د. جمال فودة
صلة الشعراء بالطبيعة صلة وثيقة إذ تعد ـ في مختلف مجالاتها ـ مصدراً من مصادر الإلهام، وإن كانت نظرة القدماء إلى الطبيعة ـ غالباً ـ نظرة خارجية تقف عند حدود الأشياء الموصوفة دون محاولة تعميقها وسبر أغوارها على نحو تمتزج فيه أحاسيس الشاعر بمظاهر الطبيعة، وتخالط روحه روحها، فيتحدث إليها ـ لا عنها ـ ويعبر من خلالها عن كل ما يزخر به وجدانه من خواطر وأفكار.
وإذا كانت الطبيعة هي جملة الكائنات في نظمها المختلفة من أرض وسماء وجبال وأشجار وأنهار…، فإن الشاعر المعاصر لا يقصد إلى تصويرها ورصد مظاهرها، إذ لا تستهويه مفاتنها استهواءً جمالياً يقف منه الحس عند حدود ما يدركه، ويستطيع الإحاطة به من ألوان وصور، وإنما يتجاوز ذلك إلى نوبة من الاستغراق والتأمل يرى فيها نفسه كائنة في كل شيء يحيط به.
فلا يعنيه من الطبيعة وشوشة الريح للنخيل، ولا فهم لغة الطير في نوحه وصدحه، ولكنه يستخدمها ألواناً وظلالاً ورموزاً يضعها في شبكة متخيل جديد يعبر به عن الطابع الشامل لتجربة الإنسان، ويعكس إدراكاً جمالياً لقوانين الوجود وجدل الواقع المعاش.
ومن ثم، فإن الطبيعة في شعر” خليل مطران ” ليست مجرد صور جامدة أو كائنات محدودة، ولكنها روح نابضة يرى في صفائها روعة الحياة وسر الوجود، ويعبر من خلالها عما تجيش به نفسه من مشاعر وأحاسيس، وما يعتمل في ذهنه من رؤى وأفكار.
يقول ” خليل مطران ” مخاطباً البحر:
شاكٍ إِلى البَحْرِ اضْطَرابَ خَوَاطِرِي
فَيُجِيبُنِي بِرِيَاحِهِ الهَوْجَاءِ
ثاوٍ عَلَى صَخْرٍ أَصَمَّ وَلَيْتَ لِي
قَلْباً كَهَذِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ
يَنْتَابُهَا مَوْجٌ كَمَوْجِ مَكَارِهِي
وَيَفُتُّهَا كَالسُّقْمِ فِي أَعْضَائِي
وَالبَحْرُ خَفَّاقُ الْجَوَانِبِ ضَائِقٌ
كَمَداً كصَدْرِي سَاعَةَ الإِمْسَاء
يوحى البحر ـ هنا ـ بعدة دلالات تعمل على تكثيف درجة التوتر الشعرية، فهو بحر صاخب متسع مرعب لا تحده حدود، تعكس أمواجه المتلاطمة أبعاد المخاطر المتجددة والأزمات الحياتية المتوالية التي تحيط بالشاعر، حيث تصبح لهذه الصورة المائية دلالتها المادية والنفسية والرمزية في آن واحد، إذ تسهم في تأكيد شاعرية الصياغة بتحويلها من المباشرة إلى غير المباشرة، فالبحر يجمع بين النقيضين، الأمر الذى يتيح لنا ضرباً من تكثير الواقع وتنويع منظورات الموضوع.
ويبدو هذا على نحو أوضح بتأمل تجاور البنية الذى صاغته شعرية الإبداع ، فالشاعر ينتظر من البحر أن يسمع شكواه، ويخفف من بلواه، لكن هيهات ففي تلاطم الأمواج ثورة تنبئ عن غضب عارم يزيد القلب حزناً، و تلعب بنبضاته رياح هوجاء توحي بالاندفاع والانطلاق، والقوة العاصفة التي تغتال الأمنيات و تبدد الأحلام و تنكأ الجروح، إنها إذ تزمجر أصداؤها المرعبة تقتلع شراع القلب، فتشعل الأنين و توقظ الشجون.
هذه النظرة إلى عالم البحر ـ لاشك ـ تحمل موروثات رومانسية، كان البحر فيها رفيق كثير من شعرائها، بل كان وعاءهم الذى يسقطون فيه ذواتهم، ويعيشون ـ من خلاله ـ عالمهم الباطن، لكن هنا تمرد البحر على هدوئه، وضاق بسكونه، واندفعت أمواجه تفتت الصخر الصلد، فما بالكم بالقلب المتقطعة انفاسه ؟! و في لحظة اختلط فيها الإحساس الداخلي للشاعر بالعالم الخارجي من الطبيعة ؛ فنجد الأفق من حوله تعلوه ظلمة كظلمة روحه.
تبدو هذه المقطوعة الصغيرة حافلة برموز إيحائية و دلالات نفسية، و استبطان لخلجات الوجدان و ومضات الفكر، ذلك أن الشاعر مادامت قد أصبحت له رؤية خاصة في إطار تجربته، ومادام يستعين باللغة الإيحائية و ليس باللغة المعجمية وسيلة للكشف و التعبير، فإن اللفظة تتجاوز معناها المعجمي إلى دلالة خاصة تتسق ورؤية الشاعر.
غروب الأمل :
يَا لَلْغُرُوبِ وَمَا بهِ مِنْ عِبْرَةٍ
لِلْمُسْتَهَامِ ! وَعِبْرَةٍ لِلرَّائي !
أَوَلَيْسَ نَزْعَاً لِلنَّهَارِ، وَصَرْعَةً
لِلشَّمْسِ بَيْنَ مَآتِمِ الأَضْوَاءِ ؟
أَوَلَيْسَ طَمْسَاً لِلْيَقِينِ، وَمَبْعَثَاً
لِلشَّكِّ بَيْنَ غَلائِلِ الظّلْمَاءِ ؟
أَوَلَيْسَ مَحْوَاً لِلوُجُودِ إلَى مَدَىً،
وَإِبَادَةً لِمَعَالِمِ الأَشْيَاءِ ؟
حَتَّى يَكُونَ النُّورُ تَجْدِيدَاً لَهَا،
وَيَكُونَ شِبْهَ البَعْثِ عَوْدُ ذُكَاءِ
تشغل مفردات الفضاء ( الشمس، القمر، النجوم، الكواكب ) حيزاً كبيراً من معجم الطبيعة في شعر” خليل مطران ” باعتبارها مصادر النور / الأمل الذي يرتقب الشاعر بزوغه ليبدد الظلام / اليأس الذى يلف الكون من حوله، وفي ضوء هذه الفكرة رصدنا تفاعل اللاشعور مع هذه الرموز من خلال مشهد الغروب .
يبدو واضحاً اعتماد الشاعر على التشخيص، حيث يصور الشمس مصرع الشمس للإيحاء ببعد شعوري معين من أبعاد رؤيته النفسية، حيث يتعانق الرمز مع التشخيص في وحدة فنية عميقة تكسب الصورة بعداً رمزياً إيحائياً، إذ يشخص مظاهر الطبيعة في صور كائنات حية نابضة بالحياة والإحساس، فتصبح الشمس صرعى وسط مأتم للأضواء!!
هكذا تتحول “الشمس” من كونها رمزاً للنور والدفء والأمل إلى مصدر للحزن واليأس والخوف، الأمر الذي يكشف عن الزاوية التي ينظر منها الشاعر إلى الأشياء من خلال سياق التجربة.
وإذا كان الشروق يعنى بزوغ الأمل، فإن الغروب يشير إلى المعاناة واليأس، إذ تغرق الآمال في بحر الظلمة، ويعكس الصراع بين النور والظلام الليل حالة الصراع بين اليأس والأمل، ذلك أنه كلما بعثنا في دجانا قمراً أدركته بالأفول الغيوم !
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالنَّهَارُ مُوَدِّعٌ،
وَالقَلْبُ بَيْنَ مَهَابَةٍ وَرَجَاءِ
وَخَوَاطِرِي تَبْدُو تُجَاهَ نَوَاظِرِي
كَلْمَى كَدَامِيَةِ السَّحَابِ إزَائي
وَالدَّمْعُ مِنْ جَفْني يَسِيلُ مُشَعْشَعَاً
بسَنَى الشُّعَاعِ الغَارِبِ المُتَرَائي
وَالشَّمْسُ في شَفَقٍ يَسِيلُ نُضَارُهُ
فَوْقَ العَقِيقِ عَلَى ذُرَىً سَوْدَاءِ
مَرَّتْ خِلاَلَ غَمَامَتَيْنِ تَحَدُّرَاً،
وَتَقَطَّرَتْ كَالدَّمْعَةِ الحَمْرَاءِ
فَكَأَنَّ آخِرُ دَمْعَةٍ لِلْكَوْن ِ قَدْ
مُزِجَتْ بآخِرِ أَدْمُعِي لرِثَائي
وَكَأَنَّني آنَسْتُ يَوْمِي زَائِلاً،
فَرَأَيْتُ في المِرْآةِ كَيْفَ مَسائي
إن بنية الدلالة تتنامى لتخلق على مستوى التركيب تقابلاً يتخطى ظاهر اللفظ إلى باطنه، ينزع هذا الغلاف الخارجي فيصل إلى جوهر الدلالة، ليبرز لنا هذا التقابل بين الأمل واليأس،( فالقَلْبُ بَيْنَ مَهَابَةٍ وَرَجَاءِ ) ، وبعيداً عن إطار هذه الدلالات تأفل الشمس ويستيقظ السهاد، ولا يبقى إلا طيف الذكرى يتجلى للروح الحيرى والجسد المضنى، فالكون سديم والشاعر يناغى الشعاع الغارب، ويرصد رحلة الشمس نحو المغيب في مشهد بديع رغم كم الأسى الذي يظهر في خلفية اللوحة، حيث الدمعة الحمراء تمتزج بمدامعه لترثيه، فكانت آخر دمعة للكون، تضع نهاية حياته بنهاية النهار، فتختفي معالم الوجود، وتغرق الكائنات في بحر الظلام !
هذه القصيدة الشجية بث فيها مطران مكنون صدره، وخلجات صدره وآهات روحه، وأودعها أحاسيسه، لقد سطرها بحروف الأشواق المبرحة، والذكريات المضنية، والوحدة القاتلة، فجاءت لوحة فنية متكاملة ومعبرة أصدق تعبير عن أبعاد تجربة إنسانية رائعة جسدت خوالج نفسه المعذبة.
هكذا يتضح لنا أن شاعرنا ليس من عشاق الطبيعة المجردة، وإنما يلجأ إليها ليعبر من خلالها عن شيء أبعد منها في رؤية لها خصوصيتها، وقراءة النص الشعري بهذه الصورة يهيئ للقارئ الوقوف على التشكيل الجمالي والمعنى الرمزي لصور الشعر، ويمهد طريقاً لاستبطان رؤية الشاعر، وكيفية إدراكه للواقع من خلال ما ينشئ من أبنية وعلاقات.