصَّ غضبه ولن تكبح جماحه. هي ذي عادته كلما أحس بالقلق يغمرُ ذاتَهُ يغدو كحصانٍ جامحٍ عَصِيٍّ على الترويض.
قال إن ذاته غدت ذاتين. يستأنس بالذات التي انبثقت منه وأحياناً يحاورها. ينظر إليها يحدق فيها فيرى ذاتين؛ تختلفان في أمور أكثرَ مِمَّا تأتلفان حولها. بكى بحرقة وقال:
” ملاذي الهادئ الوحيد هو أن أعثر على ذاتي الحقيقية وألفظ الأخرى.. عيلَ صبري وأنا أبحث عنها، عنّي..”.
ظلَّ صامتاً برهة ثم تنهد وقال:” الفراغ يفرغ وحشته في قلبي.. أرى قبري يزحف ببطء نحوي.. تركتُ ذاتي الأخرى تحملُ أفراحي وسعادتي وتترك لي تذمري وخيباتي.. ألتفتُّ خلفي رأيتها تطلُّ عليَّ بوجه عصي على الابتسام.. ما زالت صورته تتمدَّدُ في مخيلتي وهو يسير ويهشُّ الفراغ، غير عابئ بما حَلَّ بي..”.
كلامه وهو يحدثني كَأَرَضَةٍ تنخر دواخلي وتسعى إلى إتلاف عقلي.
من يوم انبثقت من ذاته ذاتٌ ثانية وهو حاد المزاج، كثير الملاحظات والغضب، سريع الانفعال.
” حضور الذات، رؤيتها تَمُدُّني بإحساسٍ غريبٍ، تفور رغباتي.. تَشُدُّ على يدي برفق… أنقاد صاغراً لأفكارها.. أنسلخ من ذاتي وأتوحد بالذات الأخرى” .
قال، ووجهه متغضنٌ وصوتُهُ أَجَش محاولاً إخفاء حنقه، قال ذلك وَمَطَّ شفتيه وتشاغلَ عنِّي ورفع يده في تَذَمُّرٍ. نظرتُ إليه، بدا لي كأنه خرج من الدنيا وترك العالم خلفه وتركني في العراء وحيداً أقتاتُ حسرة وتذمراً، وأشياءٌ داخلي تَتَصَدَّع وأنا أراه يلملم انكساراته.. وجهٌ مُتْعَبٌ رسمتِ المعاناةُ خدوداً عليه في حين مثيله يفتر فمه بابتسامة أسيانة ويمشي في اختيال.
استدار، أَطَلَّ عليَّ بوجه خال من أمارات الحياة، نظر إلي، وخزتني نظرته، ومن نظرته وُلِدَ سؤالٌ:
” لماذا يتضاعف شرخك حين تنظر إليَّ ويتمدد في القلوب؟”.
يمتصُّ الليل ضجيج السؤال، ويتركني مُسْهَداً أُصغي لضجيج دواخلي.
لسعني هواء الفجر، زَرَّرتُ قميصي وأخفيتُ يديَّ في جَيْبيْ سروالي. لم أنتبه إلى البركة أمامي، بلَّلتُ حذائي وجواربي.. تابعتُ سيري وأنا أفكر فيه، فيهما لستُ أدري.. أبعدتُهُ عن ذهني للحظة، وأبعدتُ شبحَ الصور التي تلاحقه. قفلت عائداً، أحسست بشيء يقترب مني، التفتُّ، وجدتني واقفاً إلى جنبي.. تأبطتُ أو تأبَّط ذراعي، لستُ أدري مَنْ تأبط ذراعَ منْ، همس لي:
” دَعِ الحياة تركض في أوردتك.. “..
ابتسمنا وسرنا نذرعُ الشوارع والأزقة تحت جنح الظلام مُتَدَثِّرَيْنِ بسكينةِ اللَّيْل، غير بعيد عنَّا كان الآخر مازال يبحث عن ذاته أو ذاتُهُ تبحث عنه.